أفاعي الترابي المستأنسة

 


 

صلاح شعيب
21 November, 2018

 

 

الترابي نفسه هو الأفعى. ولكن انبهار محمد محيي الدين الجميعابي الواضح بهالة زعيم الحركة الإسلامية أصابه بغشاوة عند المراجعة. ولو كان الحوار متحررا من ثقل الأيديولوجيا لوصف شيخه، أيضا، بأنه أكثر زعيم سياسي لدغ البلاد بسمه الزعاف. ولهذا فالترابي مستحق لوصف شيخ الأفاعي الذي لدغ فقراء السودان بأوجع من لدغ تلاميذه له.

ولا تستبين "أفعوية" الترابي إلا بمذبحة الخدمة المدنية التي تعد أكبر ضربة للمهنية السودانية رغم أن إستراتيجيي الحركة الإسلامية يعدونها انتصارا باهرا لتمكين الإسلام. وبعدها جاءت سياسة التحرير الاقتصادي ثم المغامرات الأيديولوجية الإقليمية، والدولية، والتي سحق رد فعلها فقراء السودان. ولاحقا، أدت سياسة التمكين إلى الفساد الإداري، وابتلاع مدخرات الدولة بواسطة الجيش الجرار من عمالة التشغيل الإخوانية، إلى انهيار جهاز الخدمة العامة، وأيضاً هنا دفع الفقراء، وميسورو الحال، الثمن مضاعفا.

وعندئذ تناقضت مفاهيم الدين الموصي بالفقراء الأوجب بالرعاية، وصارت حقوق السائل، والمحروم، منزوعة لصالح ثراء، ورفاهية، الكوادر المنتمية لتنظيمات الإخوان المسلمين. وحتى هذه اللحظة يعرف كل إسلاموي يسجد عند كل صلاة أن عائدات الوظيفة تأتي على حساب حصة المواطنين، والذين معظمهم يدخل في قائمة الفقراء. والدليل على ذلك أن الدولة غير منتجة، وتعتمد على الضرائب الباهظة، والجبايات، والتجنيب المخصص للتنظيم.

هذه هي صورة الحال مجسمة عيانا بيانا أمام الجميعابي، وكل ذي بصيرة، ذلك الذي لا يحتاج إلى الاستعانة بأي طرح عقائدي، أو علماني، ليحكم نتيجة غرس الترابي. لكن المشكلة أن المنهجية الإسلامية في قراءة هذا الحال المؤسفة تصطدم بأي منهجية أخرى، إذ هي تنظر إلى هذا التمكين بوصفه تهديما لكفاءات الدولة العلمانية الموروثة من الاستعمار. فالإسلاميون، وهم يجتمعون كل مرة في مؤتمرهم العام، يتباهون بمنجزات إستراتيجية لهذا الأسلمة مع نقد خجول للتطبيق بيد أن هذه المنجزات في المحصلة العامة تمثل خصما على مصلحة البلاد العليا. ولذلك لا تساوي عندهم شيئا تلك الملايين من الدولارات، والتي ينفقونها في مؤتمرات لا تغني، ولا تسمن من جوع.

ولهذا السبب حين يرفض علي عثمان الاعتذار عن الانقلاب إنما هو في الأصل صادق مع نفسه. أي أن منظوره للانقلاب أنه هدف أساسا لتحطيم ما يسميها دولة الاستعمار، والإمبريالية، وأذنابهما. أي أنهم بهذه الوسيلة الاستبدادية يحلون الخير محل الشر. ولهذا يقصر الجميعابي في وصف الترابي بالأفعى، وأنى له هذا. فكل ما يفكر فيه حين يراجع التجربة هو غبنه تجاه زملائه الذين ضربوا شيخه على حين غرة. أما لسان حاله إزاء غبن الآخرين نحو شيخه فيقول: أشربوا من البحر.

