أزمة الحوار الوطني في السودان

 


 

 


ahmedgubartalla@yahoo.com



شهد السودان خلال الأشهر القليلة الماضية اطروحات ومساجلات كثيرة تدور حول موضوع  الحوار الوطني ، بغرض السعي للخروج بالسودان من الأزمة السياسية والاقتصادية والأمنية المتلازمة والتي تكاد ان تؤدي بذلك البلد الى حالة من الانهيار التام . ولا يختلف اثنان في ان الأزمة السودانية قد بلغت  مدى يصعب فيه للجسم السياسي السوداني ان يستمر في كيان واحد لان مقومات الاستمرار بنظام الحكم الاقصائي والمنكفئ على شعارات وهمية لم تعد موجودة .   ويتعين على اهل السودان الإسراع في الخطى للتوافق على صيغة عصرية وشفافة وراشدة وديمقراطية لنظام حكم ينتمي الى القرن الحادي والعشرين ويحقق مطالب المواطنين في التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية  التي تقوم على المواطنة " السودانيوية " وحدها ، بعيدا عن الأطروحات الهلامية التي ثبت انها سباحة عكس تيار الطموح الانساني وأنها لا تورث سوى الحروب والفقر والتشرد.
ان الحديث عن " حوار وطني " في السودان يجب الا يكون مسرحية عبثية او شعارا  تلوح به السلطة كلما ضاقت بها السبل كما انه ليس بالحدث المنعزل  ولكنه "عملية " سياسية تتطلب وضوح الرؤية والالتزام والعمل الدؤوب من اجل  الوصول الى نظام حكم يتعارف عليه المتحاورون  .
ان ما افرزته تطورات اعلان الحوار الوطني من  قبل السلطة الحاكمة وردود أفعال المجموعات المختلفة في المعارضة والكثير مما تناولته وسائل الاعلام السودانية ، كلها تنبئ  بخلل كبير في التعامل مع خيار الحوار الوطني  ، وواضح ان الكثير من  الخلط والضباب  يحيطان  بمفهوم الحوار الوطني وآلياته والهدف من ورائه . والدليل على ذلك ما نراه من تعثر وانسداد في قنوات هذا الحوار الى درجة  تجعل طرحه كشعار لا يعدو كونه مسالة تكتيكية اريد بها كسب الوقت لإجراء انتخابات لا تختلف عن سابقاتها ، لان شروط الحوار ومتطلباته ما زالت غير متوفرة حتى الان .
عليه فإننا سنطرح بعض النقاط التي تعارفت عليها الاسرة الدولية في عمليات اجراء الحوار الوطني ،  ولنكن على وعي بان السودان لا يتعين عليه "اعادة اختراع العجلة" في الاضطلاع بهذا الحوار لأن التجارب الدولية في دول حالتها مشابهة للسودان تساعدنا على بلورة هذه النقاط .
اولا :عمليات الحوار الوطني ترتبط ارتباطا عضويا بالمراحل الانتقالية في أنظمة الحكم. بمعنى ان الدخول في الحوار الوطني ينطلق من توافق بان النظام الحاكم لم يعد يتسق مع رغبات وطموحات اهل البلد وعليه ينشأ الطلب للانتقال منه الى نظام حكم يعبر عن الإرادة الوطنية العريضة .
ثانيا : لا بد من التفاهم حول القصد واطار  المنتج النهائي لعملية الحوار وذلك في شكل اعلان للمبادئ او اطار عام يتحدث عن الملامح الهيكلية والموضوعية للدولة ومؤسساتها ومن ذلك السعي لإقامة نظام ديمقراطي يعززه حكم القانون وتحكمه مؤسسات منتخبة ووضع أسس تساعد على صياغة دستور عصري ينبني على حقوق المواطنة وحقوق الانسان  والتنمية المتوازنة والمستدامة،   وهذا ليس بالأمر السهل لانه  يستوجب حوارا جادا تنخرط فيه السلطة الحاكمة وحزبها مع كل الاحزاب الاخرى ومنظمات المجتمع المدني وغيرها من الكيانات الفاعلة في المجتمع .
