أشتات أشياء من أرض الكنانة … بقلم: جمال عنقرة
• مصر اجتازت اختبار التعديلات الدستورية بنجاح كبير، والنتيجة كشفت الأوزان الحقيقية للقوي السياسية
• كرمنو إلتحم بالعائدين ممثلاً للحكومة، وعبد العزيز المبارك بصحة جيدة ويتوجه اليوم إلي جدة
خلال السنوات التي ارتبطت فيها بمصر، وهي قد شارفت علي الأربعين عاماً شهدت انتخابات عديدة علي عهدي الرئيسين الراحل محمد أنور السادات، والمخلوع محمد حسني مبارك، ولم أجد في كل تلك الانتخابات ما يلفت النظر، ولم يكن يهتم بها أحد من الناس، لا من المصريين ولا من غيرهم، ذلك أنها كلها كانت معلومة النتائج مسبقاً، وكانت المشاركة الشعبية فيها ضعيفة إلي درجة العدم، ولم يكن هناك إعلام ينقل عنها شيئاً، سوي بعض ما تتناقه وسائل الصحافة والإعلام الحكومية التي تصبغ علي الأحداث ألواناً وصفات ليس بها، ولا لها.
هذه المرة شهدت وشهد العالم أجمع تجربة غير مسبوقة، والذين سبقونا في معرفة مصر قالوا أن الاستفتاء علي التعديلات الدستورية التي وضعتها اللجنة المكلفة بذلك من قبل المجلس العسكري الحاكم برئاسة المستشار طارق البشري، قالوا أن الذي حدث هذه المرة لم يحدث في تاريخ مصر كله. فالمشاركة كانت فوق أي تصور، فلقد تسابق المصريون للإدلاء بأصواتهم منذ الساعات الأولي لصباح اليوم المخصص لذلك وهو كان يوم السبت الماضي الموافق التاسع عشر من مارس الجاري 2011م، فعندما جاءت الساعة الثامنة صباحاً وهي موعد ابتداء عملية الاقتراع كانت الصفوف قد تراصت في كل أنحاء مصر بصعيدها وبحريها، وفي مدنها وقراها وكفورها ونجوعها، فجاء المصريون بكل مكوناتهم ليقولوا رأيهم في التعديلات الدستورية بالإيجاب أو الرفض، وكان الناس ممثلين لكل قطاعات مصر، المسلمين والأقباط، الشيب والشباب، الإسلاميين واليساريين والقوميين العرب، التجديديين والسلفيين، المؤمنين والملحدين، الموحدين والمشركين، الأهلاوية والزمالكاوية، العمال والفلاحين، الأغنياء والفقراء، فجاء أهل مصر كلهم ولم يتخلف منهم أحد، واصطفوا في صفوف متساوية دون أن يدعوهم لذلك أحد، ودون أن يجبرهم أحد علي النظام، ذلك أنهم جاءوا بروح الثورة التي قهرت المستحيل وأبهرت العالم كله بقوتها وشبابها وحضاريتها، فجاءوا لممارسة حق دستوري يتاح لهم لأول مرة دون وصاية أو تزوير.
التعديلات الدستورية جاءت بمبادرة من المجلس العسكري الانتقالي الذي يقود البلاد برئاسة المشير طنطاوي، ولقد عمد المجلس العسكري لهذه الخطوة لتكون فاتحة لأعمال تتلاحق من أجل إعادة السلطة للشعب ليحكم نفسه كما يشاء، إلا أن كل الأحزاب والقوي السياسية المصرية، وكذلك الذين خرجوا قادة من ميدان التحرير وقفوا ضد التعديلات الدستورية، ودعوا لإسقاطها، فوقفت ضدها أحزاب الوفد والتجمع والأحزاب العربية والناصرية، والأحزاب الحديثة، ووقف ضدها البردعي وعمرو موسي وعلاء الأسواني، وكثيرون من الذين كانت لهم أصوات عالية في ميدان التحرير، الأخوان المسلمون وحدهم وقفوا إلي جانب تعديلات المجلس العسكري الانتقالي، التي وقف معها المصريون الناشدون لاستقرار مصر وتقدم ثورتها، وحفظها من الضياع، ولقد ظن المعارضون أن التعديلات ساقطة لا محال.
