أنعيش في اللغة؟
غسان عثمان
6 November, 2022
6 November, 2022
مقدمة كتاب: (أنشودة الجن وأناشيد شيكسبير وتلودي وعتيق) للدكتور عبد اللطيف سعيد
صدر في 2022م كتاب "أنشودة الجن وأناشيد شيكسبير وتلودي وعتيق" للدكتور الأديب والمترجم والناقد عبد الطيف سعيد، وهو كتاب يدخل ضمن الكتابات التي تتمتع بقدر عالي من الجِدة، وقد قدم فيه المؤلف رؤية جديدة لنص (أنشودة الجن) لشاعرنا الكبير التيجاني يوسف بشير، وقد تشرفنا بكتابة مقدمة هذا الكتاب، وإن جاءت مقدمتنا حصراً على موضوع تحليله لقصيدة (أنشودة الجن) فإن الكتاب كذلك اشتغل على مقاربات نقدية بين أناشيد الشاعر الإنجليزي وليم شيكسبير وتلودي ووقوفاً عن بلاغة شاعرنا عتيق.
مجازات التيجاني العالية:
كيف يمكن للغة أن تكون الفاعلية الاجتماعية الوحيدة القادرة على البقاء حتى بعد فناء العالم!
يعاني السؤال النقدي في السودان أزمة خطاب، ولذا ظلت الدراسات النقدية التي تصدت لمعالجة إنتاجنا الأدبي في أغلبها مقيدة بقواعد مدرسية ظُن بها الكمال، وقدرت بألا داعي لمزيد من التركيب، وكأن النقد ليس أداة لتفريغ النص من حمولات التبسيط والمباشرة. ومن آثار هذه الطريقة في معرفة الذات (النقد هو التمييز) أنها تتوخى أدنى درجات الوعي لتقيم مظاهر تفسيرية فرض كفاية، لا جهاد بالوعي والنظر.
وكم فقدت نصوص كثيرة حياتها بسبب التأطير المعطل، والذي يأخذ من النص ما يكفيه، لا ما يريده النص من انفجار بالمقولة ليحقق فاعلية النقد تعظيماً للذائقة عبر الكشف المستمر عن المجاني من الكلام في الجمال، ولذا قل لي كيف يمكن لشاعر أن يعيش أكثر من نصه، فهاهو المتنبي لا يموت، ويتحكم حضوره في اللاوعي رغم تزاحم ناقديه عند عتباته، وهذا هو ما دفع بناقد خَطِر المِزاج ليعيد النظر في نصوص سودانية خالدة، وتتمتع بتعميم إلزامي هي وصاحبها رفقة أوهام تم تهذيبها لتلازم فهم النص ومبناه، وقاد الناقد في ذلك يقين معرفي راسخ بضرورة بناء وإعادة بناء الدلالة توسيعاً للآفاق لا نزولاً عند المُرسخ، يفعل ذلك وعياً منه بأنه طالما النص لا يزال يتمتع بحضور طاغي وثراء مجيد، فينبغي ألا يتوقف البحث فيه، وإلا كيف يعيش إن لم يكن شديد الخصوبة وولاّد دون وازع، ولأن ناقدنا يعرف هوية الإبداع كونه محاولة لبناء جسر بين العالم والذات، وتتفق في ذائقته النقدية مثابات تتملى بالوقائع، وتعرف كيف تفكك المعنى، ولذا أطلقنا عليه وصف (خطر المزاج) بأوبته الذكية، وما يحمله من ملكات تجوس بعدةٍ جمالية فاحصاً بها النصوص دون أن تسحره طلاقة الرمز وبلاغته، يتعمق أكثر دون إغراء للانصراف بعيداً بغية الوصول.
إن الدكتور عبد اللطيف سعيد من النقاد السودانيين القلائل الذين لم تحجبهم دروس النقد المدرسي على افتراج المسارب، وتركيب الدروب لفهوم متنوعة يصبها على متون النصوص مفرجاً عن براءة الكثير منها، فعل ذلك بحرفية عالية وهو يقرأ نص (أنشودة الجن) لشاعر الشك والجمال التيجاني يوسف بشير (1912 – 1937م) ولمن يعرف التيجاني جيداً يفهم لماذا آل المؤلف على نفسه توفير مواكبة خلاّقة دفنتها طرائق الوعي في التناول السوداني للشعر كونه إذا موسق فهذا حكم بثانيته لا مجال للصدارة للكلام، يحدث ذلك وسط طغيان التنغيم درس بلا قواعد.
