أشواك وأشواك في طريق الدولة المدنية 

 


 

 

عظمة الثورة 

عدة أسباب توضح أن ثورة ديسمبر فريدة في نوعها، فقد فجرها شباب معظمهم ولد وتربى في كنف ذات النظام الذي ثاروا ضده، وفيهم من خرجوا من بيوت سدنته .


إستهدفت الثورة سياسات وسلوكيات ومفاهيم تخالف الفطرة الوطنية السليمة، ظل نظام الإنقاذ يزرعها ويغذيها ويؤصلها ويمارسها.


نادت الثورة بالوحدة والحرية والسلام والعدالة، وبالمدنية والديمقراطية كبديل للشمولية وآفاتها، وهزمت بالسلمية نظام دموي تسلح بأسلحة فتاكة وبأجهزة أمنية تستهين بحرمة الدماء ولا تعرف الرحمة.

أكثر ما يميزها أنها ثورة وعي، وعي بأهمية وحدة التعدد الإثني والثقافي والديني كأساس للتعايش السلمي، وبالدولة المدنية كحاضنة للتداول السلمي للسلطة والوحدة والاستقرار والنمو، هذا الوعي كسر حاجز الخوف لدى الثوار، إناثا وذكرانا، فرفعوا راية السلمية ضد آلة الإستبداد فهزموها، وكان مهر ذلك الكثير من الدماء والشهداء، ثم واصلوا التضحيات دون تردد.


هذا الوعي المصحوب بكسر حاجز الخوف، هو سر بقاء الثورة وعظمتها، وسر فشل الإنقلاب رغم تعدد أطرافه وسلاحه وسنده الخارجي.


هذه الثورة عائدة ومنتصرة، بإذن الله، وإذا كانت هناك جهات ساهمت في تشكيل المشهد المؤسف الحالي، فإننا نرصدها في هذا المقال لا تقريعاََ أو إتهاماََ، لكن حرصاََ على تشجيع نقد الذات لتصحيح المسار، حتى للذين يقفون ضد الثورة، ليراجعوا موقفهم، ويبقى الوطن ملكاََ للجميع :-


الجنرال البرهان والعسكر

شكل البيان الأول للجنرال ابنعوف وزير الدفاع صدمة للشارع وهو ينتظر من  الجيش إنحيازاََ حقيقياََ، ثم أتى الجنرال البرهان بضباط مؤيدين للنظام المباد، وتمسك العسكر بالمشاركة في الحكم، عبر مفاوضات شاقة تلتها مجزرة وإنقلاب، أصبح العسكر أعضاء في السيادي، كعربون صداقة ليساهموا في الانتقال، لكنهم عملوا على إفشاله، مستعينبن بذات الأجهزة الأمنية والشركات والسلام المزعوم وإنقلاب أكتوبر وتدعاياته المدمرة، والذي أكد بأن السادة رئيس وأعضاء الإنقلاب لا يأبهون كثيراً لنتائج أفعالهم في حق الوطن والمواطن .


الجنرال حميدتي والدعم السريع  

كاد الجنرال حميدتي أن يصبح بطلاََ قومياََ، لدوره المشهود في نصرة الثورة، لولا وقوع المجزرة، وهو شريك في كل ما قام ويقوم به العسكر، وهو مهندس السلام المزعوم، ومن رفض تنفيذ الترتيبات الأمنية، وجعل نفسه دولة داخل الدولة يبدد ثرواتها ويمارس الشئون الداخلية والخارجية، ويطور قواته، فأصبح أكبر مهدد للثورة بل الوطن كله.


أعضاء المكون المدني السيادي

يبدو أن عدم الخبرة حرمتهم من أن يكون لهم دور يذكر، وفي المقابل فرض المكون العسكري وجوده داخل مجلس السيادة، وانحرف بمسار ومهام المجلس، وعندما إنتبه بعض اعضاء المكون المدني لهذه الحقيقة كان الوقت قد فات.


قوى الحرية والتغيير 

مارست الإقصاء والمحاصصة والتكالب وإقتسام المواقع والوظائف وليس المهام، وجانب الكثير من ممارساتها الشفافية المطلوبة لإعادة بناء الدولة، وصمتت على سحب العسكر ملف السلام، بل كان لها دورها في الإتفاقية التي زادت المشهد تعقيداَ .

عصفت الخلافات بين كياناتها الحزبية وغيرها، وإنتهى أمرها إلى الفشل في القيام بدورها كحاضنة للحكومة، كل ذلك أضعف الثورة وبريقها وما نالته من هيبة وما فرضته من مهابة، فكانت الإستهانة وما وقع من إنقلاب.


الأحزاب 

لم تكتمل صورة الثورة لأن الأحزاب لم تقم بإعادة ترتيب أوضاعها، بالاهتمام بشبابها وعقد مؤتمراتها وإنتخاب قيادتها وترتيب هياكلها وتحديد برامجها، وتأكيد الممارسة الديمقراطية داخلها، وبث ثقافة المدنية، والسعي لحل المشاكل الإجتماعية والسياسية، بما يعكس تفاعلها مع قضايا المجتمع.

