أحمد الطيب زين العابدين (المهدي غير المنتظر الذي استتر) .. قول على قول وقص أثر أحرف من ذهب

 


 

 

• بدءاً الشكر أجزله، والتقدير أوفره للإذاعي الألمعي صاحب الصوت الآسر والناقد الفني الفذ الأستاذ صلاح شعيب، أن لفت انتباه المهتمين بالثقافة والأدب الرصين، إلى تحفة أدبية باذخة، لو لا نباهته وحسّه الفني العالي لأستتر عن الساحة كما أستتر المهدي غير المنتظر البروفسير أحمد الطيب زين العابدين حسب توصيف صديق عمره البروفسير عبد السلام نورالدين، تلك القطعة الأدبية الرفيعة هو النعي الاستثنائي الذي جاء ضمن سفره البديع (كتاب الأحزان في السودان) حيث رثى بروف عبدالسلام الراحل المقيم "الكجور" كما اطلقه عليه رفاقه حركياً في كلية الفنون الجميلة سابقا، الذي استتر أبدياً وتوارى عن مسرح الحياة إلى غير رجعة في يناير 1998م.
• ولأن تلك المرثية عبارة عن تحفة أدبية رفيعة السبك، باذخة المحتوى رغم الحزن ولوعة الأسى، لها أفنان مفرّهدة، عنّ لنا تتبع تلك الأغصان المعرفية، للمزيد من التعّرف على عوالم الراحل المقيم، وعلاقاته الإنسانية والمهنية، وصلاته المكانية والجغرافية، ولتتبع تلك البراعم الإدراكية، استطلعنا بروف عبدالسلام نورالدين، الكاتب والاكاديمي عبر حوار استيضاحي، إلى جانب إجراء بحوث توثيقية لبعض الإعلام الجغرافية والإنسانية، بغية قص أثر ما ورد في معرض نعيه لعدة أماكن ذات دلالات رمزية، وتطرقه لعدة أشخاص بصورة عابرة حسب مقتضى الرثاء، لذا رأينا من الفائدة تسليط مزيدا من الأضواء عليهم، لأن الراحل المقيم بروف أحمد الطيب زين العابدين، عميد كلية الفنون الجميلة، عبارة عن مجرّة دارت حوله كواكب نيره.
من أم كدادة ومشارف قوز بعشوم ومسارح قرى البَزَعة في دار الريح، إلى اللّعيت جارالنبي والطويشة في دار الصعيد، ومن مهاجرية وبئر تولوtooloo غرباً، إلى أم شنقا وجبل حلة وود بنده شرقا، هذه المساحة الشاسعة والقيزان الممتدة، تمثل مراتع نشأة وفضاءات ترعرع الراحل المقيم البروف أحمد الطيب زين العابدين، حسبما ورد في رثاء صديقه بروف عبدالسلام نورالدين، وهو فضاء جغرافي ينحاز ثقافيا إلى مزاج الأبّالة والغنّامة، في توازٍ مع ثقافة البقّارة جنوباً، من حيث سرعة الإيقاع ورثمrhythm الاستعراض الرقصي، ولا غرو أن يكون غناء ورقصة الجرّاري مع الصفقة هو التراث الشعبي المفضّل والطاغي بالمنطقة، بالإضافة إلى الدلّوكة، ومن الملاحظ أنّ إيقاع الدلوكة يزداد سرعة كل ما توغلت شرقاً في دار الحمر.
وحسب البروف عبد السلام نورالدين، الرقصات المفضلة لدى الحمر كانت التوية والحسيس والكدنداية وعجيلة والطمبور الذي قدمه البديرية والزنارة والجوامعة بالإضافة إلى الجراري بإيقاع الصفقة، وهذا ما يؤكد أنّ أصل الدلّوكة كآلة طبل، بالإضافة إلى السُكسُك أو السوميت والريش كجزء من الفلكلور الشعبي أصولها أفريقية بحته.