وقصيدة "أنشودة الجن" فتن بها المستمع السوداني ويكاد يكون حافظاً لإيقاعها، أيكون لأننا نحب سيد خليفة؟ ولذا استقبلنا هذه القصيدة مغناة ولم نكلف أنفسنا طرح أسئلة وضعها التيجاني في بوابات قصيدته حتى جاء المؤلف ليرمي بقول آخر، وهذا دليل على عمق معرفته بجوهر رؤية التيجاني، فلم يكن الرجل شاعراً يريد بالنظم تأكيد بلاغته في توظيف اللغة، بقدر ما أراد أن يستخدم الشعر لصالح الرمز، ومن دلائل ذلك ما قال به شاعرنا الكبير عبد الله الشيخ البشير (1928-1994م) والذي في نظرنا يكون قد لائم بين تأويل المؤلف وشخصية التيجاني فلولا طبيعة الشك المنهجي عند ناقدنا لما استطاع أن يقف بمهارة أمام شك من نوع عظيم، شكٌ وجودي تملك التيجاني أو كما قال عبد الله الشيخ البشير في مذكراته: (التيجاني في شكه كان ابن ظروف عصره اجتماعياً وثقافياً، فكل ما حوله متصارع مهتز. وكان في رحلته للبحث عن اليقين مجاهداً صادق الاجتهاد في السعي نحو المعرفة سلك لها مسالك شتى عن طريق العقل..) - راجع: فيض الذاكرة – أحاديث في الأدب والثقافة مع الأستاذ عبد الله الشيخ البشير- إعداد: فرح عيسى محمد- حوارات (الطيب محمد الطيب- عبد الله علي إبراهيم- صلاح عمر الصادق) – عزة للنشر- 2003- صفحة (48).
وبدافع هذا الشك أراد المؤلف أن يعيد لنا صلاحية نص "أنشودة الجن"، والصلاحية التي نشير هي شيء شبيه بما يسمى بـ"أخلاقيات اللغة" أي أن اللغة لا تعيش دون أن تتمسك بالأنا، ولذا فإن فصل الذات عن الموضوع ورغم ما ألقي عليه من رماد الحداثة، إلا أن الذات تظل محركاً رئيساً ومفعولها في الإنتاج الأدبي لا يمكن خلعه لمجرد أن رولان بارت (1915- 1980م) قرر في لحظة تبسيط أن النص ينبغي يعيش خارج صاحبه، بل وينبغي إماتته بالقوة لصالح حياة أطول للصورة الإبداعية، ورغم التأييد الذي قوبل به "بارت - Roland Barthes" في الدوائر الفلسفية والنقدية، إلا أنه لا يمكن تطبيق هذا الفرضية على نصوص عربية، وبالتالي انتبه المؤلف إلى علاقة التيجاني – حياته، انكساراته، تكوينه المعقد...إلخ علاقة كل ذلك بمشروعه الشعري، وبالأخص ما أخضعه ناقدنا للتشريح من جديد وهي "أنشودة الجن" والتي أراد المؤلف بعمله هذا الكشف عن الشبكة غير المرئية في هذه الأنشودة، ولعل المؤلف وبسبب من سعة إطلاعه على تيارات النقدية الجديدة يعرف أن جسم النص ما هو إلا حامل للذات، أي أن توصيف الشيء كونه (قصيدة – لوحة – قالب موسيقى...إلخ) لا يعدو إلا أن يكون وصف لرافعة ومرايا لا تملك سلطتها على المحتوى، وهذا عين ما يقول به جاك دريدا فإنه يُعرّف "العلامة" وعلاقتها بالحدود في اللغة، بأن أي تضخم للعلامة هو في حقيقته تضخم العلامة بالذات، لا بنفسها هي، وكما يقول دريدا: "إنه التضخم المطلق، التضخم بذاته. ويكشف أكثر بأنه لا يزال هذا التضخم يؤمى من خلال وجه له أو ظل.." وهذا يفيد عندنا أن المؤلف لم يكتف بالسائد من فهم شعر التيجاني، بل يسعنا القول بأنه أول ما قام بتشريح نقدي لهذه الأنشودة التي ظلت حبيسة الطرب الغشوم.
