أسود الأطلس: انتصارات تاريخية دون سابق
د. محمد بدوي مصطفى
13 December, 2022
13 December, 2022
المغرب ... أنا الذي نَظَر َالأعمى إلى كُرَتِي وأسْمَعَتْ أهدافي من بِهِ صَمَم
المغرب أول منتخب عربي وأفريقي يصل إلى نصف النهائي:
واصل أسود الأطلس سلسلة إنجازاتهم التاريخية في بطولة كأس العالم ٢٠٢٢ بقطر، حيث وصلوا إلى الدور نصف النهائي لأول مرّة في تاريخ الكرة العربية والأفريقية على الإطلاق، ليصبح فريقهم واحدًا من المنافسين الحقيقين على لقب المونديال. وقد تفوق أسود الأطلس على الفريق البرتغالي المنافس في لقاء تاريخي، كان مشحونًا برمزيات كبيرة، بهدف دون مقابل، سجله المهاجم يوسف النصيري بضربة رأس خارقة للعادة حيث وثب، أو لنقل طار كصاروخ قاريّ ليفوق في علياه المدافع البرتغالي وحارس المرمى على حد سواء. وكان على أسود الأطلس المحافظة على هذا الانتصار حتى صافرة النهاية وقد طال هذا الوقت المتبقي وكانت أكثر دقائق حرجة في تاريخ الكرة المغربية على حد قول المعلق الألماني الفذ "بيلا ريتي". وقد فرض المدير الفني للمنتخب المغربي، وليد الركراكي، خطة دفاعية مُحكمة منذ بداية مشاركة المغرب في المونديال، وأثبتت هذه الخطة أنها قادرة على إيصال منتخب المغرب إلى مكان بعيد في المونديال، وفعلاً تلقت شباك "أسود الأطلس" هدفاً واحداً فقط في خمس مباريات، وكان عن طريق الخطأ أيضاً، وذلك يفسر ويرجح أن هذه الصلابة الدفاعية، التي تتفاعل وتتناغم مع بعضها البعض حتى عند تغيير بعض أفرادها، قادرة بأن تقود هؤلاء الأسود الضارية إلى النهائي ولما لا إلى اللقب؟ حسب تصريح اللاعب خضيرة في التلفزيون الألماني، أنه فخور بالمنتخب المغربي، لأنه أصوله هو أيضًا مغاربية، ويقول خضيرة، أن المنتخب المغربي يلعب بنظام وخطة محكمة وفوق هذه و ذاك بطريقة رائعة، وهو على كل حال قادر على أن يشكّل خطراً على جميع المنتخبات.
وداعًا كريستيانو:
وقد تمكن أسود الأطلس بهذا الانتصار التاريخي أن ينهوا حلم اللاعب الجبار كريستيانو رونالدو بالبقاء في المنافسات والصراع على الكأس واللقب الذي ظلّ هو الوحيد الذي لم يحز عليه طيلة حياته الكروية المزدحمة بالتألقات والنجاحات، تمامًا مثله مثل نجم الأرجنتين العالمي ليونيل مسي. وكان هذا الإنجاز بحد ذاته، قد سجل نفسه على صحائف التاريخ الغير مسبوقة على الإطلاق كأول منتخب عربي وأفريقي تمكن من الوصول إلى المربع الذهبي بجدارة وتألق. نعم فريق أسود الأطلس بات الآن أول منتخب عربي وأفريقي على الإطلاق يصل إلى دور نصف النهائي في تاريخ بطولات كأس العالم، وهو ما سيفتح الباب أمام إمكانية وصول فُرق عربية وأفريقية أخرى إلى المربع الذهبي في مونديالات المستقبل، لا سيما بعد كل النجاحات الخارقة للعادة والغير مسبوقة التي أحرزها لاعبو المغرب على أرض الجزيرة العربية. والجدير بالذكر أنّه لم يسبق لأي منتخب أفريقي خلال إثنين وعشرين نسخة متتالية من كأس العالم أن بقي مع آخر أربعة منتخبات تُنافس على اللقب الكبير. ويدين المنتخب المغربي بهذا النجاح، إلى تألق عديد من اللاعبين المميزين بداية بالحارس ياسين بونو إضافة إلى سفيان أمرابط وعز الدين أوناحي وغيرهم من اللاعبين الأبطال مثال حكيمي وغيره. وقد تلقى حارس منتخب المغرب ياسين بونو إشادة كبيرة من حارس فرنسا هوغو لوريس، وذلك بعد تألقه اللافت في بطولة كأس العالم 2022، وخصوصاً في اللقاءات الأخيرة ضد منتخب إسبانيا والبرتغال، ضمن