أزمة الحكم في السودان… النخب المركزية والطعن في ظل الفيل!

 


 

 

بقلم: إبراهيم سليمان

ابتداءً من مؤتمر الخريجين في العام 1938 وانتهاءً بمشروع الدستور الإطاري عام 2023م وإلى يوم الناس هذا، ظل المفكرون من النخب المركزية، يلفون ويدورون حول تشخيص مشكلة الحكم في السودان، جيل بعد جيل، يلوكون ذات الأعراض، بصياغات مغايرة. هنالك مئات الكتب ألفت، ومئات الورش والمؤتمرات التي عقدت لهذا الشأن، ولا تزال المشكلة تراوح مكانها، بل دخلت في متاهات، غير مسبوقة في التاريخ السياسي للبلاد، باندلاع حرب 15 أبريل 2023م
نذكر من المفكرين الذين صدرت لهم مؤلفات أو محاضرات مشهودة عن أزمة الحكم في السودان، ابتداءً من محمد أحمد المحجوب، وأحمد خير المحامي، ود. منصور خالد، ومحمود محمد طه، وأبو القاسم حاج حمد، وجعفر محمد على بخيت، والشريف زين العابدين الهندي ود. بونا ملوال ود. "جون قرنق" ود. الشريف حرير ود. أبكر آدم إسماعيل وفتحي الضو وانتهاءً بالدكتور النور حمد.
خلاصة الناتج الفكري لهؤلاء الكوكبة من النخب المركزية، لم تحيد عن تشخيص المعضلة السياسية للبلد، ولم تتهرب عن تحديد الوصفة العلاجية لها، إلا أنهم بكل أسف ووضوح لم يكونوا على استعداد لدفع التكاليف السياسية والاجتماعية المستحقة للوصفة الناجية للبلاد من الانهيار والتلاشي، كبلد راشد وموحد وجداناً وأرضاً. وبذلك يتلخص مرض الدولة السودانية، في "أنا النخب السياسية المركزية"، وهو يمثل القاسم المشترك بين خلاصات كافة الدراسات الجادة في هذا الشأن، رغم اختلاف الحلول المطروحة.
عرّف د. منصور خالد النخب المركزية "أنهـم الأقلية الاسـتراتيجية المؤثـرة فـي المجتمـع السـوداني". وذكر من صفاتهم "تصدع الذات" الذي يقود بدوره إلى الفجوة بين الفكر والممارسة. وهي من أسوأ خصائص النخبة وقد فشلوا في التخلص منها على مرّ التاريخ.
عندما تمنح النخب الحاكمة، الحكم الذاتي لجزء من مكونات السودان، لم يأتِ ذلك عن قناعة باستحقاقهم لذلك، بقدر ما هي محاولة لامتصاص الغضب السياسي، وسرعان ما تتراجع عنه. وعندما تنتهج الحكم الإقليمي أو الفدرالي، يظل هذا الخيار مجرد يافطة، أو شعار للتخدير السياسي، وتظل المركزية القابضة مسيطرة على كل شيء، سياسياً واقتصادياً وثقافياً. وصف د. النور حمد هذه الظاهرة من "الأنا" إصدار النخبة على فرض مفهوم "الوحدة في إطار التماثل". وعندما تمنح بعض الحقائب الوزارية السيادية لأبناء الهامش، لإيهام الناس بمشاركة السلطة، يظلوا "تمامة جرتق" ليس إلاّ، ويظل القرار السياسي حكراُ لدوائر نخبوية مركزية ضيقة. وفي ذلك هزيمة ماحقة للمؤسسية.
تجد النخب المركزية، تتشدق بالحكم المدني ــ الديمقراطي، وتزايد بمعادات الأنظمة الشمولية، لكنها لا تتحرج في التعاطي معها، ومشاركتها الحكم بذريعة سلطة الأمر الواقع! فلا غرابة أن تجد الأستاذ أحمد خير المحامي، صاحب فكرة مؤتمر الخريجين، يتقلد منصب وزير الخارجية في حكومة الفريق إبراهيم عبود الشمولية، انتقاماً لذاته، وتشفياً لتجاهله من قبل الحكومات الطائفية ما بعد الاستقلال، ذلك ابتداءً، وليس انتهاءً، أن يتمرس الحارث إدريس، المنتمي لحزب الأمة القومي (الديمقراطي الهوى والمشرب) بمنصبه كمندوب دائم للسودان لدى الأمم المتّحدة ممثلا للنظام الإنقلابي بعد تقويض الحكم المدني الانتقالي لثورة ديسمبر المجيدة، وظل يدافع عن الانقلابين بتشنج يثير الدهشة والشفقة، ليجسد الأنا السياسي، وانتهازية النخب المركزية في أبهى تجلياتها. لكن من شابه آبائه السياسيين، فما ظلم. وصف د. منصور خالد هذه الظاهرة بــ "الارتداد عن الشعارات".