وبالعودة إلى دريدا فإنه يشير إلى أن اللغة في حالة تضخم العلامة (اللغة باللغة وبالذات والسياق) تجد نفسها مهَدَّدة في حياتها، ضائعة، ومُبلبلةً لكونها لم تعد تعرف حدوداً، ومحالة إلى تناهيها الخاص (وهذا عين ما وقع عليه المؤلف في تأويله الجديد لنص التيجاني) وفي هذه اللحظة (كونها غير قابلة لاستثمار العلامة بالصورة الأوفى) التي تبدو فيها حدودها آخذة في الإمحاء في اللحظة التي لا تعود فيها اللغة متطامنة على مصيرها، مؤطرة، ومحفوظة (بالتداول يعني) بالمدلول غير المتناهي الذي كان يبدو وهو يفيض عنها أو يتجاوزها."- راجع: دريدا: الكتاب والاختلاف: ترجمة كاظم جهاد- تقديم: محمد علال سيناصر – دار توبقال للنشر- الطبعة الثانية 2000م.
ولماذا جاك دريدا الذي يريد أن يشرح لنا علاقة الذات بالنص، فالكتابة في أصلها ذات طبيعة علائقية وهذا ما يشير إليه ابن خلدون في مقدمته، علاقة بين الخط والكتابة، ولذا فإنها صنعة تتصل بالمحتوى والحامل، يقول: "الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وهي رسوم وأشكال حرفية على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس". – راجع: المقدمة- الجزء الثاني: (ص417).
وفي هذا الكتاب فإن جملة الأسئلة التي طرحها المؤلف حول قصيدة التيجاني "أنشودة الجن" تجدنا في اتفاق معه في أحقية طرحها، وليس بالضرورة حول نتائجه، وهو في كتابه هنا يقول: " لا تجد في السودان من له "أدنى مسكة من أدب" إلا وهو يحفظ "أنشودة الجن" للشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير.. كلنا إذن نحفظ ونغني ونرقص مع "أنشودة الجن" .. ولكنني لما تفحصت القصيدة فوجئت بأننا نفعل كل ذلك مع أنه لا أحد من يعرف: ما هي "أنشودة الجن"!.
ثم يبدأ في تفكيك النص لا ليثبت تأويلاً جديداً فحسب بل ليقول: "من هو طرير الشباب هذا؟" ولأن هذه الأنشودة قد احتشدت بالرمز حتى فاض عنها فإننا هنا أمام كتابة جديدة لنص مغموض بالكناية مشدود على أوتار الاستعارة، وكون البعض أشار إلى أن المؤلف بعمله هذا ينتمي إلى التحليل الصوفي/العرفاني، فلعمري هذا توصيف دقيق لا ينطبق فقط على شغل المؤلف بل على حقيقة مشروع التيجاني يوسف بشير، فحتماً كان التيجاني يقرأ بكثافة في نصوص غنوصية/عرفانية وبالتحديد نصوص الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي (1164م - 1240م) والذي يتخفى في نصوص التيجاني بشكل تتطابق فيه الرؤية بينهما، (لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ) وقول التيجاني كما أشار المؤلف (آمَنت بِالحُسن بَرداً وِبِالصَبابة نارا- وَبِالكَنيسة وَمَن طافَ حَولَهُ وَاِستَجارا)، إن مشروع التيجاني مجازات كبرى، ولذا فإن الانصراف ناحية السطح فيها لا يعدو محاولة شديدة الطفولة لفهم تضاريس الوعي المركب بالقوة، وما نجده هنا من تحليل جديد لـ"أنشودة الجن" عمل غير مسبوق في ساحتنا النقدية التي يمكننا وصفها بالسكونية.
