أهازيج الحرب الأهليَّة لديبي قراف: النُّوبة في زمن الغناء من أجل البقاء
shurkiano@yahoo.co.uk
في أصقاع السّودان النائيَّة، حيث تقع جبال النُّوبة، حارب شعب النُّوبة الفخور في سبيل المحافظة على أسلوب حيواتهم ضد سياسات الخرطوم الاستئصاليَّة. ولسنا نتزيَّد إن ذهبنا إلى القول إنَّ تعدُّد الهُويَّات لهو الاستفزاز الأكبر للسلطة "الخرطوميَّة"، إن لم يكن الأكثر على الإطلاق في خضم الاعتصاب الإيديولوجي للفكرة الواحدة والوحيدة؛ و"جريمة" الضحايا – إن كانت هذه ثمة جريمة – دوماً أنَّهم "أخطأوا" و"يخطئون" على الدوام كونهم مختلفين – لا متماثلين – أي أنَّهم جميعاً ودون تمييز بينهم لا ينتمون إلى هُويَّة الفرقة الموغلة في إجرامها الأكثر دمويَّة والأعظم شراً. وما هذا القول هنا سوى التعبير الأكثر قسوة ووضوحاً عن غريزة الموت الماثلة في تلك الطائفة من البشر، حتى أمسى شغلهم الشاغل. إذ لم نتعمَّد في هذه الفقرة استعمال لغة المقادير والمقاييس ومفردات التمييز المعياري (الأكثر والأعظم) ليتبدَّى تعبيريَّاً فارغاً، وإنَّما فرضتها مناسبة المضاهاة والمقارنة، حتى بات الأمر لا مندوحة عنه في الجملة.
بادئ ذي بدء، لم تنقطع الموسيقى في يوم ما عن جبال النُّوبة في السُّودان. فلتجدنَّ في الوادي، حيث ينمو العشب أطول من جسم الإنسان، امرأة تصدح بأغنية في مزرعها على الروابي الخضراء. وهناك صبي يفشي سراً عاطفيَّاً من غير تفكير ومن خلال تبويق الاستيقاظ صباحاً. وهذه الموسيقي في المجتمع النُّوبوي تبدو في عداد البداهات، سواءاً كانت صادرة من بوق قرن غنم، أو مصدرها أيَّة آلة موسيقيَّة تقليديَّة أخرى. فكلما اقتربت لتسمعنَّ نغمات أغنية نابعة من الربَّابة، وهي آلة موسيقيَّة تقليديَّة مصنوعة من أسلاك وقرع. وكل فتى نوبوي يكتب أشعاره الغنائيَّة – أو لنقل يألِّف كلماته الموسيقيَّة – ويلحّنها. ولعدة سنوات خلت كانوا يتغنون للحب، أو للهدايا البسيطة التي يمنحها الفتى للفتاة في سبيل الحصول على حبها وودها، أو للأيام التي يقضيها مشياً على قمم الجبال من أجل مشاهدتها. أما الآن فهناك شيء للتغني في سبيله. فالشعر الغنائي المنبعث من أنف الجبل لربما حكى عن بطل أسود قُتل في معركة، أو هروباً بأعجوبة من كمين عسكري. والأغنيَّة ذاتها يمكن أن تتخللها نيران مدافع الهاون بين عشيَّة وضحاها، أو قصف جوي بواسطة طيران الحكومة. وربما تغنى الطفل عن قرية محروقة، أو أخت تمَّ اختطافها لتصير عبدة. ومع هذا سيكون من الظلم أن ننظر إلى هذه الألحان في مجملها نظرة تقلِّل من شأنها موسيقيَّاً. فالفنان هنا – وعلى وجه اليقين – يبذل أقصى جهده لصوغ ألحان ملائمة يحرص على أن تتماشى مع المناخ العاطفي أو الاجتماعي أو السياسي. وهذا الفن، أو اللحن، نمط من أنماط التواصل بين الإنسان والإنسان، حيث أنَّ التواصل النفسي والذهني أكثر أريحية وجمالاً.
