أمام بنك السودان مهمة لا يُحسد عليها

 


 

 



استقرت الوزارة الجديدة في كراسي الحكم في السودان، بعد أن تبارت الصحف في متابعة أخبار من قَبِل التكليف، ومن اعتذر، ومن دخل التشكيلة، ومن خرج منها، وعادت الأمور الآن إلى مجراها الطبيعي، واستيقظ الناس ليواجهوا نفس الأزمة التي ظلوا يعايشونها منذ مطلع هذا العام مع الزيادة المستمرة في معدلات التضخم، وارتفاع الأسعار، والمعاناة في الحصول على ضرورات الحياة، وهم أصلاً لم يتوقعوا حلاً لمشاكلهم بين يوم وليلة،
وقد لاحظوا مؤخراً أن حماس رئيس الوزراء لحساب الأداء بالساعات قد تراجع، وبدأ يتحدث عن أسابيع لحل مسألة السيولة، أو تحديد سياسات وآليات لشراء الذهب، الذي يبدو أن الوزارة تراهن عليه، لتعالج العجز في ميزان المدفوعات، وتقدر قيمته بخمسة مليارات، أي أنه يساوي الفجوة بين قيمة صادراتنا وقيمة الواردات، والحكومة ما زالت تتحدث عن 120 طناً، رغم أنه ليس هناك إحصاء دقيق لإنتاج التعدين الأهلي، والحكومة حين تتوقع من بنك السودان أن يعالج مشكلة شراء الذهب ومشكلة السيولة خلال أسابيع تُحمله مسؤولية تبدو فوق طاقته، لا بسبب ضعف في أدائه، ولكن لأن هذه القضايا متداخلة، وفي بعض جوانبها متقاطعة ومتعارضة.
إن اندفاع بنك السودان سابقاً لشراء الذهب كانت تداعياته على الاقتصاد كارثية، ولكي يوفر المال لشراء الذهب، انطلق بنك السودان يطبع أوراق العملة، ويدفع بها إلى الأسواق، لدرجة أن العملة المتداولة ارتفعت من 67 مليار جنيه مطلع العام إلى 88 ملياراً بنهاية يونيو الماضي، حسب إحصاءات البنك، وقد ذهب أغلب هذه الزيادة لشراء الذهب،
فماذا كانت النتيجة؟
النتيجة كانت هذا الارتفاع الحاد في التضخم، الذي تفيد آخر الإحصاءات أنه بلغ نهاية يوليو قرابة 68 %، وهو رقم يساوي أكثر من ثلاثة أضعاف النسبة التي أعلنتها الميزانية في أول العام (19.5 %).
وهكذا فإن الذهب الذي تم الحصول عليه لم يحل المشكلة، إنما زادها تعقيداً، والآن فإن بنك السودان يريد أن يعود لشراء الذهب بعد أن استوعب درس التجربة السابقة، ولا ينوي أن يطبع المزيد من النقود لشراء الذهب، ولكنه يريد أن يستغل موارد حقيقية، ولذلك هو يتجه الآن إلى واحد من خيارين:
الأول: أن تنشئ البنوك من فوائضها محفظة تشتري منها الذهب، أو تصدر صكوكاً يشتريها الناس بمدخراتهم، ويستغل البنك الحصيلة في شراء الذهب، في كلا الحالين تستثمر أموال حقيقية بدلاً من طباعة العملة،
أما الحل الثاني - إصدار الصكوك- فإنه يفترض أن لدى الناس مدخرات ما زالت باقية، وأنهم على استعداد لتقديمها للدولة، مقابل ربح سنوي مضمون، ونحن نشك في كلا الافتراضين، فقد أقرض الناس الدولة عبر الصكوك التي صدرت سابقاً، وما زالت قائمة، وتصاعد الدين الداخلي بدرجة ينبغي أن تثير القلق، ومع عدم الثقة الحالي، فأصحاب الفوائض سيهرعون نحو الدولار كمستودع للقيمة أو للادخار.
إن الذهب يختلف اختلافاً واضحاً عن النفط: النفط تمتلكه الحكومة، وحصيلته بكاملها تذهب لها، أما الذهب فهو ملك للمعدنين، ولا علاقة للحكومة به، وما يهمها هو حصيلته من العملات الأجنبية لتغطي الفجوة في ميزان المدفوعات، وبالتالي يصبح من المهم أن يكون ما تدفعه الحكومة من ثمن له يتماشى مع القيمة التي تعتمدها الحكومة للعملات الأجنبية، وخاصة الدولار،
ولكن للدولار وتلك العملات الأجنبية في السودان الآن سعران: السعر الرسمي التأشيري، وهو في حدود الثلاثين جنيهاً، وسعر السوق الموازي وهو يزيد عن هذا بـ 50 % المائة تقريباً، فأي السعرين ستعتمد الحكومة لشراء الذهب؟
إذا اعتمدت السعر التأشيري لن تجد بين المعدنين من يبيع لها، وسيصبح «التهريب» هو الوسيلة المفضلة لهم، إما إذا لجأ بنك السودان للسعر الموازي، فإنه يصبح مثله مثل المضاربين في الدولار، فهو سيرفع السعر؟
أم هل سيلجأ بنك السودان للتعويم الكامل، بدلاً من التعويم المدار المطبق حالياً؟ وهل سيعتمد استراتيجية توحيد السعر؟ وكيف يتم ذلك؟
كلها أسئلة لن نجد لها حلاً إلا بعد أن يكمل بنك السودان دراسة البدائل المتاحة له،
وقد يطول أمد الدراسة،
لأن أي مخرج يميل البنك للجوء إليه له إيجابياته وسلبياته،
بل وتداعياته على القضايا الأخرى.

 

آراء