وللمؤلف كسب أصيل كونه لا يريد للنقد صفته المعلنة بأنه "كشف للعيوب" بل هو أداة لإثبات تهافت النصوص أو سلامتها الجمالية. شكري الكبير للدكتور عبد اللطيف سعيد أن شرفني بكتابة كلمات في حق شغله المتين.
ghassanworld@gmail.com
////////////////////////
صدر في 2022م كتاب "أنشودة الجن وأناشيد شيكسبير وتلودي وعتيق" للدكتور الأديب والمترجم والناقد عبد الطيف سعيد، وهو كتاب يدخل ضمن الكتابات التي تتمتع بقدر عالي من الجِدة، وقد قدم فيه المؤلف رؤية جديدة لنص (أنشودة الجن) لشاعرنا الكبير التيجاني يوسف بشير، وقد تشرفنا بكتابة مقدمة هذا الكتاب، وإن جاءت مقدمتنا حصراً على موضوع تحليله لقصيدة (أنشودة الجن) فإن الكتاب كذلك اشتغل على مقاربات نقدية بين أناشيد الشاعر الإنجليزي وليم شيكسبير وتلودي ووقوفاً عن بلاغة شاعرنا عتيق.
مجازات التيجاني العالية:
كيف يمكن للغة أن تكون الفاعلية الاجتماعية الوحيدة القادرة على البقاء حتى بعد فناء العالم!
يعاني السؤال النقدي في السودان أزمة خطاب، ولذا ظلت الدراسات النقدية التي تصدت لمعالجة إنتاجنا الأدبي في أغلبها مقيدة بقواعد مدرسية ظُن بها الكمال، وقدرت بألا داعي لمزيد من التركيب، وكأن النقد ليس أداة لتفريغ النص من حمولات التبسيط والمباشرة. ومن آثار هذه الطريقة في معرفة الذات (النقد هو التمييز) أنها تتوخى أدنى درجات الوعي لتقيم مظاهر تفسيرية فرض كفاية، لا جهاد بالوعي والنظر.
وكم فقدت نصوص كثيرة حياتها بسبب التأطير المعطل، والذي يأخذ من النص ما يكفيه، لا ما يريده النص من انفجار بالمقولة ليحقق فاعلية النقد تعظيماً للذائقة عبر الكشف المستمر عن المجاني من الكلام في الجمال، ولذا قل لي كيف يمكن لشاعر أن يعيش أكثر من نصه، فهاهو المتنبي لا يموت، ويتحكم حضوره في اللاوعي رغم تزاحم ناقديه عند عتباته، وهذا هو ما دفع بناقد خَطِر المِزاج ليعيد النظر في نصوص سودانية خالدة، وتتمتع بتعميم إلزامي هي وصاحبها رفقة أوهام تم تهذيبها لتلازم فهم النص ومبناه، وقاد الناقد في ذلك يقين معرفي راسخ بضرورة بناء وإعادة بناء الدلالة توسيعاً للآفاق لا نزولاً عند المُرسخ، يفعل ذلك وعياً منه بأنه طالما النص لا يزال يتمتع بحضور طاغي وثراء مجيد، فينبغي ألا يتوقف البحث فيه، وإلا كيف يعيش إن لم يكن شديد الخصوبة وولاّد دون وازع، ولأن ناقدنا يعرف هوية الإبداع كونه محاولة لبناء جسر بين العالم والذات، وتتفق في ذائقته النقدية مثابات تتملى بالوقائع، وتعرف كيف تفكك المعنى، ولذا أطلقنا عليه وصف (خطر المزاج) بأوبته الذكية، وما يحمله من ملكات تجوس بعدةٍ جمالية فاحصاً بها النصوص دون أن تسحره طلاقة الرمز وبلاغته، يتعمق أكثر دون إغراء للانصراف بعيداً بغية الوصول.
إن الدكتور عبد اللطيف سعيد من النقاد السودانيين القلائل الذين لم تحجبهم دروس النقد المدرسي على افتراج المسارب، وتركيب الدروب لفهوم متنوعة يصبها على متون النصوص مفرجاً عن براءة الكثير منها، فعل ذلك بحرفية عالية وهو يقرأ نص (أنشودة الجن) لشاعر الشك والجمال التيجاني يوسف بشير (1912 – 1937م) ولمن يعرف التيجاني جيداً يفهم لماذا آل المؤلف على نفسه توفير مواكبة خلاّقة دفنتها طرائق الوعي في التناول السوداني للشعر كونه إذا موسق فهذا حكم بثانيته لا مجال للصدارة للكلام، يحدث ذلك وسط طغيان التنغيم درس بلا قواعد.