إذ تنبعث أهازيج الحرب الجديدة(1) عند النُّوبة من الخطة المرسومة بواسطة الطغمة العسكريَّة الإسلامويَّة في الخرطوم لتدمير أسلوب حياتهم التي يحييونها. وهي حملات الاختطافات، حرق المحاصيل، نهب الأبقار، التلقين الدِّيني والقتل، الذي حذَّرت منه منظمة "أفريكان رايتس"، وهي واحدة من المنظمات القليلة التي وصلت إلى جبال النُّوبة لدراسة مأساتهم مباشرة، واستقاء الأخبار من مصادرها الأولى؛ وحذَّرت – فيما حذَّرت – بأنَّ سياسة حكومة الخرطوم تجاه النُّوبة لسوف تقود إلى الإبادة. وكان أكثر الأمور انزعاجاً – وبرغم من عمليَّة الإغاثة التي قامت بها الأمم المتحدة، والتي قُدِّرت بملايين الدولارات إلى بعض المناطق المتأثرة بالحرب في السُّودان – هو استمرار الإرهاب في جبال النُّوبة بسريَّة تامة. ومنذ مستهل التسعينيَّات، وحين أفرزت الحرب الأهليَّة في السُّودان مجاعة طاحنة، أخذت الأمم المتحدة ومعظم وكالات الإغاثة تساوم حكومة الخرطوم على أنَّها سوف تخدم الأماكن التي تقع تحت سيطرة التمرُّد، ولكن في جنوب السُّودان فقط. وكان إذا جلس مفاوضو الحكومة السُّودانيَّة من طرف، والحركة الشعبيَّة من طرف آخر، والمنظَّمات الإنسانيَّة من طرف ثالث للتداول في أمر إغاثة المدنيين المتأثِّرين بالحرب كانت الحكومة السُّودانيَّة تصر على أنَّه متى ما أطلَّت مسألة إغاثة النُّوبة من هذا الباب لسوف نخرج من ذاك النافذة. وفي نهاية الأمر يتفق الطرفان على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أهل الجنوب، عملاً بالقول القائل أخذ قليله خير من ترك جله، وأضحى شعب النُّوبة ضحيَّة هذه الموازين. واستمرَّت حكومة الخرطوم في قصف جبال النُّوبة، وأخذت تدَّعي بأنَّها خارجة عن نطاق الحرب، ومن ثمَّ إنَّها خارجة عن إطار المساعدات الإنسانيَّة. إذ أنَّ طبيعة جبال النُّوبة تعتبر منطقة صعبة المراس في إدارة الحرب. فلم تكن هناك سيارات، ولا طرق معبدة، ولا أطباء بتاتاً، ولا دواء. وما يزال أغلب النُّوبة يعيشون اليوم الحياة التي كانوا يحييونها قبل عدة قرون خلت، دون الحصول على بضائع مصنوعة، باستثناء بعض المواد اللحظيَّة مثل الملبوسات أو حذاء مصنوع من إطار السيارات البالية، أو بنادق الكلاشنيكوف الواسعة الانتشار.
كل التقارير كانت تصف الحرب الأهليَّة السُّودانيَّة، التي استعرت منذ العام 1955م، أنَّها حرب دينيَّة بين العرب المسلمين في الشمال من جهة، والسود غير المسلمين في الجنوب من جهة أخرى، ولكن بعضاً من قبائل السود في جبال النُّوبة يمكن أن يكون سكانها مسيحيين، مسلمين، معتنقي كريم المعتقدات الإفريقيَّة أو خليط من هذه الثلاثة. التسامح الدِّيني عميق وسط النُّوبة، فلتجدنَّ المساجد والكنائس مشيَّدة جنباً إلى جنب، والطفل المسيحي قد يسمى محمداً، وفي الحين ذاته يكون أعزّ أصدقائه مسلماً يُقال له جيمس.