• ومن الرقصات التراثية المحببة في المنطقة، رقصة الهَجوري (بتخفيف الواو) وهي من الرقصات التي تعتمد على النط أو القفز الثنائي أو الجماعي الرشيق للجنسين مع التصفيق أو بدونه، وفي بعض المناطق تصاحبها همهمات رجولية متزامنة مع القفز أو النط، مثل ما تفعل شعوب أفريقية كثيرة كالدينكا في جنوب السودان والماساي في كينيا، وهي ذات شعبية واسعة النطاق تمتد إلى أقاصي شمال وغرب دارفور. ويعتبر إيقاع رقصة أو لعبة الهَجوري ضمن إيقاعات الجرّاري، إذ فيها قدر من محاكاة إيقاع مسير الإبل.
ومن خلال مجموعته القصصية "دروب قرماش" من الصعب أن يفصل القارئ بين شرق دارفور وغرب كردفان، تناولها الراحل كبيئة ثقافية واجتماعية واحدة، وليس بمستغرب أن تجد في مدينة النهود، عاصمة غرب كردفان حي أسمه حي الطويشة.
• ورد ضمن الحيز المكاني الذي للراحل فيه أهل ومنتاب، منطقة أم شَنقا (بفتح الشين، وتسكين النون، والقاف العجمية) وهي أول بلدة على حافة الحدود الشرقية لسلطنة دارفور القديمة، تابعة حاليا لمحافظة أم كدادة، بولاية شمال دارفور، دارت فيها أول معركة بين الجيش الإنجليزي الغازي لسلطنة دارفور، وجيش السلطان على دينار في مارس 1916م. بها خندق أثري حُفر بدقة، من قبل الجيش المصري أثناء غزو السلطنة في عهد إسماعيل باشا، وتأتي أهمية منطقة أم شنقا للغازي الإنجليزي كونها المنقطة الوحيدة التي بها آبار مياه حينذاك، بالإضافة لوجود الخندق، لذا تم اختيارها كنقطة ارتكاز رئيس، ومحطة إمداد لوجستي لتجريدة الجيش الإنجليزي الغازي.
وأم شنقا، أسم لنوع فتّاك من الحراب، لها أسنان معكوفة على الجانبين، يبدو أنّ المنطقة كانت تشتهر بصناعتها في زمنٍ غابر، ومن أنواع الحراب المعروفة، كوكاب، لذا لا غرابة أن تجد كثيرين من الأشخاص يلّقبون بها في المنطقة.
كذلك ورد ذكر بئر تولوTooloo، وهي بئر اثارية لا تزال باقية، تقع شمال غرب مدينة الطويشة بولاية شمال دارفور، نزل بها السلطان تيراب بجيشه العرمرم أثناء تجريدته لتأديب ابن عمه هاشم بن مسّبع سلطان المسبعات في كرفان حوالي 1786م
• وحين ذكر بروف عبدالسلام نورالدين، تجار الفول والسمسم والأنقارا (بفتح الألف وبتسكين النون والقاف العجمية) وهو الكركدي الأحمر القاني، حين أورد ذلك، لا شكّ أنّ في مخيلته ابن عم الراحل ونسيبه "شقيق زوجته دُخرية" السيد موسى حسب الله، المعروف حركيا في عالم رجال الأعمال بموسى كَشَكَنّا، وهو من أوجه وجهاء مدنية اللّعيت جارالنبي الفاتنة، يبز الجميع في ميدان الفكاهة، وروح الدعابة، والأريحية غير المصطنعة، له التحية التجلة والتهلال.
• أما "العجوز" زهره، التي تعلق بها الراحل كما لم يتعلق بغيرها، وجاء ذكرها في متن نعي الراحل، هي عمته ووالدة زوجته دُخريّة، وهي سيدة عزيزة تمثل صورة للنساء في دارفور وكردفان الودودات الحنونات الطيبات الكريمات.