وقصيدة "أنشودة الجن" فتن بها المستمع السوداني ويكاد يكون حافظاً لإيقاعها، أيكون لأننا نحب سيد خليفة؟ ولذا استقبلنا هذه القصيدة مغناة ولم نكلف أنفسنا طرح أسئلة وضعها التيجاني في بوابات قصيدته حتى جاء المؤلف ليرمي بقول آخر، وهذا دليل على عمق معرفته بجوهر رؤية التيجاني، فلم يكن الرجل شاعراً يريد بالنظم تأكيد بلاغته في توظيف اللغة، بقدر ما أراد أن يستخدم الشعر لصالح الرمز، ومن دلائل ذلك ما قال به شاعرنا الكبير عبد الله الشيخ البشير (1928-1994م) والذي في نظرنا يكون قد لائم بين تأويل المؤلف وشخصية التيجاني فلولا طبيعة الشك المنهجي عند ناقدنا لما استطاع أن يقف بمهارة أمام شك من نوع عظيم، شكٌ وجودي تملك التيجاني أو كما قال عبد الله الشيخ البشير في مذكراته: (التيجاني في شكه كان ابن ظروف عصره اجتماعياً وثقافياً، فكل ما حوله متصارع مهتز. وكان في رحلته للبحث عن اليقين مجاهداً صادق الاجتهاد في السعي نحو المعرفة سلك لها مسالك شتى عن طريق العقل..) - راجع: فيض الذاكرة – أحاديث في الأدب والثقافة مع الأستاذ عبد الله الشيخ البشير- إعداد: فرح عيسى محمد- حوارات (الطيب محمد الطيب- عبد الله علي إبراهيم- صلاح عمر الصادق) – عزة للنشر- 2003- صفحة (48).
وبدافع هذا الشك أراد المؤلف أن يعيد لنا صلاحية نص "أنشودة الجن"، والصلاحية التي نشير هي شيء شبيه بما يسمى بـ"أخلاقيات اللغة" أي أن اللغة لا تعيش دون أن تتمسك بالأنا، ولذا فإن فصل الذات عن الموضوع ورغم ما ألقي عليه من رماد الحداثة، إلا أن الذات تظل محركاً رئيساً ومفعولها في الإنتاج الأدبي لا يمكن خلعه لمجرد أن رولان بارت (1915- 1980م) قرر في لحظة تبسيط أن النص ينبغي يعيش خارج صاحبه، بل وينبغي إماتته بالقوة لصالح حياة أطول للصورة الإبداعية، ورغم التأييد الذي قوبل به "بارت - Roland Barthes" في الدوائر الفلسفية والنقدية، إلا أنه لا يمكن تطبيق هذا الفرضية على نصوص عربية، وبالتالي انتبه المؤلف إلى علاقة التيجاني – حياته، انكساراته، تكوينه المعقد...إلخ علاقة كل ذلك بمشروعه الشعري، وبالأخص ما أخضعه ناقدنا للتشريح من جديد وهي "أنشودة الجن" والتي أراد المؤلف بعمله هذا الكشف عن الشبكة غير المرئية في هذه الأنشودة، ولعل المؤلف وبسبب من سعة إطلاعه على تيارات النقدية الجديدة يعرف أن جسم النص ما هو إلا حامل للذات، أي أن توصيف الشيء كونه (قصيدة – لوحة – قالب موسيقى...إلخ) لا يعدو إلا أن يكون وصف لرافعة ومرايا لا تملك سلطتها على المحتوى، وهذا عين ما يقول به جاك دريدا فإنه يُعرّف "العلامة" وعلاقتها بالحدود في اللغة، بأن أي تضخم للعلامة هو في حقيقته تضخم العلامة بالذات، لا بنفسها هي، وكما يقول دريدا: "إنه التضخم المطلق، التضخم بذاته. ويكشف أكثر بأنه لا يزال هذا التضخم يؤمى من خلال وجه له أو ظل.." وهذا يفيد عندنا أن المؤلف لم يكتف بالسائد من فهم شعر التيجاني، بل يسعنا القول بأنه أول ما قام بتشريح نقدي لهذه الأنشودة التي ظلت حبيسة الطرب الغشوم.