ذلك لأن الجميعابي ببساطة يرى أن كل ما فعله الترابي الأسطورة انطوى على درع المفاسد، وجلب المنافع، ومرضاة الله. يحدث هذا مهما انهارت البنيات الاقتصادية الموروثة من الاستعمار، ومات مئات الآلاف في الحروب الأهلية، وتهدم النسيج الاجتماعي السوداني، أو هجرت البلاد الملايين من كفاءاتها، أو ضرب الفساد معاقل المسؤولين عن النظام. كل هذا الناتج من تدبير الترابي عند الجميعابي يعد من توافه الأمور التي لا تخدم قضايا التوجه الحضاري، وإلا لقال إن شيخه نفسه أفعى ما دام قد لدغ السودان الذي رعى تحصيله العلمي مثلما رعى هو تعليم تلاميذه الذين قدمهم للقيادة ثم لدغوه من حيث يحتسب، ولا يحتسب.


-2-
إذن فإن كل مراجعات الجميعابي تتفادى طرائف، وصنائع الترابي في أصلها، وتركز على هوامشها، وتغض الطرف عن كوارثها. بمعنى أنه يريد فقط تبرئة أفكار المشروع الحضاري الأساسية التي هندستها مخيلة الترابي التي شطرت البلاد لنصفين ليهاجم تيار المؤتمر الوطني الذي عطل تنفيذ كامل المشروع وفق خطط المهندس الأول. وهنا يبقى اختلافه مع أولئك الأفاعي في مقدار التكتيك، لا نوعه.

ما ينقص مراجعات الجميعابي لهذا التاريخ الدموي باسم الإسلام هو الصدق مع النفس. وغير ذلك فليس لدى الجميعابي المنهجية النقدية الصارمة التي تنجيه من الجهل بطرق النقد الذاتي السليم الذي يبتغي الإصلاح. فهو من ناحية مفتون بالترابي ولكنه ضنين من نقد أعماله. ومن ناحية أخرى يقصر شغله النقدي على الانتقام من التكنيك الذي اتبعه صغار الأفاعي الذين غدروا بشيخه أكثر من أن يأتي بحكمة ناقدة بعد التمهيد والمشاركة في كل هذا التخريب. ولقاءات الجميعابي، وتصريحاته الصحفية، مبتورة، وتعبر فقط عن صراع أبناء الحركة الإسلامية حول سبل الحفاظ على دور متواصل للإسلاميين في المشهد السياسي الذي أفسدوه.

وما من شك أن أولويات الجميعابي للإصلاح لا تأخذ في البال ضرورة إعادة النظر في الصياغات، والمقولات الفكرية التي أدت إلى تدمير البلاد، ووصول المشروع الحضاري إلى نفق مظلم. فلا يكفيه سرد تفاصيل الصراع بين أجنحة السلطة، ونسيان غياب الديموقراطية داخل التنظيم نفسه، والذي يقوم على الطاعة، والولاء لتعليمات الأمير، ثم الشيخ. ولعل هذه هي مشكلة كل الذين يقدمون أنفسهم كمبتدرين للنقد الذاتي الذي يقوم الاعوجاج السياسي في علاقته بالتفسير الديني.

ومن هنا يقع التناقض. فالإخوان المسلمون مهما تحكموا في الدولة القطرية فإنهم سيثيرون فيها جميع النعرات التي تفتت وحدة المجتمع لصالح وحدتهم. ويدركون تماما أنهم إن لم يفعلوا ذلك فإنهم لن يستطيعوا البتة تطبيق برامجهم المتكاملة. وما دام يقولون إن الإسلام السياسي يطرح نظرية متكاملة للحكم وللدولة معا فإنه لا يمكن أن يدخل الإخوان اللعبة الديموقراطية ليحكموا جولة انتخابية واحدة، أو اثنتين، ثم يعودوا لمقاعد المعارضة، هذا إذا كانوا يضعون في بالهم أن الديموقراطية ترسخ المؤسسات التي تحقق تبادلا سلميا للسلطة.