إن كل ما ينسب ل (قحت) من مآخذ، كان نتاج تكالب بين الأحزاب داخلها، وعدم رضاها بصوت الأغلبية، والتمسك بالرأي والإنسحاب لممارسة التنظير إعجاباََ بالرأي.

إن أكثر ما أعاق ويعوق تقدم بلادنا، الصراعات التقليدية بين الأحزاب، والتي تتخذ الآن من ثورة الشباب مسرحاََ لمعارك لا نهاية لها.


لجنة التفكيك 

إرتبط تقييم أداء اللجنة بمزايدات لا مكان لها، فلو كان الحديث حول شرعية ثورية خارج الوثيقة، فلتتسابق الآراء كيفما تشتهي، أما في إطار الوثيقة والقانون فلا مجال إلا بالتقيد، لقد كان المطلوب أن تتجنب اللجنة الأخطاء التي شكلت مدخلاََ لإلغاء قراراتها، لذلك لا موجب لطرح آراء مخالفة للأحكام تقبل الجدل، ولا موجب للتشكيك في رأي الآخرين تذكية للذات، ولو حرصاََ وحباََ في الثورة، فمن الحب ما قتل.


إن تفكيك التمكين تقيداََ بالوثيقة والقانون، يحقق الهدف ويشكل هزيمة أخلاقية للمطلوب تفكيكهم، تماماََ كما فعلت السلمية فيمن يحملون أدوات القتل ويستبيحون الدماء، أما قرع الطبول والمطالبة ب (البل)، فهي نشوة مؤقتة تهزم شعار العدالة الذي رفعته الثورة.


ربطت الوثيقة في مادة واحدة، بين التفكيك وبناء دولة القانون والمؤسسات، وهذه أمانة ورسالة تاريخية عظيمة لن تتحقق بالهتاف وتعميق الكراهية، مهما كان حجم الغبن، لكن بإحترام ما نصت عليه الوثيقة، وبعيداََ عن ذلك فلا تصور لبناء دولة مستقرة وآمنة ومؤهلة للانطلاق.


أنصار النظام السابق 

ظلوا يعملون على إفشال الإنتقال بالتعاون مع العسكر، لاعتقادهم أنهم البديل المنتظر، متناسين أو غير آبهين لكم الغبن والظلم الذي أصاب الناس طوال سنواتهم.


النبرة المتعالية التي يتحدث بها بعضهم تكشف بأن سقوطهم الداوي، لم يلفت نظرهم لأهمية إجراء مراجعات والإعتذار عن الدمار الذي احدثوه في المجتمع، فكرياََ ومفاهيمياََ.


هم في حاجة لمن يذكرهم بأن المشكلة ليست في حقهم في المشاركة في الانتخابات، لكن في مدى إستعدادهم على معالجة الأخطاء التاريخية دون مكابرة، وإثبات المصداقية المفقودة، والبعد عن التحدي بكرت الانتخابات، فالمراجعات تستلزم رد المال العام وتفكيك التمكين، فبدونه لا تصور لانتخابات حرة نزيهة.


هم في حاجة لمن يلفت نظرهم لحجم وعمق التغيير الذي أحدثته الثورة فى المجتمع، والوعي الذي حدث وحاجز الخوف الذي زال، فتغيرت أدوات الحكم والسياسة، لتكون بعيداً عن العنف والتخويف والتغبيش وإفساد الذمم.


قادة حركات إتفاقية جوبا

خلافاََ لما كان مأمولاََ فيهم، شكلوا نقطة ضعف أساسية في طريق الثورة، لا يؤمنون بالديمقراطية، غلبت عليهم اللامبدئية، لا يملكون أي رؤية للقضايا العامة، ساهموا في الترتيب للإنقلاب، أثبتوا حبهم للمال والسلطة وعدم إهتمامهم بقضايا الوطن والمواطن، وقعوا اتفاقية سلام لم تعطهم الجرأة للذهاب لمواطنيهم وتبشيرهم بمخرجاتها، فاستمرت الحروب ونزيف الدماء.


رئيس وأعضاء مجلس الوزراء 

لقد كانت مهمة رئاسة الوزراء في حاجة لرجل دولة مدرك لتعقيدات ومطلوبات المرحلة، وقادر على مواجهتها.

إتخذ السيد حمدوك الكثير من القرارات المصيرية غير الموفقة، بتأثيرات جانبيه وبعيداََ عن مجلس الوزراء، إستقال في ظروف حرجه تمر بها البلاد، وغادرها دون الإجابة على كثير من الأسئلة حول بعض مواقفه وطريقة تصديه لبعض الملفات بما يمس المصداقية، فظلت علامات الاستفهام معلقة.!


لم يكن لمجلس الوزراء بمختلف تشكيلاته، دوراََ يذكر في الجوانب السياسية المرتبطة بطبيعة المرحلة، ولم يتمسك الأعضاء بالوثيقة التي لا تعطي الرئيس اي دور منفرداََ.