ثالثا: ضرورة تكوين "لجنة تحضيرية " ذات طبيعة فنية لهذا الحوار يناط بها مهام محددة مثل اقتراح المعايير التي ينبني عليها اختيار المشاركين في الحوار، وتحضير المسودة الأولية لجدول اعمال الحوار واجراءاته، وتكوين سكرتارية لدعم عملية الحوار والقيام بمهمة التحضير للجوانب الادارية واللوجستية لعملية الحوار.
رابعا : لا بد من الاتفاق  أيضاً على آلية ذات شخصية اعتبارية وقومية تكون بمثابة نقطة  الارتكاز لهذا الحوار . وهنا لا يستقيم ان تكون هذه الآلية واقعة تحت سيطرة او نفوذ الطرف الحاكم في الحوار ،  بمعنى ان تكون هيئة من شخصيات وطنية مرموقة تتميز بالنزاهة والمعرفة والخبرة ولا تنتمي بصورة ما الى الأطراف السياسية المتحاورة . هذا امر مطلوب لكي تكون الهيئة مستقلة وفاعلة وان تتسم بالقومية والموضوعية مع مراعاة تمثيل المناطق الجغرافية او المجموعات الثقافية في هذه الهيئة . وحتى الان فمن الواضح ان الحديث عن الحوار في السودان لم يستوعب خطورة  ومعايير تشكيل مثل هذه الآلية .
خامسا : اهمية تحديد اطار زمني معقول لعملية الحوار لإعلان مخرجات هذه العملية ويتم هذا التحديد بعد حصر القضايا التي سيشملها الحوار والجهود الفنية والموضوعية التي ينبغي بذلها خلال مسيرة الحوار بما في ذلك الاعمال التحضيرية التي تشمل حصر الجهات المشاركة في الحوار وصياغة بعض القواعد الإجرائية للحوار على مستوى الجلسات العامة وعلى مستوى مجموعات العمل والاطلاع على التجارب الدولية لحالات مماثلة ( تونس واليمن  وتوجو والكونغو برازافيل ومالي  ...الخ) ، وغير ذلك من المتطلبات. والقصد هنا الا يعتقد المتحاورون ان العملية التحاورية لا سقف لها في حسابات الزمن بالنسبة لمتطلبات انقاذ الوطن وخروجه من ازمته السياسية . ومما يجدر ذكره ان الامم المتحدة وبعض المنظمات المعنية بالحوار الانساني قد اصبح لديها القدرة لتقديم العون الفني لمثل هذه الحوارات دون التدخل في الموضوعات ومجرى المداولات أوتوجهاتها أومخرجاتها .
سادسا : على المتحاورين ان يفهموا الصفة الإلزامية لمخرجات عملية الحوار الوطني لانها ستفضي الى نظام سياسي جديد لا  انفراد فيه بالسلطة لفئة معينة كما يتعين عليهم ان يدركوا العلاقة بين مخرجات الحوار والمؤسسات السلطوية القائمة عند بدء اجراء الحوار. وهنا لا بد ان يكون هناك تفاهم يحدد هذه العلاقة حتى لا ينقلب المتحاورون على مخرجات الحوار ان لم ترق لهم او جاءت على خلاف تمنياتهم وتوقعاتهم .
تلك بعض النقاط المهمة في عمليات الحوار الوطني من واقع الخبرة الدولية . وبالطبع هي ليست حصرية في سردها ولكن يمكن  اعتبارها اهم الممارسات الحاكمة لعمليات الحوار ولا شك ان كلا من البلدان التي تسعى لمثل هذا الحوار تستنبط بعض الإجراءات والممارسات التي تلائم أوضاعها حتى يكون الحوار نافعا ومفضيا الى نتائج سياسية تعالج الأزمة التي ادت الى الانخراط في حوار وطني شامل  . ولا بد للسلطة الحاكمة ان تتخذ مبادرات في اتجاه تامين الحريات العامة التي تمكن الفئات السياسية المختلفة من المشاركة الفعالة في عملية الحوار لان اجواء حظر الحريات وانتهاك حقوق الانسان لا يمكن ان تهيئ جوا للحوار .
ان السودان قد وصل الان الى قمة الأزمة السياسية ولا بد له من الخروج من هذه الأزمة بالحكمة السياسية التي تقوده الى صيغة قومية شاملة لكل قواه السياسية لان البديل عن ذلك هو شر مستطير لن يبقي بعده سودان يحكمه سلطويون او معارضون .

 

آراء