وليست للنُّوبة مصلحة في أن يكون لأهل الجنوب دولة مستقلة. إذ أنَّ أغلبهم يقرُّون بأنَّ الأمل الوحيد في البقاء يكمن في سودان موحَّد، شامل ومتسامح؛ هذه الفكرة هي التي تثير غضب الحكومة الإسلامويَّة في الخرطوم، والتي تصر على أن يبقى السُّودان – وبخاصة الشمال – دولة عربيَّة تُحكم بواسطة القوانين الإسلاميَّة. منذ استقلال السُّودان العام 1956م، ظلَّ أكثر من 600 قبيل في هذه الدولة التي تعد الأكبر في إفريقيا تحت سيطرة أنظمة شماليَّة-عربيَّة. وفي الجنوب غير المسلم أشعلت هذه السيطرة شرارة حرب استمرّت ردحاً من الزَّمان، ولكن كانت ردة الفعل ملتبسة عند القبائل الزنجيَّة المنتشرة في الشمال، ووجد بعض من النُّوبة بهجة في هجر الهجر كله سبل حيواتهم التي كانوا يحييونها، وتبنّوا طرائق العرب في سبيل قبولهم في المجتمع الحضري. وقد صمَّمت الحكومة المركزيَّة منهجها التعليمي لتحويل الأطفال الأفارقة إلى عرب. كان تلامذة المدارس يُجلدون لأنَّهم يتكلَّمون بلسانهم الأم دون اللغة العربيَّة. وقد نشأ القائد يوسف كوة مكي، الذي كان يقود الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان في جبال النُّوبة، دون أن يعرف كلمة واحدة من لغته القوميَّة. وحتى وصوله المرحلة الثانويَّة، كان يعتقد بأنَّه عربي. ومن ثمَّ جاءه الإدراك كل الإدراك. إذ قال: "سألت المعلم هل أنا عربي؟" فأجاب الأخير: "نعم." وألحَّ يوسف في السؤال: "ما الذي يشير بأنني عربي؟" فرد المعلم: "ملامحك." ومن هنا تبسَّم يوسف ضاحكاً، واستطرد قائلاً: "بالطبع، ليس بالملامح استطيع أن أكون عربيَّاً؛ ولا أستطيع أن أقف أمام الملك فهد (العاهل السعودي الراحل العام 2005م) وأقول إنَّني لعربي؛ هذا غباء؛ إنَّني لأسود."
على أيَّة حال، ولج يوسف كوة ميدان السياسة في السبعينيَّات حين كان السَّلام يعم السُّودان لفترة وجيزة (1972-1983م). وحين أسس الدكتور جون قرنق الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان العام 1983م قرَّر يوسف كوة أنَّ شعبه ينتمي إلى صفوف الجنوبيين، وقام باتصالات مع الدكتور قرنق في إثيوبيا، وتلقى تدريباً في حرب العصابات، وسرعان ما عاد إلى جبال النُّوبة لتجنيد المحاربين الأشداء الأقوياء. أما الحكومة، التي خافت من انتشار النزِّاع وامتداده إلى الشمال، فقد استخدمت سياسة العصا الغليظة وبوحشيَّة شديدة، مما أجبر أناس مسالمين – ولربما كانوا قد بقوا غير مبالين – في الوقوع في أحضان الجيش الشعبي لتحرير السُّودان. وقد قامت حكومات الخرطوم بتشجيع قبائل العرب على شن هجمات على النُّوبة، ونهب مواشيهم، واختطاف نسائهم وأطفالهم كأرقاء. أما قادة النُّوبة فتعرَّضوا للاعتقالات والسجون والتعذيب والقتل خارج نطاق القضاء.