منافسات ثمن النهائي وربعه. وعلق لوريس قائلاً: "لقد ساهم بونو في إنجاز المغرب التاريخي، والأكيد أنه ما زال لديه الكثير ليظهره في هذه البطولة، صدقا إنه حارس ممتاز وأعتقد أن دوره في تألق المغرب يعتبر كبيرا للغاية، وهو ما يعكس قيمته الفنية العالية". واختتم لوريس حديثه قائلاً: "أعتقد أن ميزة كأس العالم هذه تكمن في أنها شهدت تألق لاعبين لا ينافسون ضمن أندية كبيرة ربما، ولكنهم أثبتوا مهاراتهم، وياسين بونو أحدهم من دون شك". وهذا المقولة الأخيرة تعني، حتى ولو كان بعض لاعبي المغرب يلعبون في الدرجة الثانية أو الثالثة، فهذا لا يهم، لكن المهم، هو الروح، التفاني، الحرفية والوحدة التي جعتهم واستطاعوا بسببها اختراع حاجز الصوت. وهذا ما افتقد إليه لاعبي الفريق الألماني، الروح العالية والتفاني بلا حدود من أجل الوطن.
المونديال تحت أقدام الأمهات:
يا لها من فرحة ويا لها من سعادة غامرة أن نرى اللاعبين، على سبيل المثال المبدع زكريا بوفال يراقص والدته على أرض الملعب الخضراء، ذلك بعد التأهيل التاريخي لأسود الأطلس إلى نصف نهائي كأس العالم. رأينا كيف تحولت العلاقة بين اللاعبين وأهاليهم داخل الملاعب وكيف أثر ذلك في نفوسهم أولًا وفي نفوس العالم أجمع. حقيقة يا سادتي الجنة تحت أقدام الأمهات فما بالك المونديال. فبعد كل مباراة، تتسع حكايات وقصص لاعبي منتخب المغرب مع أمهاتهم وآبائهم، فمن وقعت عينيه على والدته أو أبيه، على أرض الملعب، هرول إليهما بعد صافرة النهاية، كما فعل مرارا أشرف حكيمي، وبين من عانق والده بحرارة كما فعل يوسف النصبري، في مدرجات الملعب. وقد لخص الزميل الصحفي المغربي النزيري هذه اللقطات وقال عنها الآتي:
"من الجوانب الإنسانية التي أثارت العالم، ارتباط نجوم أسود الأطلس بالأمهات أساسا، وهنا أحد أسرار التركيبة التدريبية لمدرب منتخب المغرب لكرة القدم وليد الركراكي، أي الشحن العاطفي، فإلى جانب اللعب للقميص، يشعر اللاعب أنه يلعب كطفل في حضرة والدته، وهذا يمنحه تحفيزا إضافيا، ببطارية إنسانية لا تنفذ في مخزونها، وبدوره مدرب المنتخب المغربي لكرة القدم وليد الركراكي وثقت عدسات المصورين عناقه الحار مع والدته في مدرجات أحد ملاعب نهائيات كأس العالم في قطر. ففي الثقافة الشعبية المغربية، ترتبط الأم بصورة ذهنية جماعية أساسها الاحترام الكبير جدا، وتقبيل اليد في السلام، والاولوية في كل مناحي الحياة، لأن المرأة في الثقافة العامة المغربية محط تقدير وخصوصا الأم والجدة وفي سيرة نجاح عدد من نجوم أسود الأطلس، قصص كفاح مرير ممزوج بالكد من أمهات مغربيات هاجرن إلى أوروبا لتوفير حياة لائقة لأبنائهم، ودعم يومي في سبيل جعل لعبة كرة القدم بوابة خلاص من الفشل والانحراف والإدمان كما أن الأمهات المغربيات في أسوأ الظروف التي عشنا فيها، أرضعن أبنائهن حب وطن واحد هو الأصل اسمه المغرب، فيختار اللاعبون أن يحلوا قميص منتخب المغرب بشكل إرادي، لأن الأم المغربية المهاجرة في أوروبا لا تحمل لوطنها الأصلي الا شرف الانتماء. وعلى ملاعب نهائيات كأس العالم في قطر، قدم الفرسان من منتخب أسود الأطلس عربون وفاء، باعتراف أمام عدسات الكاميرات العالمية، شيك اعتراف على بياض، أن النجاح تقف وراءه "لمويمة" أو "يما" أو "يمانينو" أي الأم وأمي في الشارع المغربي، خرج المغاربة للاحتفالات الشعبية العفوية الجماعية، ومعهم أمهاتهم في رسالة أخرى من الاعتراف المغربي بفضل الأم المغربية".
لقاءات كروية مشبعة بالرمزيات:
عكست مباراة المغرب واالبرتغال فرحة غير مسبوقة على الصعيد العربي والعالمي، تضامنًا من الفريق المغربي الذي برع، وأجاد في حرفيته ومهنيته وحبّه للقميص الذي يرتديه. إن هذا المنتخب الشاب لم يضعه أي خبير رياضي في الحسبان فضلًا عن الفرق المشاركة والمنافسة له. ولقد جاءت مباراة المغرب والبرتغال، في دور ربع النهائي ضمن بطولة كأس العالم ٢٠٢٢ المقامة بالدوحة مشبعة بالرمزيات بل مشحونة بها إلى درجة لا تفوت المشاهد ثاقب النظر والذكاء. ونجد درجة كبيرة من التشابه في تلك الرمزيات والتي انعكست أيضًا في مباراة دور ثمن النهائي ضد إسبانيا. هناك رمزيات جاءت ضمنًا وأخرى بيانًا، تجاوزت حدود المنافسة على الكرة المستديرة بين منتخبيّ دولتين ربطت بينهما قضايا تاريخية مصيرية على أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية وحتى على التراب المغربي، فمكادور، وسواحل الصويرة تشهد بالكثير من أحداث التاريخ. ولقد شرح الزميل أسامة أبو ارشيد في مقال له بعنوان (أبعد من انتصارات كروية عربية) طبيعة هذه الرمزيات حيث قال: "هذه الرمزيات هي ما حرّكت كثيراً من مشاعر الفرح والبهجة لدى المغاربة والعرب بالدرجة الأولى، وكثيرين من شعوب ما يسمّى العالم الثالث بدرجة ثانية. في السياق الجيوستراتيجي، كانت هذه مواجهة بين دولتين، تنتمي الأولى، المغرب، إلى عالم الجنوب، والثانية، إسبانيا/البرتغال، إلى عالم الشمال، مع كل ما يعنيه ذلك من فوارق حضارية وثقافية وسياسية وتكنولوجية واقتصادية بين الكتلتين. ولا يخفى هنا أن هذين الانتماءين المتوازيين يستدعيان تلك الفجوات والحساسيات، فعالم الشمال المترف بنى جزءاً لا يُستهان به من نهضته على أنقاض عالم الجنوب المنهوب وعلى حساب موارده وحرية إنسانه وكرامته. أما تاريخياً، فثمَّة احتكاكٌ بين البلدين لم يتوقف، وإنْ تغيرت المسميات والحدود والجهات الفاعلة."
الوصول إلى المربع الذهبي:
أجرى التلفزيون الألماني لقاءات عديدة مع مغاربة جاءوا ليشجعوا فريقهم، وكانت فرحتهم بالأمس، بعد الانتصار على الفريق البرتغالي، لا توصف. ذكرت شابة مغربية، أنها لا تصدق نفسها، وكأنها تعيش حلمًا لم تفق منه إلى الآن. وعكفت منذ وصولها إلى تمديد مواعيد رحيلها بعد كل مرحلة يلعب فيها المنتخب المغربي والآن تتفاءل بأن هذا الكأس العظيم سوف يحمله أسود الأطلس إلى أرض إفريقيا، أرض الجدود والأسود، أرض الإنسان الأول، أرض الحضارات المنسية والشعوب المنهوبة ومسلوبة القوى.
لذلك فقد مثّلت الجماهير المغربية نقطة القوة الرئيسية لأسود الأطلس في مونديال قطر 2022، بفضل حضورها المباريات بأعداد كبيرة، ومساندتها المستمرة للاعبين، خصوصاً في المواجهة الأخيرة أمام منتخب البرتغال، التي خوّلت لهذه النخبة المتميزة بقائدها وليد الركراكي بلوغ الدور ربع النهائي. وقد جاءت مساهمة الجماهير المغربية في التأثير على نتيجة مباراة الأمس وظل الجمهور المغربي والعربي بمثابة الرجل الثاني عشر في الفرقة، ولم يقف عن بث روح الجسارة عندما حميّ وطيس المعركة مع البرتغال وكافح أبطال المغرب عن مرماهم بكل بسالة وشجاعة وظلت شباكه نظيفة ودفاعه لا يقارع، وصار أفضل دفاع أو ترسانة مسلحة في العالم بأسرة. وذلك على عكس ما صرح به اللاعب البرتغالي أوتافيو حينما قال: "صحيح أن جماهير المنتخب المغربي كانت حاضرة بقوة في مباريات المنتخب بالمونديال، لكن كرة القدم تلعب على أرضية الملعب وليس في المدرجات". وأضاف لاعب خط الوسط، الذي يلعب دورًا أساسياً في فريق البرتغال: "سننزل إلى الملعب بـ11 لاعباً مقابل 11 لاعباً، فالجماهير لن تلعب معهم بالكرة، نريد الفوز بهذه المواجهة وبلوغ الدور نصف النهائي من البطولة". وإضافة إلى العوامل التكتيكية والفنية التي جعلت منتخب المغرب في قيمة بقية المنافسين، فإن منتخب المغرب يستمد قوّته من الدعم المعنوي الكبير الذي يجده من قبل الجماهير وكذلك عبر عائلاتهم التي تحضر النهائيات. وأكد أكثر من لاعب مغربي في تصريحات طوال البطولة أن وجود أمهاتهم وأفراد عائلاتهم يساعدهم كثيراً، ويدعمهم معنوياً ويحفّزهم على تقديم مستوى أفضل في كلّ مباراة. فشكرًا للجمهور المغربي وشكرًا للأسر التي كانت حاضرة وشكرًا لأفرادها الذين كانوا حضورًا في مواقع الحدث، فكم أتحفونا هم أيضًا بتلك الصور التي تثلج القلب وترفع من قيمة الأم، وكيف لا وهي مدرسة إذا أعددتها، أعددت شعبًا طيب الأعراق، وما عرفت أهل المغرب إلا هكذا يا سادتي، كشعب طيب الأعراق.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أنه مباشرة بعد نهاية المباريات، يتوجه لاعبو المنتخب المغربي إلى المدرجات من أجل تحية أفراد عائلاتهم وخاصة اللاعب أشرف حكيمي الذي يحرص كل الحرص على تقبيل والدته التي تشاهد ابنها البطل في هذا المونديال إلى جانب أفراد من عائلتها مثل شقيقه أو زوجته. ومن جهة أخرى برز مدرب "أسود الأطلس" وليد الركراكي، بإصراره أيضًا بعد كلّ مباراة التوجه إلى المدرجات وتحية والدته التي تحضر المباريات وقد تصرف على طريقة اختلفت عن تلك التي عكسها نجوم المغرب خلال هذه المنافسات بقطر.
خاتمة: مونديال قطر وحّد بين أفئدة الشعوب العربية:
في غضون الأسابيع الماضية وبدوحة الخير رأيناها تآلف وتكاتف الجمهور العربي في دعم الفرق العربية دعمًا معنونًا لا يقدر بثمن، وقد تجاوزت هاهنا الشعوب كل الخصومات وجلّ الاختلافات التي أنشأتها أنظمتها دون أن يكون لها في الأمر أي مسؤولية أو ذنب. وكما جاء الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني مهضوم الحقوق، فكانت أعلامهم ترفرف في سماء المباريات. لقد حمل مونديال قطر في طياته العديد من الرسائل الإيجابية إلى الأمة العربية، فقد أثبتت هذه الأمة أنها أمّة يجمعها المصير والتاريخ والمستقبل، ولا تفرقها الأحداث رغمًا عن كل الدسائس، بل ستظل أفئدتها سلمية صافية عند اللقيا. ونحن يا سادتي بحاجة إلى الانتصار في مجالات أكبر وأهم من كرة القدم، أن نستقل بأنفسنا، أن نجعل الديموقراطية واقعًا سياسيًا في بلداننا، وأن ننجز في مجالات العلم المختلفة، في العلوم الطبيعية والصناعات والبيئة وقبل هذا وذاك أن نحرر عقولنا من أمراض علقت بها منذ عهد الاستعمار. فشكرًا للمغرب وشكرًا لقطر فلولاكما لما اجتمعنا في دوحة الخير ولما تصافت القلوب على نهج المحبة العربية الخالصة، فمزيد من النجاحات ومزيد من التفوق. ويحيا المغرب وتحيا أسوده الأطلسية.
Mohamed@Badawi.de
///////////////////////
المغرب أول منتخب عربي وأفريقي يصل إلى نصف النهائي:
واصل أسود الأطلس سلسلة إنجازاتهم التاريخية في بطولة كأس العالم ٢٠٢٢ بقطر، حيث وصلوا إلى الدور نصف النهائي لأول مرّة في تاريخ الكرة العربية والأفريقية على الإطلاق، ليصبح فريقهم واحدًا من المنافسين الحقيقين على لقب المونديال. وقد تفوق أسود الأطلس على الفريق البرتغالي المنافس في لقاء تاريخي، كان مشحونًا برمزيات كبيرة، بهدف دون مقابل، سجله المهاجم يوسف النصيري بضربة رأس خارقة للعادة حيث وثب، أو لنقل طار كصاروخ قاريّ ليفوق في علياه المدافع البرتغالي وحارس المرمى على حد سواء. وكان على أسود الأطلس المحافظة على هذا الانتصار حتى صافرة النهاية وقد طال هذا الوقت المتبقي وكانت أكثر دقائق حرجة في تاريخ الكرة المغربية على حد قول المعلق الألماني الفذ "بيلا ريتي". وقد فرض المدير الفني للمنتخب المغربي، وليد الركراكي، خطة دفاعية مُحكمة منذ بداية مشاركة المغرب في المونديال، وأثبتت هذه الخطة أنها قادرة على إيصال منتخب المغرب إلى مكان بعيد في المونديال، وفعلاً تلقت شباك "أسود الأطلس" هدفاً واحداً فقط في خمس مباريات، وكان عن طريق الخطأ أيضاً، وذلك يفسر ويرجح أن هذه الصلابة الدفاعية، التي تتفاعل وتتناغم مع بعضها البعض حتى عند تغيير بعض أفرادها، قادرة بأن تقود هؤلاء الأسود الضارية إلى النهائي ولما لا إلى اللقب؟ حسب تصريح اللاعب خضيرة في التلفزيون الألماني، أنه فخور بالمنتخب المغربي، لأنه أصوله هو أيضًا مغاربية، ويقول خضيرة، أن المنتخب المغربي يلعب بنظام وخطة محكمة وفوق هذه و ذاك بطريقة رائعة، وهو على كل حال قادر على أن يشكّل خطراً على جميع المنتخبات.
وداعًا كريستيانو:
وقد تمكن أسود الأطلس بهذا الانتصار التاريخي أن ينهوا حلم اللاعب الجبار كريستيانو رونالدو بالبقاء في المنافسات والصراع على الكأس واللقب الذي ظلّ هو الوحيد الذي لم يحز عليه طيلة حياته الكروية المزدحمة بالتألقات والنجاحات، تمامًا مثله مثل نجم الأرجنتين العالمي ليونيل مسي. وكان هذا الإنجاز بحد ذاته، قد سجل نفسه على صحائف التاريخ الغير مسبوقة على الإطلاق كأول منتخب عربي وأفريقي تمكن من الوصول إلى المربع الذهبي بجدارة وتألق. نعم فريق أسود الأطلس بات الآن أول منتخب عربي وأفريقي على الإطلاق يصل إلى دور نصف النهائي في تاريخ بطولات كأس العالم، وهو ما سيفتح الباب أمام إمكانية وصول فُرق عربية وأفريقية أخرى إلى المربع الذهبي في مونديالات المستقبل، لا سيما بعد كل النجاحات الخارقة للعادة والغير مسبوقة التي أحرزها لاعبو المغرب على أرض الجزيرة العربية. والجدير بالذكر أنّه لم يسبق لأي منتخب أفريقي خلال إثنين وعشرين نسخة متتالية من كأس العالم أن بقي مع آخر أربعة منتخبات تُنافس على اللقب الكبير. ويدين المنتخب المغربي بهذا النجاح، إلى تألق عديد من اللاعبين المميزين بداية بالحارس ياسين بونو إضافة إلى سفيان أمرابط وعز الدين أوناحي وغيرهم من اللاعبين الأبطال مثال حكيمي وغيره. وقد تلقى حارس منتخب المغرب ياسين بونو إشادة كبيرة من حارس فرنسا هوغو لوريس، وذلك بعد تألقه اللافت في بطولة كأس العالم 2022، وخصوصاً في اللقاءات الأخيرة ضد منتخب إسبانيا والبرتغال، ضمن منافسات ثمن النهائي وربعه. وعلق لوريس قائلاً: "لقد ساهم بونو في إنجاز المغرب التاريخي، والأكيد أنه ما زال لديه الكثير ليظهره في هذه البطولة، صدقا إنه حارس ممتاز وأعتقد أن دوره في تألق المغرب يعتبر كبيرا للغاية، وهو ما يعكس قيمته الفنية العالية". واختتم لوريس حديثه قائلاً: "أعتقد أن ميزة كأس العالم هذه تكمن في أنها شهدت تألق لاعبين لا ينافسون ضمن أندية كبيرة ربما، ولكنهم أثبتوا مهاراتهم، وياسين بونو أحدهم من دون شك". وهذا المقولة الأخيرة تعني، حتى ولو كان بعض لاعبي المغرب يلعبون في الدرجة الثانية أو الثالثة، فهذا لا يهم، لكن المهم، هو الروح، التفاني، الحرفية والوحدة التي جعتهم واستطاعوا بسببها اختراع حاجز الصوت. وهذا ما افتقد إليه لاعبي الفريق الألماني، الروح العالية والتفاني بلا حدود من أجل الوطن.
المونديال تحت أقدام الأمهات:
يا لها من فرحة ويا لها من سعادة غامرة أن نرى اللاعبين، على سبيل المثال المبدع زكريا بوفال يراقص والدته على أرض الملعب الخضراء، ذلك بعد التأهيل التاريخي لأسود الأطلس إلى نصف نهائي كأس العالم. رأينا كيف تحولت العلاقة بين اللاعبين وأهاليهم داخل الملاعب وكيف أثر ذلك في نفوسهم أولًا وفي نفوس العالم أجمع. حقيقة يا سادتي الجنة تحت أقدام الأمهات فما بالك المونديال. فبعد كل مباراة، تتسع حكايات وقصص لاعبي منتخب المغرب مع أمهاتهم وآبائهم، فمن وقعت عينيه على والدته أو أبيه، على أرض الملعب، هرول إليهما بعد صافرة النهاية، كما فعل مرارا أشرف حكيمي، وبين من عانق والده بحرارة كما فعل يوسف النصبري، في مدرجات الملعب. وقد لخص الزميل الصحفي المغربي النزيري هذه اللقطات وقال عنها الآتي:
"من الجوانب الإنسانية التي أثارت العالم، ارتباط نجوم أسود الأطلس بالأمهات أساسا، وهنا أحد أسرار التركيبة التدريبية لمدرب منتخب المغرب لكرة القدم وليد الركراكي، أي الشحن العاطفي، فإلى جانب اللعب للقميص، يشعر اللاعب أنه يلعب كطفل في حضرة والدته، وهذا يمنحه تحفيزا إضافيا، ببطارية إنسانية لا تنفذ في مخزونها، وبدوره مدرب المنتخب المغربي لكرة القدم وليد الركراكي وثقت عدسات المصورين عناقه الحار مع والدته في مدرجات أحد ملاعب نهائيات كأس العالم في قطر. ففي الثقافة الشعبية المغربية، ترتبط الأم بصورة ذهنية جماعية أساسها الاحترام الكبير جدا، وتقبيل اليد في السلام، والاولوية في كل مناحي الحياة، لأن المرأة في الثقافة العامة المغربية محط تقدير وخصوصا الأم والجدة وفي سيرة نجاح عدد من نجوم أسود الأطلس، قصص كفاح مرير ممزوج بالكد من أمهات مغربيات هاجرن إلى أوروبا لتوفير حياة لائقة لأبنائهم، ودعم يومي في سبيل جعل لعبة كرة القدم بوابة خلاص من الفشل والانحراف والإدمان كما أن الأمهات المغربيات في أسوأ الظروف التي عشنا فيها، أرضعن أبنائهن حب وطن واحد هو الأصل اسمه المغرب، فيختار اللاعبون أن يحلوا قميص منتخب المغرب بشكل إرادي، لأن الأم المغربية المهاجرة في أوروبا لا تحمل لوطنها الأصلي الا شرف الانتماء. وعلى ملاعب نهائيات كأس العالم في قطر، قدم الفرسان من منتخب أسود الأطلس عربون وفاء، باعتراف أمام عدسات الكاميرات العالمية، شيك اعتراف على بياض، أن النجاح تقف وراءه "لمويمة" أو "يما" أو "يمانينو" أي الأم وأمي في الشارع المغربي، خرج المغاربة للاحتفالات الشعبية العفوية الجماعية، ومعهم أمهاتهم في رسالة أخرى من الاعتراف المغربي بفضل الأم المغربية".
لقاءات كروية مشبعة بالرمزيات:
عكست مباراة المغرب واالبرتغال فرحة غير مسبوقة على الصعيد العربي والعالمي، تضامنًا من الفريق المغربي الذي برع، وأجاد في حرفيته ومهنيته وحبّه للقميص الذي يرتديه. إن هذا المنتخب الشاب لم يضعه أي خبير رياضي في الحسبان فضلًا عن الفرق المشاركة والمنافسة له. ولقد جاءت مباراة المغرب والبرتغال، في دور ربع النهائي ضمن بطولة كأس العالم ٢٠٢٢ المقامة بالدوحة مشبعة بالرمزيات بل مشحونة بها إلى درجة لا تفوت المشاهد ثاقب النظر والذكاء. ونجد درجة كبيرة من التشابه في تلك الرمزيات والتي انعكست أيضًا في مباراة دور ثمن النهائي ضد إسبانيا. هناك رمزيات جاءت ضمنًا وأخرى بيانًا، تجاوزت حدود المنافسة على الكرة المستديرة بين منتخبيّ دولتين ربطت بينهما قضايا تاريخية مصيرية على أراضي شبه الجزيرة الإيبيرية وحتى على التراب المغربي، فمكادور، وسواحل الصويرة تشهد بالكثير من أحداث التاريخ. ولقد شرح الزميل أسامة أبو ارشيد في مقال له بعنوان (أبعد من انتصارات كروية عربية) طبيعة هذه الرمزيات حيث قال: "هذه الرمزيات هي ما حرّكت كثيراً من مشاعر الفرح والبهجة لدى المغاربة والعرب بالدرجة الأولى، وكثيرين من شعوب ما يسمّى العالم الثالث بدرجة ثانية. في السياق الجيوستراتيجي، كانت هذه مواجهة بين دولتين، تنتمي الأولى، المغرب، إلى عالم الجنوب، والثانية، إسبانيا/البرتغال، إلى عالم الشمال، مع كل ما يعنيه ذلك من فوارق حضارية وثقافية وسياسية وتكنولوجية واقتصادية بين الكتلتين. ولا يخفى هنا أن هذين الانتماءين المتوازيين يستدعيان تلك الفجوات والحساسيات، فعالم الشمال المترف بنى جزءاً لا يُستهان به من نهضته على أنقاض عالم الجنوب المنهوب وعلى حساب موارده وحرية إنسانه وكرامته. أما تاريخياً، فثمَّة احتكاكٌ بين البلدين لم يتوقف، وإنْ تغيرت المسميات والحدود والجهات الفاعلة."
الوصول إلى المربع الذهبي:
أجرى التلفزيون الألماني لقاءات عديدة مع مغاربة جاءوا ليشجعوا فريقهم، وكانت فرحتهم بالأمس، بعد الانتصار على الفريق البرتغالي، لا توصف. ذكرت شابة مغربية، أنها لا تصدق نفسها، وكأنها تعيش حلمًا لم تفق منه إلى الآن. وعكفت منذ وصولها إلى تمديد مواعيد رحيلها بعد كل مرحلة يلعب فيها المنتخب المغربي والآن تتفاءل بأن هذا الكأس العظيم سوف يحمله أسود الأطلس إلى أرض إفريقيا، أرض الجدود والأسود، أرض الإنسان الأول، أرض الحضارات المنسية والشعوب المنهوبة ومسلوبة القوى.
لذلك فقد مثّلت الجماهير المغربية نقطة القوة الرئيسية لأسود الأطلس في مونديال قطر 2022، بفضل حضورها المباريات بأعداد كبيرة، ومساندتها المستمرة للاعبين، خصوصاً في المواجهة الأخيرة أمام منتخب البرتغال، التي خوّلت لهذه النخبة المتميزة بقائدها وليد الركراكي بلوغ الدور ربع النهائي. وقد جاءت مساهمة الجماهير المغربية في التأثير على نتيجة مباراة الأمس وظل الجمهور المغربي والعربي بمثابة الرجل الثاني عشر في الفرقة، ولم يقف عن بث روح الجسارة عندما حميّ وطيس المعركة مع البرتغال وكافح أبطال المغرب عن مرماهم بكل بسالة وشجاعة وظلت شباكه نظيفة ودفاعه لا يقارع، وصار أفضل دفاع أو ترسانة مسلحة في العالم بأسرة. وذلك على عكس ما صرح به اللاعب البرتغالي أوتافيو حينما قال: "صحيح أن جماهير المنتخب المغربي كانت حاضرة بقوة في مباريات المنتخب بالمونديال، لكن كرة القدم تلعب على أرضية الملعب وليس في المدرجات". وأضاف لاعب خط الوسط، الذي يلعب دورًا أساسياً في فريق البرتغال: "سننزل إلى الملعب بـ11 لاعباً مقابل 11 لاعباً، فالجماهير لن تلعب معهم بالكرة، نريد الفوز بهذه المواجهة وبلوغ الدور نصف النهائي من البطولة". وإضافة إلى العوامل التكتيكية والفنية التي جعلت منتخب المغرب في قيمة بقية المنافسين، فإن منتخب المغرب يستمد قوّته من الدعم المعنوي الكبير الذي يجده من قبل الجماهير وكذلك عبر عائلاتهم التي تحضر النهائيات. وأكد أكثر من لاعب مغربي في تصريحات طوال البطولة أن وجود أمهاتهم وأفراد عائلاتهم يساعدهم كثيراً، ويدعمهم معنوياً ويحفّزهم على تقديم مستوى أفضل في كلّ مباراة. فشكرًا للجمهور المغربي وشكرًا للأسر التي كانت حاضرة وشكرًا لأفرادها الذين كانوا حضورًا في مواقع الحدث، فكم أتحفونا هم أيضًا بتلك الصور التي تثلج القلب وترفع من قيمة الأم، وكيف لا وهي مدرسة إذا أعددتها، أعددت شعبًا طيب الأعراق، وما عرفت أهل المغرب إلا هكذا يا سادتي، كشعب طيب الأعراق.
والجدير بالذكر في هذا الصدد أنه مباشرة بعد نهاية المباريات، يتوجه لاعبو المنتخب المغربي إلى المدرجات من أجل تحية أفراد عائلاتهم وخاصة اللاعب أشرف حكيمي الذي يحرص كل الحرص على تقبيل والدته التي تشاهد ابنها البطل في هذا المونديال إلى جانب أفراد من عائلتها مثل شقيقه أو زوجته. ومن جهة أخرى برز مدرب "أسود الأطلس" وليد الركراكي، بإصراره أيضًا بعد كلّ مباراة التوجه إلى المدرجات وتحية والدته التي تحضر المباريات وقد تصرف على طريقة اختلفت عن تلك التي عكسها نجوم المغرب خلال هذه المنافسات بقطر.
خاتمة: مونديال قطر وحّد بين أفئدة الشعوب العربية:
في غضون الأسابيع الماضية وبدوحة الخير رأيناها تآلف وتكاتف الجمهور العربي في دعم الفرق العربية دعمًا معنونًا لا يقدر بثمن، وقد تجاوزت هاهنا الشعوب كل الخصومات وجلّ الاختلافات التي أنشأتها أنظمتها دون أن يكون لها في الأمر أي مسؤولية أو ذنب. وكما جاء الدعم المعنوي للشعب الفلسطيني مهضوم الحقوق، فكانت أعلامهم ترفرف في سماء المباريات. لقد حمل مونديال قطر في طياته العديد من الرسائل الإيجابية إلى الأمة العربية، فقد أثبتت هذه الأمة أنها أمّة يجمعها المصير والتاريخ والمستقبل، ولا تفرقها الأحداث رغمًا عن كل الدسائس، بل ستظل أفئدتها سلمية صافية عند اللقيا. ونحن يا سادتي بحاجة إلى الانتصار في مجالات أكبر وأهم من كرة القدم، أن نستقل بأنفسنا، أن نجعل الديموقراطية واقعًا سياسيًا في بلداننا، وأن ننجز في مجالات العلم المختلفة، في العلوم الطبيعية والصناعات والبيئة وقبل هذا وذاك أن نحرر عقولنا من أمراض علقت بها منذ عهد الاستعمار. فشكرًا للمغرب وشكرًا لقطر فلولاكما لما اجتمعنا في دوحة الخير ولما تصافت القلوب على نهج المحبة العربية الخالصة، فمزيد من النجاحات ومزيد من التفوق. ويحيا المغرب وتحيا أسوده الأطلسية.
Mohamed@Badawi.de
///////////////////////