• وحسب بروف عبد السلام نورالدين، فإنّ الراحل المقيم بروف أحمد الطيب زين العابدين، بمثابة حلقة وصل متينة، يربط عدة حلقات من الدوائر الاجتماعية والثقافية والسياسية، تجلّت هذه الصلات الواسعة والمعّتقة، عندنا أصيب الراحل بالجلطة الدماغية في 1989م استدعت حالته علاجه بالقاهرة، إذ تدافع زملائه ومعارفه من كل حدبٍ وصوب للتكّفل بالنفقات العلاجية، وكان د. علي حسن تاج الدين ورجل الأعمال الراحل صلاح مطر من اكثر المتبرعين سخاء وقد كان د. علي حسن ابانئذ نائبا لرئيس مجلس الدولة، فاهتم وتبرع من ماله الخاص رغم اختلافهما في كثير من وجهات النظر السياسية.
• ويضيف بروف عبدالسلام، أنّ "الكجور" كانت شخصية عصامية، متعددة العلاقات والصلات والمواهب بصورة لم يرَ لها مثيل، شخصية لها حلقات ودائر متعددة، يطوفون حوله ويطوف حولهم، وكان منزله المفتوح بالخرطوم جنوب، يشكل ملتقىً عامرا لطيف عريض من مكونات المجتمع السوداني، من "قبيلة التشكيليين"، والمثقفين الأكاديميين، والشعراء والأدباء، أمثال صديق أمبده، والطيب إبراهيم وأبوا لقاسم سيف الدين وخالد محمد إبراهيم وصلاح مطر وشريف مطر والأمين محمد عثمان وشبر ومن الشعراء عالم عباس محمد نور ومحمد عثمان كجراي ومبارك ازرق وكثير ممن لا يتسع المجال لذكرهم، وتعتبر دار الراحل نزلا دائما لأبناء دارفور من التجار القادمين للعاصمة والمغتربين، وسائقي اللواري، أصدقاء شقيقه مهدي الطيب زين العابدين، ومن الجنوبيين الذين كانوا ضمن كيان تضامن قوى الريف، أمثال د. لام أكول، وكان هذا الملتقى عامراً طوال الوقت، وطوال فصول السنة.
ولا غرو في ذلك، إذ أنّ الراحل فوق كونه أستاذا ومربي أجيال، يعتبر رمزاً سياسياً شامخا، كأحد مؤسسي جبهة نهضة دارفور في الستينات، ومن مؤسسي كيان تضامن قوى الريف بعد إنتفاضة رجب أبريل عام 1985م
• وحسب بروف عبد السلام أنّ "الكجور" يعنى الحكيم، أو المتصوف في الثقافات غير الإسلامية، وهو الشخص الذي يجمع الناس عن طريق المودة، أي الشخص المقدس، وكان الراحل يمثل بحق هذه الشخصية في جانبها الاجتماعي والثقافي.
• وأشار برف عبدالسلام إلي أنّ الراحل كان من منظري ومؤصلي "السودانوية" وهي احدى النظريات الأساس التي راجت في مجتمعات الثقافة السودانية في النصف الثاني في القرن العشرين، كما شارك أحمد الطيب في مدرسة الخرطوم التشكيلية بوصفه ناقدا حصيفا لمقولاتها ولتصوراتها في مقومات الشخصية السودانية واضحى ذلك النقد مقدمته لمقومات "السودانوية".
• وأضاف بروف عبدالسلام، صعدت في النصف الثاني من عام 1963 مدرسة الغابة والصحراء ذات الدوي للثلاثي النور عثمان ابكر الذي سك لها الاسم الذي عرفت بعدئذ به ومحمد المكي إبراهيم شاعرها الفذ وعبدالمجيد عبدالرحمن المجيد والمقل في ذات الوقت والأخير تعود جذوره إلى جبل حِلة وهي منطقة بالناحية الشرقية لمحافظة أم كدارة، ثم انبهر بتلك المدرسة وبرؤيتها وبكل الثلاثي محمد عبد الحي والتحق بها واضحى للغابة والصحراء نفوذا نافذا في الحركة الأدبية والفكرية في السودان ولما سطعت أضواء مدرسة أبادماك في خواتيم عقد الستين خفتت شعل الغابة والصحراء.
• وكما صك الشاعر النور عثمان ابكر المسمى: الغابة والصحراء، وأصّل لها الشاعر محمد المكي إبراهيم، فإنّ نظرية السودانوية، صكها نور الدين ساتي، وأصّل لها بروف أحمد الطيب زين العابدين، حسب تأكيد بروف عبد السلام نورالدين.