وبالعودة إلى دريدا فإنه يشير إلى أن اللغة في حالة تضخم العلامة (اللغة باللغة وبالذات والسياق) تجد نفسها مهَدَّدة في حياتها، ضائعة، ومُبلبلةً لكونها لم تعد تعرف حدوداً، ومحالة إلى تناهيها الخاص (وهذا عين ما وقع عليه المؤلف في تأويله الجديد لنص التيجاني) وفي هذه اللحظة (كونها غير قابلة لاستثمار العلامة بالصورة الأوفى) التي تبدو فيها حدودها آخذة في الإمحاء في اللحظة التي لا تعود فيها اللغة متطامنة على مصيرها، مؤطرة، ومحفوظة (بالتداول يعني) بالمدلول غير المتناهي الذي كان يبدو وهو يفيض عنها أو يتجاوزها."- راجع: دريدا: الكتاب والاختلاف: ترجمة كاظم جهاد- تقديم: محمد علال سيناصر – دار توبقال للنشر- الطبعة الثانية 2000م.
ولماذا جاك دريدا الذي يريد أن يشرح لنا علاقة الذات بالنص، فالكتابة في أصلها ذات طبيعة علائقية وهذا ما يشير إليه ابن خلدون في مقدمته، علاقة بين الخط والكتابة، ولذا فإنها صنعة تتصل بالمحتوى والحامل، يقول: "الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وهي رسوم وأشكال حرفية على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس". – راجع: المقدمة- الجزء الثاني: (ص417).
وفي هذا الكتاب فإن جملة الأسئلة التي طرحها المؤلف حول قصيدة التيجاني "أنشودة الجن" تجدنا في اتفاق معه في أحقية طرحها، وليس بالضرورة حول نتائجه، وهو في كتابه هنا يقول: " لا تجد في السودان من له "أدنى مسكة من أدب" إلا وهو يحفظ "أنشودة الجن" للشاعر الكبير التيجاني يوسف بشير.. كلنا إذن نحفظ ونغني ونرقص مع "أنشودة الجن" .. ولكنني لما تفحصت القصيدة فوجئت بأننا نفعل كل ذلك مع أنه لا أحد من يعرف: ما هي "أنشودة الجن"!.
ثم يبدأ في تفكيك النص لا ليثبت تأويلاً جديداً فحسب بل ليقول: "من هو طرير الشباب هذا؟" ولأن هذه الأنشودة قد احتشدت بالرمز حتى فاض عنها فإننا هنا أمام كتابة جديدة لنص مغموض بالكناية مشدود على أوتار الاستعارة، وكون البعض أشار إلى أن المؤلف بعمله هذا ينتمي إلى التحليل الصوفي/العرفاني، فلعمري هذا توصيف دقيق لا ينطبق فقط على شغل المؤلف بل على حقيقة مشروع التيجاني يوسف بشير، فحتماً كان التيجاني يقرأ بكثافة في نصوص غنوصية/عرفانية وبالتحديد نصوص الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي (1164م - 1240م) والذي يتخفى في نصوص التيجاني بشكل تتطابق فيه الرؤية بينهما، (لقد صارَ قلـبي قابلاً كلَ صُـورةٍ .. فـمرعىً لغـــــزلانٍ ودَيرٌ لرُهبـَــــانِ) وقول التيجاني كما أشار المؤلف (آمَنت بِالحُسن بَرداً وِبِالصَبابة نارا- وَبِالكَنيسة وَمَن طافَ حَولَهُ وَاِستَجارا)، إن مشروع التيجاني مجازات كبرى، ولذا فإن الانصراف ناحية السطح فيها لا يعدو محاولة شديدة الطفولة لفهم تضاريس الوعي المركب بالقوة، وما نجده هنا من تحليل جديد لـ"أنشودة الجن" عمل غير مسبوق في ساحتنا النقدية التي يمكننا وصفها بالسكونية.
وللمؤلف كسب أصيل كونه لا يريد للنقد صفته المعلنة بأنه "كشف للعيوب" بل هو أداة لإثبات تهافت النصوص أو سلامتها الجمالية. شكري الكبير للدكتور عبد اللطيف سعيد أن شرفني بكتابة كلمات في حق شغله المتين.
ghassanworld@gmail.com
////////////////////////