إتسم أداء المجلس في تنفيذ المهام الإنتقالية، بالضعف الناتج عن عدم الخبرة وتعقيدات المرحلة وغياب دور الحاضنة السياسية.


كان دور الوزراء سلبياََ في اجتماعات المجلسين، فتمكن العسكر من إجازة بعض القوانين المعيبة، وتعديل الوثيقة بإدخال اتفاقية السلام المزعوم وجسمها الغريب مجلس الشركاء.


لجان المقاومة 

 أدهشوا الجميع بنضالهم السلمي حتى سقوط النظام، لكنهم أحجموا عن المشاركة في الحكم، فإنعدم الرقيب، فكان ذلك من أسباب ما حدث من فشل وإنقلاب .


يحسب عليهم عدم الاهتمام بالحراك السياسي، وعدم وجود زعيم من بينهم يمثل أيقونة الفكرة والهدف، بما يقوي من تماسكهم ويحميهم مما وقعوا فيه من الإستقطاب الحزبي وسلبياته.


فشل ما مضى من الفترة الانتقالية جعلهم يتشككون ويضعون مسافة بينهم وبقية القوى، في وقت كان المطلوب فيه الوحدة لمواجهة الإنقلاب.


إن مالازم الفترة الانتقالية من تكالب الأحزاب وأخطاء سوء التقدير، يستوجب النقد، لكن لا يعطي احد حق المحاكمة والإقصاء، فالأخطاء ستستمر حتى بعد الانتخابات، خاصة بعد حرمان دام لثلاثين عاما، وتاريخياََ الانقلابات حرمت الأحزاب من إكمال دورتها الإنتخابية، لكي تصحح الممارسة الديمقراطية الأخطاء.


أخذاََ بظاهر النوايا، فإن ما يبعث الأمل  إعتراف السيد خالد عمر، بالخطأ وتحمل (قحت) جزءاََ من مسؤولية إخفاقات الفترة الانتقالية، فذلك يكشف عن درجة من النضج والوعي والشجاعة، كخطوات مهمة نحو المعالجة والإصلاح.


أتمنى أن يمضي السيد خالد أكثر ويتطرق لما وجه إليه من نقد، خلال فترة عمله وزيراََ لشؤون الرئاسة.َ، ولو سلك بقية الأشخاص والأطراف ذات النهج، لزالت الاشواك ولعبرت بلادنا أزماتها بسلام.


ميثاق سلطة الشعب 

صدر عن تنسيقيات لجان ولاية الخرطوم، لموائمته مع مواثيق الولايات الأخرى، به إيجابيات، ما يهمنا هنا سلبياته التي تضع الاشواك في طريق الدولة المدنية، منها :

صدر الميثاق بفوقية لا تعكس(سلطة الشعب)، ولا ينفيها إعطاء الفرصة للآخرين لابداء آرائهم كتابة والانفراد بالتقرير فيها.


إن شعار لا تفاوض بعد أن أحدث أثره في كسر شوكة الإنقلاب، لا معنى للتمسك به ووضعه كنص في ميثاق يلزم الجميع.


كيف تقوم لجان المقاومة بالحراك الميداني وتقدم التضحيات، وترفض الحوار لتضع نفسها خارج الفعل السياسي.!


ماذا يضير من الحوار المباشر مع الانقلابيين والتمسك بلا شرعية ولا شراكة معهم، والنظر في إمكانية حل سياسي يخرج الوطن من هذه الورطة ! إن الحوار في ذاته يحاصر العسكر ويقفل الباب أمام التأثيرات والتدخلات الخارجية.


إن رفض التفاوض حتى غير المباشر والحديث عن التغيير الجزري السلمي، في ظل الوضع الحالي للجيش وبقية القوات النظامية، لهو أمر يحتاج لتفسير!


ما هو مفهوم التغيير الجزري! وما هي مقدرة المدنيين، بعيداً عن الجيش وبقية القوات النظامية، في السيطرة على بلد يكاد يتشظي.!


ماذا يضير من الجلوس مع الآلية الثلاثية وإنتقاد رؤيتها وطرح الرؤية البديلة والدفاع عنها.! واذا كان بين الآلية طرف غير محايد، لماذا لا يقال له ذلك في وجهه. !


معلوم أن أزمتنا تم تدويلها، والموقف الأمريكي الأوربي غير واضح بسبب خوفه من ضعف الحكومة المدنية، فلماذا نعمق الخلافات ونؤكد الضعف .!


الخاتمة :

جميعنا يعلم أن هناك عدة دول تعرضت لأزمات وانتهاكات مماثلة، لكنها تجاوزتها وتقدمت بالتسامح والمصالحة، في المقابل لا يستطيع احد أن يعطي مثالاََ لدولة وأحدة تجاوزت أزماتها بالتمسك بالثأر والتشفي.

نحن نجاري شهواتنا الخاصة على حساب الوطن، بإسم الشهداء، ونعلم تماما أنهم لن ينالوا من ذلك شيئاً، بل يكفيهم أنهم (أحياء عند ربهم يرزقون) صدق الله العظيم.


aabdoaadvo2019@gmail.com

 

آراء