ولأنني أعرف مصر وأهلها، فلقد راهنت منذ اللحظة الأولي علي نجاح التعديلات الدستورية، وقلت أن نسبة الذين سيصوتون بنعم لن تقل عن 75%، ولذلك عندما أعلنت النتيجة التي جاءت 77%لصالح التعديلات الدستورية اتصل بي علي الفور الأخ محمد الجيلي سعدابي الذي كان من الذين راهنتهم علي هذه النسبة. وأعتقد أن هذه النتيجة ستكون مفيدة للذين ضخموا أنفسهم وأعطوها أكثر مما تستحق، وهم الذين ظنوا أن الثورة المصرية الظافرة صنعت في ميدان التحرير، وتوهموا أن بعض أيام أو أسابيع، أو شهور، أو حتى سنوات يمكن أن تصنع زعيماً من العدم، وتجاهلوا أن الذي حدث في ميدان التحرير كان مجرد ميلاد لثورة حبلت بها مصر عشرات السنين، وأن كل أهل مصر شاركوا في هذه الثورة، وأن تلك الأيام القليلة المشتعلة ليست إلا مخاض لميلاد حمل السنين العجاف، فالزعامة لا تصنع بين يوم وليلة.
وبنتيجة هذا الاستفتاء الذي أبان الأوزان الحقيقية للقوي السياسية المصرية، يكون قد انتهي عهد حكم ميدان التحرير، وجاء عهد حكم الجماهير، وليس صحيحاً أن الذين صوتوا هم من الرعاع كما اتهمهم بذلك بعض الذين لم يحتملوا السقوط فنزلوا إلي ميدان التحرير ليبثوا سمومهم، ولكنهم كانوا أدني من أن يراهم أحد، ولقد وجدتهم بالصدفة عندما جئت عائداً بعد لحظات من إعلان نتيجة الاستفتاء من مستشفي طب القصر العيني الفرنساوي حيث كنت أزور صديقنا الحاج علي المادح الذي أجري فيها عملية جراحية ناجحة لتوسيع شرايين القدم، فوجدت مجموعة لا تتجاوز الخمسين تجمعوا في ميدان التحرير يزعمون أن النتيجة قهرت الثورة، ولعلهم هم الذين قد شعروا بالقهر، وهم يرون أنهم هم الثورة، ولكن مارد الثورة المصرية قد انطلق بعد أن فتحت التعديلات الدستورة الباب لبناء المؤسسات الدستورية بإرادة الجماهير المصرية.
ومن ملامح هذه الأيام في أرض الكنانة الزيارة التي قام بها وزير الدولة برئاسة مجلس الوزراء صديقنا أحمد كرمنو للقاهرة للوقوف علي أحوال السودانيين العائدين من ليبيا للإطمئنان علي أحوالهم وتسيير أمورهم ليعودوا إلي أرض الوطن سالمين آمنين، وما أعجبني في زيارة كرمنو أنه لم يأت بالعباءة الوزارية رغم أنه جاء يتوكأ علي عصاها، ولكنه جاء بخلفيته الشبابية الجهادية، ولم ينقصه شيء سوي أن يرتدي زي الدفاع الشعبي الذي ظل ملازماً له في حله وترحاله أكثر سنوات الانقاذ، ولم يخلعه حتي عندما صار وزيراً ونائباً لوالي ولاية النيل الأزرق، ذلك أنه تشبع بروح الجهاد التي عاش بها طوال حياته، فبهذه الروح جاء ليقف علي أحوال العائدين من ليبيا، وبهذه الروح خاطب المنتظرين منهم في مدينة أبوسمبل المصرية، فأستقبله العائدون بذات الروح وهتفوا هتافهم الذي وثقناه من قبل (الشعب يريد عمر البشير) وبقدرما قدم كرمنو نموذجاً رائعاً للعائدين، فإن نموذجه الالتحامي مع الجماهير يحتاج الحاكمون باسم الانقاذ أن يتمثلوه، نقول ذلك ونري كثيرين منهم قد ترفعوا علي الثورة التي صنعتهم، وترفعوا علي الرجال الذين صنعوا لهم الثورة التي يرفلون في نعيمها، وترفعوا حتى علي تاريخهم الذي يعلمه الجميع، ويتمنون لو يمزقزنه تمزيقاً. وأكد كرمنو تلاحمه مع الجماهير عندما عاد معهم من أبوسمبل إلي حلفا بالباخرة، فكان خير نموذج لثائر يعيش أزمة شعبه.
ومن أحداث تلك الأيام التي لا يصح للإنسان أن يغادر دون ذكرها، هي زيارة الفنان الخلوق الانسان عبد العزيز المبارك إلي القاهرة مستشفياً بعد وعكة ألمت به وألزمته السرير الأبيض في مستشفي تقي الأمدرماني جوار منزل الأميرلاي الراحل عبد الله بك خليل جوار سوق الشهداء بام درمان، ولقد علمت بمجيئه من الأخ الصديق العمدة بكري النعيم فذهبنا إليه ومعنا الأخ الصديق الزميل زين العابدين أحمد محمد بعد أن حضرنا افتتاح معرض الفنان التشكيلي السوداني النشط معتز الامام الذي يقيمه هذه الأيام في جاليري المشربية بشارع مصدق بالدقي جوار نادي الصيد، وكان معنا صديقنا ياسر تيمو المدير الإقليمي لسودانير في القاهرة، وهو قد جاء إلي المعرض برفقة ابنته هديل ذات الأعوام التسع وهي فنانة بالفطرة، وكل من رأي أعمالها الفنية توقع لها مستقبلاً زاهراً في هذا المجال.