كذلك يدرك الإخوان في كل بلد أن الحكومات الائتلافية ليست خيارا معقولا لمزاولة الحكم كونهم يريدون أن تخلوا لهم الساحة وحدهم لإعادة هيكلية الدولة الموروثة برمتها. وإذا ائتلفوا فإن ذلك نابع من الذرائعية التي توصلهم للهدف النهائي، وساعتئذ يقلبون ظهر المجن للكل ليعيدوا قواعد اللعبة بناء على صمدية الرأي.


-3-
الحقيقة أن الجميعابي، وزملاءه، يستخدمون الديموقراطية وسيلة للانقضاض عليها. ولا ينظرون إليها بوصف أنها نظام تستقر بها الأوطان وتقدمها، وتحجم الحروب الأهلية، والصراعات المسلحة بين الدولة وطوائف من مواطنيها، ذلك لأنها تتناقض مع مرجعية الإخوان في الحكم. إذ يريد الأخ المسلم أن يكون رديفا للإله حتى يخلق له دولة خاصة به يكون هو حاكمها، ولا يشاركه أحد. أي أنهم هم وحدهم الذين يضعون التشريع، ويقيمون القضاء، وهم المنفذون، والقائمون على الإشراف على وسائل الرأي العام. وفِي هذه الحالة يصبح كل المكونات في الدولة مذعنة لما يقرروه على ألا تكون مشاركتها معهم في السلطة إلا بالاتباع، وهم فقط القيمون على كل أمر يخص الحاضر، والمستقبل، ما دام لديهم نظرية متكاملة لتسيير شؤونهما.

ومن هنا كان تفكير الترابي، مدفوعا بجماعته، ترسيخ استبداد الدولة بشكل كامل الدسم حتى يتسنى له إخضاع الجميعابي، ونحن معه، كقطيع لمرشد عام. فمجلس الشورى هو الذي يقرر وحده، وهو الذي يملك فهمًا واحدا لتفسير التاريخ، بينما يتم إقصاء مكونات الدولة الأخرى جميعها. وكل هذا التأسيس النظري للدولة الذي أدى إلى انهيار الأوضاع في البلاد ليس محل نقد، وإنما الذي يريده الجميعابي، والإسلاميون الذين يراجعون التجربة، هو ترقيع الجبة المثقوبة في كل مواضعها، لا البحث عن جبة جديدة بمشاركة جميع أهل الشأن، وهم قاطبة السودانيين.

لا، يريدكم الجميعابي أن ينبثق الحل لأزمات الحكم العضوض في السودان من خلال فكرهم هم والذي يستطصحب الحفاظ على مكتسبات المشروع الحضاري. بمعنى أن يكون الحل وفق نظرتهم هم لمفهوم العلاقة بين الدولة والدين، وليس اي إجماع قومي. وفِي هذا الجانب لا يرضى الإخوان بالضرورة بوجهة نظر مكونات إسلامية أخرى، أنصار سنة، أو اتحاديين، أو جمهوريين، أو أنصار حزب الأمة، ناهيك عن أحزاب، وحركات، وأفراد يتبنون شعار علمانية الدولة.
القادة الإسلاميون الذي يعارضون زملاءهم الحاكمين، ويصدرون من موقع الإصلاح السياسي، أمثال الجميعابي، يفتقرون للقدرات المعرفية. وهذا ناتج من محدودية، وانغلاق الركائز الفكرية، التي استندت عليها نظرية أسلمة الدولة. ضف إلى هذا ضعف الانفتاح الفكري لدى المنتمين للإخوان، والذين ظلوا منذ مراحل الثانوية والجامعة مستلبين أيديولوجيا، ولم يكن ليملكوا التفكير النقدي الحر. ولذلك تدجنت ذهنيتهم بمنهجية أحادية منغلقة في زمان تتراجع فيه التفسيرات الأحادية لمفاهيم الدين، والتاريخ، والدولة. وفوق كل هذا غابت معاني الصدق مع النفس، والإله، والمجتمع، وبالتالي بدا لنا الجميعابي ضليعا في استثمار سانحات لمواصلة التعتيم الديني، والسياسي، والوطني.


salshua7@hotmail.com
////////////////////

 

آراء