وكان من بين الذين توسَّم فيه أهل الحكومة في الثمانينيَّات خيراً إمام مسجد المدينة الرئيسة في جبال النُّوبة – كادقلي – وتمنوا أن يكون في خطهم الإسلامي-العربي، ألا وهو جمعة بحاري. والجدير بالذكر أنَّ جمعة بحاري كان قد تعلَّم الإسلاميَّات في جامعة الأزهر بالقاهرة – حاضرة مصر. وفي إحدى أمسيات العام 1987م، وحينما أخذت ترتفع وتيرة الحرب الأهليَّة الجهاديَّة ضد الأفارقة غير المسلمين والمسلمين معاً، ألقى جمعة خطبة مسَّت شعور النَّاس مساً عميقاً، حيث حث فيها جمعاً محتشداً من المسلمين بأنَّ الإسلام لا يمكن أن ينتشر بالقوة، ولكن بالمودة والأعمال الحسنة. وما أن أصبح الصبح حتى جاءته الشرطة واعتقلته، ومكث في الحبس شهرين، يعيثون فيه ضرباً بالهروات ويأمرونه أن يعترف بأنَّه متمرِّد. وكان جلادوه يقولون له: "بما أنَّك أسود وقائد، فلا بدّ أنَّك عضو في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان." ولم يكن جمعة في ذلك الرَّدح من الزَّمان عضواً في الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، ولكن ما أن أُطلق سراحه حتى التحق بالحركة الشعبيَّة. وكان الإمام جمعة بحاري، وكثرٌ غيره، قد انضموا إلى الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان، وباتوا محاربين أقوياء أشداء في حرب العصابات. "إنَّ الإسلام الحقيقي ليس عن التعذيب والعقاب؛ ثمَّ إنَّ الإسلام الحقيقي لا يفرِّق بين الأجناس،" هكذا بات يردِّد الإمام جمعة بحاري. وقد تعرَّضت قدم بحارى لأعيرة ناريَّة في الهجوم على قرية دبي، التي كانت ترزح تحت سيطرة قوات الحكومة السُّودانيَّة في تشرين الأول (أكتوبر) 1997م، مما سبَّبت له إصابة بالغة، وحمله رفاقه على ظهورهم من الخطوط الأماميَّة، وخدروه ثم بتروا العظم المشقوق بالمنشار. وأضاف جمعة: "من المفترض أنَّني سوف أعود إلى إلقاء الخطب والمواعظ."
وبعيداً عن جبال النُّوبة، فإنَّ الجيش الشعبي لتحرير السُّودان كان يبدو قريباً إلى النّصر أكثر من أي وقت مضى. وعلى جبهته الرئيسة في الجنوب حقَّق انتصارات عسكريَّة مثيرة للإعجاب والإكبار معاً في الأشهر الماضية. والآن لتجدنَّه مستعداً لوضع حصار على مدينة جوبا، كبرى مدن الإقليم الجنوبي ومركز الحكومة القوي. وربما الأهم في الأمر تعزيز التحالف القوي بين الحركة الشعبيَّة والمعارضة الشماليَّة في شكل التجمع الوطني الدِّيمقراطي ضد حكومة الخرطوم، حيث فتح هذا التحالف المشترك (الحركة الشعبيَّة والتجمع الوطني الدِّيمقراطي) جبهة جديدة في الشمال بالقرب من ساحل البحر الأحمر، (وفي المنطقة الجنوبيَّة الشرقيَّة)، مما باتت محطة توليد الطاقة الكهربائيَّة هدفاً قريباً لقوات المعارضة.
وكانت الحكومة، التي رفضت في الماضي مبادرات السَّلام دون وقف لإطلاق النار العام 1994م، قد وافقت على الجلوس حول طاولة المفاوضات مع الحركة الشعبيَّة، لكي تبدأ المحادثات في نهاية شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 1997م. ولكن هناك قليلين جداً لا يتوقّعون اختراقاً، لا في غرف الاجتماعات ولا في ميادين العدائيات. فصل الخريف في طريقه إلى النهاية، حيث يعتبر أفضل الفصول بالنسبة لقوات الجيش الشعبي لتحرير السُّودان المتحركة. أما فصل الجفاف فهو المحبب بالنسبة لقوات الحكومة. أما في جبال النُّوبة فلا تزال قوات الحكومة تشن إغارات على قرى النُّوبة لإجبار المدنيين على مغادرة الجبال، التي يسيطر عليها المتمرِّدون. إذ أقدمت ميليشيات الحكومة على حرق "تابوري" في آذار (مارس) 1997م، وسبَّبت في تشريد الآلاف منهم. حينما يتم تدمير المحاصيل لم يبق للذين لا يملكون شيئاً غير النزوح إلى المدن التي تسيطر عليها الحكومة. إذ اعتادت الخرطوم على قصف المناطق التي تحت إدارة الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بواسطة طائرات الأنتينوف السوفيتيَّة، وهي طائرات شحن غير دقيقة في اختيار أهدافها العسكريَّة وضرباتها التكتيكيَّة، لكنها تسبِّب قتلاً وذعراً للمزارعين في جبال النُّوبة بقنابلها التي تهز الأرض هزاً شديداً. وأخيراً بدأت حكومة الخرطوم في تجنيد أعداد كبيرة من أبناء النُّوبة أنفسهم في جيشها وميليشياتها. ولتجدنَّ هؤلاء المجنَّدين الجدد مذهولين، وقلّما تصفهم بأنَّهم نالوا تدريباً عسكريَّاً، لكن وجودهم وسط جند الخرطوم يشكل مشكلاً سياسيَّاً للحركة الشعبيَّة. هذه هي حال النُّوبة في ذلك الرَّدح من الزَّمان. وكأنَّه لم يكفهم – ولم يكف أجيالهم – ما تعرَّضوا، ويتعرَّضون له، من سياسات تهميش وإقصاء - استبعاديَّة واستعباديَّة – عن حقهم، بل حقوقهم كمواطنين داخل وطنهم حتى طالهم، وبشكل متصاعد، ظلم إقصائهم قسراً وبالعنف الإرهابي المتعمِّد ضد حيواتهم التي يحييونها كبشر ينتمون إلى النوع المعذَّب، الموصوم بالاختلاف وبعدم التحوُّل أو الاستجابة إلى ما تريده السلطة "الإنقاذيَّة" المتسلِّطة باسم "العودة إلى الأصل"، والتي تنطوي أو تنضوي كذلك تحت مسمى "المشروع الحضاري". ومن الآثار المدمِّرة التي تركها أتباع القتل التفجيري وأشياع هذه الشعارات الفارغة فرار الناس من الوطن إلى بلاد غريبة، أو مواجهة المنيَّة في عقر ديارهم وهم راجلين.
ومع ذلك، تجد الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي لتحرير السُّودان تسيطر على أراضي واسعة في جبال النُّوبة، وقواتها منظَّمة. وبما أنَّ رفقاءهم في الجبهات يزيدون من الضغط على الحكومة، كانت قوات الجيش الشعبي في جبال النُّوبة تأمل في تحقيق بعض الانتصارات. أما الآن، فكلمة الترقب هو الصبر. وفي معسكر يوسف كوة في الخط الأمامي، كان إسماعيل كافي – عسكري وشاعر – يقوم بتلحين أغنية سياسيَّة. ولما كان من الطبيعي بالنسبة إلى فنان رهيف الحس أن يعيش بفنه ومن أجل فنه، لم يجعل كافي من الفن مصدرا للقمة عيشه، بل أذاع فنه في الناس في سبيل غاية أسمى، وصنع منه لوحة ثوريَّة تعكس النِّضال بصفة خاصة، وتطرب في شكل دائم. ومع ذلك، شرع يغني: "إثيوبيا وإريتريا أصبحتا أحراراً/ بعد ثلاثين سنة من النضال"، هكذا يقول واحد من أبيات القصيدة الغنائيَّة. وفي جبال النُّوبة، عكس كل الميزات والتمايزات – على الأقل – يتغنى أهلها بهذه الأغنيات.(2) ومن نافل القول نستطيع هنا أن نقول هذا ما أنتجه الزَّمن النُّوبوي الفني في حال الحرب – أي تلكم هي أهازيج الحرب الأهليَّة التي أخذ النُّوبة يصدحون بها في سبيل البقاء. ولعلَّه يكون مفيداً هنا أن نشير – وإن في شكل عابر - إلى أنَّ الفن أصلاً يموضع الموسيقى ليس داخل البعد الجماهيري الاستهلاكي فحسب، بل في قالب لتثوير المجتمع والتعبير عن مكنونه. أفلم يجعل ماركوزه في كتابه "نحو التحرُّر" من الفن سبيلاً إلى الخلاص؟ بلى! إذ علينا الاستئناس بتجارب التأريخ الثوري المعاصرة.
المصادر والإحالات
(1) استمرَّت الحرب الأهليَّة الأولى في السُّودان لمدة سبع عشرة سنوات (1955-1972م)، أما الحرب الجديدة – أي الثانية – فقد استمرت زهاء ال22 عاماً (1983-2005م).
(2) Time, November 3, 1997.