وأثناء وجودنا مع الأخ عبد العزيز في شقته ومعه زوجته مها عبد القادر اتصل بي أخي الزاكي التجاني محمد إبراهيم، وبدأ عليه انزعاج شديد لما قرأ في صحيفة سودانية نشرت أن عبد العزيز المبارك حالته الصحية قد ساءت وتم نقله إلي القاهرة للعلاج، فلم يكن مني إلا أن أعطيته عبد العزيز ليتحدث معه ليدرك كم هو بخير وصحة جيدة، ولا يعاني من شيء، وهذا ما أكده الفحص الشامل الذي أجريناه له في مستشفي طب القصر العيني الفرنساوي، وهو الفحص الذي ننصح به كل طالب علاج في مصر مهما كان نوع المرض الذي يشكو منه، فهذا الفحص الشامل الذي يجري في الفرنساوي يتم بكفاءة عالية ويشخص المرض بدقة متناهية، ويقودك إلي العلاج الصحيح دون أن تخسر مالاًُ أو زمناً في غير مكانه، وفضلاً عن كفاءة الفرنساوي الطبية، فإن طيبة كل العاملين فيه تقودك إليه وتجعلك أكثر إطمئناناً، ولا تقف المعاملة الكريمة عند حدود المشرفة علي التسجيل في القسم وحدها مدام حنان، فرغم أنها حالة خاصة، وللسودان والسودانيين في نفسها مكان خاص جداً، وفي السودان يعيش زوجها وشقيقه أيضاً، إلا أن الآخرين من استشاريين وأطباء وممرضين ومعاونين يخدمون مرضاهم بمحبة ومودة تشكل جزءاً مهما من الشفاء، فلم نجد لعبد العزيز مرض سوي بعض ارتافع طفيف في الزلال بالبول أعطوه له دواءً واحداً فقط، نصف حبة يومياً قبل العشاء.
الأصدقاء والأحباب والمعجبين ظلوا علي اتصال دائم مع عبد العزيز من السودان والسعودية والأمارات العربية المتحدة وغيرهم، ورغم أنهم كثر إلا أن واحداً منهم يستحق أن نخصه بالذكر هو صديقنا المهندس صلاح مطر، فليس لأن صلاح أول من زار عبد العزيز في المستشفي في السودان، وأدومهم علي ذلك، ولا لأنه صاحب فكرة سفر عزيز للقاهرة ومنفذها كاملة، ولكن لأنه ظل يوالي الإتصال يومياً، ويكرره في اليوم أكثر من مرة.
ولما اطمأن عبد العزيز علي صحته قرر السفر إلي المملكة العربية السعودية لأداء العمرة شكراً لله وحمداً، وكان الأخ جمال الوالي قد عمل له وزوجته تأشيرة دخول إلي السعودية للعلاج حينما زاره في مستشفي تقي بالسودان، فذهبنا إلي الأخ ياسر تيمو في سودانير لترتيب سفرهما إلي جدة، فوجدنا معه المدير المالي الأخ عمر عثمان، ومدير المبيعات الأخت الأمدرمانية أمل لقمان، فبحثت أمل ودينا أفضل وسيلة سفر لعبد العزيز إلي جدة. وبينما نحن مع عبد العزيز وزوجته مها جلوساً مع الأخ بابكر حنين في السفارة، اتصل بعبد العزيز الأخ محمد الترهوني مدير العلاقات العامة بمكتب سوادنير بالقاهرة ليخبره أنه سوف يباشر ترتيب سفره كاملاً إلي جدة، وبينما استغرب عبد العزيز لهذا الاتصال، فكنت أتوقعه، فالأخ ياسر لا يترك رجلاً له معني في السودان إلا وأوصي به الترهوني، والترهوني (ما لازماه وصية) فهو فضلاً عن أنه يعرف عمله جيداً، فخدمة الناس فطرة عنده، والسودانيون الوطنيون الذين يسافرون علي الناقل الوطني يعرفونه جيداً، فهو أول من يلتقيهم في سلم الطائرة بالترحاب، وآخر من يودعهم ليعودوا لأهلهم بالسلامة.
gamal mohamed [gamalangara1@yahoo.com]