والسودانية بالنسبة للراحل بروفسير أحمد الطيب زين العابدين مسألة وجود، والوعي بالوجود، ركز خلالها على الخصائص الأساس في الشخصية السودانية، وبحسب بروف عبدالسلام، لا تزال نظرية السودانوية لها فاعليه وحضور ممتد.
• وكما كان الراحل من مؤسسي جبهة نهضة دارفور، وقوى تضامن قوى الريف، ومؤصل لنظرية السودانوية، فقد شارك في تأسيس الجامعة الأهلية مع البروفسير محمد عمر بشير، كما شارك مع عبدالسلام نورالدين وإسماعيل محمد ادم في تأسيس دار النسق للنشر والطباعة والمكتبات.
المخلخلين، تعني "المبشتنين" أو غير المرتبين، والملغلغين أو اللغالغة هم أهالي جنوب الجزيرة العربية في اليمن الشمالي وجنوب المملكة العربية السعودية، الذين ينطقون حرف القاف قافا G في وصف أبناء دارفور أثناء عبورهم وعودتهم من المهاجر إلى ديارهم في الفاشر والطويشة واللّعيت جارالنبي والضعين ونيالا وجبل مرة، ومن السمات الأساسية في ثقافة دارفور، الدعابة والسخرية والطُرفة، والمشاهد القصصية والحكايات والتصاوير الكرتونية بالألفاظ ومنها تقفز صورة البدوي" الملخلخ "على سنام بعيره النافر الضارب في السهوب لا يلوي على شيء، وكان الراحل قاصا وحكاءً من الطراز الأول، فالملخلخين والملغلغين كانت ضمن القصص البريئة المتداولة وسط ضيوف الراحل من أبناء المهجر في منزله.
• يرجع بروف عبدالسلام نورالدين الذائقة الجمالية للراحل بروف أحمد الطيب زين العابدين إلى أم كدادة كمنطقة مستقّرة، كما أنّ الراحل الروائي الكبير إبراهيم إسحق من منطقة ودعة المستقّرة جنوبي أم كدادة، ويضيف، ولا شكّ أنّ الراحل قد تشرّب ذائقة الجمال مبتدأً من كنف والده وصديقه الشيخ الطيب زين العادين، فهو فارع الطول، أنيقا، يهتم بالتفاصيل الجمالية، لدرجة أنه يرى أنّ ترزية أم درمان لا يجيدون تفصيل الجلاليب الرجالية الفخمة، مثلما يفعل "الأسطوات" في أم كدادة.
• الراحل المقيم البروفسير أحمد الطيب زين العابدين، المهدي الذي لم يعد ينتظره أحد منذ استتاره أبدياً في يناير 1998م، خلّد ذكراه العبق بإنجازات من ذهب، في ميادين شتى، وساحات ليس لها حدود، شقّ طريقه وسط الزحام، وعبّد مساراته بالمثابرة، استحق مشيخة "الكجور" الإنسانية بقلبه الكبير، وعقله الأكبر، وتأّهل للمحورية الاجتماعية بسماحته المتدفقة وكرمه الفياض، وأسرته الكريمة والودودة.
له الرحمة الواسعة، ولزميله المخلص والوفي البروفسير عبدالسلام نورالدين التجّلة والعرفان، والذي بدوره، ثمّن وأكبر تجليات الأستاذ صلاح شعيب، الذي عرف قدر الراحل، وبذل ما في وسعه لإصباغ ما يستحقه من الاهتمام بشخصيته، والاحتفاء بإنجازاته الثرة، ونفض الغبار عن أرثه الإنساني الخالد، والذي كتب بروف عبدالسلام شذرات عطرة منها، في نعيه الراحل تحت عنوان:
أحمد الطيب زين العابدين (1937 ـــ 1998م)
المهدي غير المنتظر الذي أستتر
له وصلاح شعيب منا التحية والتقدير،،،
في 24 أغسطس 2022م

ebraheemsu@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء