أمثولة الدولة الوطنية:- تداعيات الحرب الطاحنة

 


 

 

في غياب رؤيةٍ وطنيةٍ ثاقبة وخطابٍ سياسيٍ مُحكم يُعَوِّل الكثيرون هذه الأيام على "استراتيجية الحسم العسكري" التي يتبعها الجيش السوداني في محاولته للقضاء على "التمرد" داخل العاصمة المثلثة رغم أنها استراتيجية أثبتت فشلها على ثلاثة أصعدة: دبلوماسية، مدنية وعسكرية. قبل أن نسترسل في التفصيل، يجب أن نقول إن الجماعة العسكرية التي ألحقت هذه الأضرار بالوطن وعجزت عن حماية المرافق الحيوية للدولة ، بل تركت المواطنين عرضةً للإذلال والمهانة، أقصد بالتحديد قيادة الجيش الحالية لأن الآخرين ليس عليهم عتب ، يجب أن تستقيل أو تُقال. إنّ الفشل في العسكرية والأعراف الدولية لا يُكافأ، بل يجازى ، ويحال مرتكبوه إلى المحكمة العسكرية. هل هذه دعوة "للانقلاب على الانقلاب" ومن ثمّ الدخول في الحلقة المفرغة؟ لا، بل هي تحذيرٌ منه.

على الصعيد الدبلوماسي لم تفلح قيادة الدولة متمثلة في مجلس السيادة في انتزاع اعتراف من أيٍّ من الدول الصديقة وغيرها يشير إلى مواجهة بين تمرد وجيش رسمي ، بل إن الكل يتعامل مع الجيش والدعم السريع على أنهما جهتان متعادلتان . وها هما الدولتان الراعيتان للهدنة، المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية تصرحان بوقوفهما على مسافة متساوية من الطرفين ، و تعزيان ذلك إلى عدم رغبتهما إعطاء أيٍّ من الفريقين مشروعية أخلاقية لا يستحقها.
يقول أحد الشباب في لجان المقاومة، محمد صالح حموكي، "إنّ انتصار أي الطرفين يعني الرجوع القهقرى نحو الدكتاتورية الشمولية العسكرية. تختلف الطرق وتتعدد المحاور والأقطاب الدولية والهدف واحد عسكرة الدولة وتكسير مساعي الديموقراطية والتعدي على تطلعات الشعب السوداني."

على الصعيد المدني هنالك كلفة بشرية ومادية هائلة من جراء القصف العشوائي، فلا يمكن أن نغض الطرف عن المعاناة الإنسانية التي تفاقمت بسبب غياب استراتيجية عسكرية وأمنية واضحة المعالم من شأنها القضاء على التفلتات العسكرية، تأمين حياة المواطنين والحفاظ على ممتلكاتهم. إن الجيش السوداني يستخدم الطيران والدبابات والمدفعية في ضرب أهدافٍ يعتبرها استراتيجية (داخل الأحياء السكنية)، بيد أنّه لا يحدد أهدافه بدقة كما لا يسعى لتشييد مرتكزات ولا يتبع ذلك الاستهداف بإنزال مشاة عسكريين للتمشيط وإلزام الشرطة عقب ذلك بالمرابطة داخل الأحياء التي استباح حرمتها المجرمون ، بعد أن كسرت أقفال البُيوت جماعةُ الدعم السريع وهي تدَّعي البحث عن قناصة أعلى البنايات!

على الصعيد العسكري، لم تشمل استراتيجية التصدي "للتمرد" العسكرية رؤية سياسية تحصر النزاع في الخرطوم وتحول دون تمدده ليشمل رقعة واسعة من أقطار البلاد، لا سيما أن لكلا الفريقين المتنازعين ارتكازاً في شتى مناحي البلاد. وقد كان حريُّ بالقائمين على الأمر أن يتحسبوا للحساسيات العرقية والاثنية الموجودة سلفاً بين مختلف مكونات الأقاليم الغربية، تحديداً دارفور وكردفان. كأن يُجروا اتصالات بقادة الوحدات ويبيّنوا لهم ضرورة التعاطي مع الأزمة من منظور ذاتي فينظروا إلى كيفية التوفيق بين الوحدات المعسكرات في إطارها المحلي، وقد نجحت في ذلك القيادات الأهلية في الضعين والفاشر اللتان نجحتا في جمع قادة الجيش والدعم السريع وحثتهما على أهمية القيام بواجبهما في درء الفتنة وضرورة تفويت الفرصة على المتربصين بالمرافق الحيوية للدولة والعازمين على إضرام نار العصبية والوقيعة بين أبناء الوطن الواحد. نحتاج أن نرمم ساحتنا الوطنية كي نستعد لمهمّة البناء التي تلي الحرب والدمار.

بالنظر إلى طبيعة الاحتكاكات وفشل القيادات السياسية والتنفيذية في تسكين المخاوف لدى المجموعات في الوطن كافة فقد اتسعت رقعة الحرب لتشمل مدناً كثيرة منها الابيض (إقليم كردفان) وزالنجي (وسط دارفور) والجنينة (غرب دارفور) ونيالا (جنوب دارفور)، واستعرت ضراوة الهوية مخلفةً خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، وما ذلك إلّا نتاج تقاعس و جبن السلطة المركزية، الذي بلغ مرحلة العجز حتى عن بث خطاب سياسي متزن ، يطمئن المواطن لحيادية القيادة ويبين عدم رغبتها في الانحياز لفصيل دون الآخر.

إنّ للصراع الدائر في الخرطوم جذوراً ثقافية لها صلة بتهميش التاريخ والتاريخ المهمش (اذا جاز لنا أن نستخدم تعبير الأستاذ حامد علي محمد نور)، وجذوراً اجتماعية لها صلة بالعنصرية وتمدد تجارة الرق تاريخياً عبر درب الأربعين، كما للصراع جذوراً اقتصادية لها صلة بالممارسات الطفيلية التي ما برحت تمارسها "النخب الانقاذية" حتى أوردت البلاد موارد الهلاك وحرمت الأقاليم الغربية من مجرد الاستفادة من هامش الربح الذي كانت تناله من الإتجار مع الجلابة في المحاصيل الزراعية، وجذوراً سياسية لها صلة بهيمنة المركز على المقررات في الشأن السيادي يشمل ذلك السياسات الخارجية والاقتصادية والعسكرية والقانونية الدستورية. هذا لا يبرر الجريمة التي حدثت في الخرطوم، إنّما يشرح مسببات الغبن الاجتماعي والسياسي الذي أخذ أبعاداً عسكرية كان من الممكن معالجته بالإقرار والحكمة. فالجريمة ليس لها دوافع عرقية، إنّما هي وليدة ظرف اجتماعي ونفسي محدد، وقديماً قيل "الجريمة كلب يتبع سيدو".

أعلم أنّ هناك أشخاصاً وجماعات أمثال دكتور عشاري أحمد محمود والروائي بركة ساكن لم يستطيعوا أن ينعتقوا من "سردية الجنجويد" فأهملوا كل الأسباب البنيوية والهيكلية التي تسبّبت في انهيار الدولة السودانية، واصطفوا مع الجيش السوداني، الذي كانوا غرماءه بالأمس، في سبيل إفشاء غبينة لم يُعْرَف كنهها تجاه كيانات بأكملها، هؤلاء نطلب منهم التريث كونهم من قادة الرأي ويعوّل عليهم في الخروج بالبلاد من وهدتها. لم ينتمِ من انتمى للدعم السريع لدوافع أيديولوجية أو عقائدية، هؤلاء شباب دفعتهم ظروف الفاقة للانتماء إلى كيان وفّر لهم بعض الضمانات المالية والمقومات الوظيفية. هل توجد من بينهم مجموعات إجرامية؟ نعم، كما توجد ذات المكونات في مجموعات عسكرية أخرى ارتكبت أقبح الفظائع في شتى بقاع السودان بل هيأت للمجرمين كافة التمدد دون رقيب أو حسيب وأمدتهم بالدعم اللوجستي وبكافة المعينات الحربية. عليه، فيجب أن ننظر لجذور المشكلة القومية ونسعى للتعاطي معها بصورة علمية بعيداً عن استثارة الضغائن والمحاولة للنيل من مجموعات قبلية بعينها، أو المحاولة للانتقام من كيانات مجازية تعشعش في مخيلة الروائيين والكُتّاب إياهم.

ختاماً، علينا تطويق المعركة الحالية (معنوياً ومادياً) بحيث لا تتعدى تداعيتها إلى الريف الذي يعاني أصلاً من الاشتعال ولا تتجاوز ويلاتها إلى غير المعنيين بها من العسكريين والمدنيين. كي يحصل ذلك لابد من تبني خطاب معتدل لا يسعى لتجريم كيانات تاريخية واجتماعية بعينها ولا يستدعي سرديات عدائية من شأنها أن تفرق بين أبناء الوطن الواحد. لابد من تضمين البعد الرؤيوي الذي يجعل المشروع الوطني جاذباً وفاعلاً يبدأ بإعداد استراتيجية تنمية وطنية تراعي المزايا النسبية لكل إقليم، تراجع قانون الأراضي وقانون الجنسية، تصمّم الخارطة الاستثمارية التي تُعنى بتطوير الموارد الطبيعية والبيئية، تهتم بالتحديث والتطوير المؤسسي الذي لا يمكن من دونه للتجربة الفدرالية أن تنجح، تعالج الإشكالات التربوية والتعليمية التي تُعد المواطن الصالح والمنتج، تعتمد أسس المواطنة القويمة ، تستقطب الطيور المهاجرة التي هي بمثابة الخزينة المعرفية للبلاد، وتطوِّر الإمكانات الذهنية والفكرية والثقافية والسياسية الإدارية للشباب الذي فجّر ثورة ديسمبر، فأولئك قومٌ يستحقون التبجيل، الرعاية والاعتناء.
✌🏼٥/٢٤

Auwaab@gmail.com

 

 

آراء