أحمد خير والمحامي والحارث إدريس، مجرد نموذجين من الانتهازية السياسية لحقبتين مختلفتين، ولا يمكن النظر إليهما كمواقف شخصية، بل ليس بمقدور أي تنظيم سياسي المزايدة، بعدم مشاركة الأنظمة الشمولية القمعية، ومع ذلك لم يفتأوا يشتمون الشمولية، ويحملونها خطيئة فشل الدولة السودانية، في نفاق سياسي مفضوح للنخب المركزية.
هنالك عدة بيوتات طائفية، ظلت مرتبطة بالدولة على مرّ الحقب، وتستميت للحفاظ على هذه العلاقة مهما كلفها الأمر، ولا نظن أنهم على استعداد للنزول لمستويات عامة الشعب، في الحقوق والواجبات، يستميتون للتربح بالألقاب الأسرية، وهي أحد مظاهر "الأنا السياسي والاجتماعي" التي تعيق انتشال الدولة السودانية من وشك الانهيار.
على مرّ التاريخ، النخب السياسية المركزية، تطعن في "ظل الفيل" وتلعن الأنظمة الشمولية، وتباري مواجهة أنفسهم الأمّارات بالسوء، المترعة بالأناء، وحب الذات، وتتحاشى التواضع على مشاركة السلطة والثروة مع بقية مكونات الشعب السوداني، والاعتراف بثقافات الآخرين، والتوقف عن استغلال آلة الدولة السودانية، لخلق تماثل ثقافي بإدخال الآخرين في قوالب "حقيبة الفن ودكان ود البصير"، والتوقف عن الرضاعة المنهكة من خزانة الدولة، وهي في الحقيقة، عرق جبين المنتجين في قرى الريف السوداني العريض.
وصف د. منصور خالد "الأنا" التنموي بــ "ورثـة عرجـاء" قائلاً: "لقـد أورث الاسـتعمار أهـل السـودان، اقتصـادا ظللنـا نصفـه بالاختـلال وعـدم التـوازن لأنه قـام علـى تركيـز الاسـتثمار فـي أكثـر المناطـق تأهيـلا عائـد مـادي بأقـل النفقـات.. قـاد هـذا بـدوره إلـى ثنائيـة عرجـاء، إقليـم واحـد يسـتأثر بنصيـب الأسد مـن الاسـتثمار وأقاليـم عـدة فـي التخـوم النائيـة فـي الجنـوب والشـرق والغـرب لا تلقـى إلى الفتـات"
وقد اتفق معه أبو القاسم حاج حمد في ذات التشخيص، رغم أنه أجد مبرراً لهذا، وألقى باللائمة على الاستعمار.
لكن الآن، وبسبب استيطان المرض العضال، تحولت مشكلة السودان، من أزمة نماء، إلى أزمة بقاء.
كما أنتقد د. منصور أيضاً اسـتئثار أهـل الشـمال فـي الديمقراطيـة الثالثـة بالمناصـب، وكان أكثر وضوحاً في إشارته إلى "الأنا" حين قال: "راهننـا السياسـي الـذي تتجاذبه الرغائـب الفئويـة والأيدولوجية للنخـب المتصـدرة المجـال السياسـي"
أما المفكر ذائع الصيت د. النور حمد في إجابته على التساؤل عن ماهية الأزمة السودانية الذي جاء كعنوان لكتابه: أزمة الحكم في السودان (أزمة هيمنة أم هيمنة أزمة؟)، فقد خلص إلى "أن الأزمة هي أزمة هيمنة؛ أي هيمنة النخب المنتمية إلى الثقافة العربية الإسلامية، والذين أسامهم بـ "الجلابة" على قيادة البلاد وفقا لمصالحها، وتهميشها للإثنيات والثقافات الأخرى"
عليه، نعتقد لا حاجة للبلاد في تضيع الوقت في البحث عن جذور أزمة الحكم في السودان، وينبغي تكريس الجهود في السبل الكفيلة بفك أو حل "أزمة الهيمنة"، أو الانفكاك من حالة "الأنا" النخبوي بمفهومه الشامل (الأنا الاجتماعي، والتنموي والثقافي) للأفراد، والكيانات والاعتبارية، والجهويات التي تمثل الحواضن الاجتماعية للنخب المركزية.

ebraheemsu@gmail.com

//إقلام متّحدة ــ العدد ــ 172//

 

آراء