أيدولوجيّة “الهامش” في خطاب الحركة السياسيّ – ( ردود حلقة 3) . بقلم: د. محمد بدوي مصطفى

 


 

 


mohamed@badawi.de

"إقامة العدل أصعب بكثير من هدم الظلم، فالهدم فعل سلبي والبناء فعل إيجابي، فإن إحقاق الحق أصعب بكثير من إبطال الباطل." (نيلسون مانديلا)

اتسمت اصطلاحات الحركة الشعبيّة بلغة "أهل الهامش" أو لفظ "المهمشين". فصارت تلفظه الألسن دون أن تعي ما به من سيمائية عنصرية ورسالة ضدِّيّة لفئة أخرى. ومن ثمّة وضعت له مضادا، رمت على عاتقه كل المسئوليات التي نجمت عن الاخفاق والوضع المذري في البلد. لا أنكر أن فكرة "الهامش" كانت في بداياتها وطنية، حقانيّة، ثوريّة ومحمودة، لما انطوت عنه من رسائل ساقت المناضلين للفت النظر لجماعات وأفراد أهالينا المهمشة ببقاع البلد الذي انفصل جزء منه بسبب هذه الأيديولوجيّة. لقد أهملت حكومات البلد المتتالة مناطق الهامش ونسوها أو قل هضموا حظها في مشاريع التنمية. والأهم من ذلك أنها جميعها - وهذا الأهم – هضمت حق إنسان هذه المناطق في رفع مستواه المعرفي والتوعويّ والاجتماعيّ. ونحن كلنا نهدف لبناء مستقبل أفضل لأهلنا في كل "هوامش السودان ومراكزه"، فهم مازالوا يعانون من مشاق تتعلق بأبجديات الحياة اليومية، من قلة المعرفة والتوعية والرعاية الصحية والاجتماعية، وشح الماء النظيف، وقطع الكهرباء وندرة المواد التموينية، وشح الأجر وهبوط مستوى التعليم الأكاديمي والمدرسي وسوء البنى التحتيّة وفي النهاية الحرب التي تمسّهم إما بقنابلها أو عبر تحطيمها للوضع الاقتصادي.

ورغم هذا الكابوس الذي طالت يديه كل انحاء السودان نجد الحركة الشعبيّة ما زالت تحتكم للفظ "الهامش"، فجعلت له ضدا وهو لفظ (جلابة)، وكان القصد به حكومات أهل الشمال التي انفردت بمقالد الحكم طيلة الفترة الواقعة بعد الاستقلال. لكنهم لم يعوا أن الألفاظ لا تبقى على أصول معانيها؛ فاللغة كائن حي يتجدد ويتطور بتطوّر الزمن وبتكاثر احتياجات الفرد لاستعمالها. فاليوم لفظ الهامش صار يهمّش بقية أهل السودان من الجلابة أو العرب أو الشماليين. فأخذ في اتساع رقعته السيمائية (أي المعني) فلم يبق من مفهومه ومغذاه الوطني والجغرافي شيئا، إذ صار مصطلحا عرقيا عنصريا يفرق بين شعب واحد تربطه علاقة أزلية. فهو يفرق بين القبائل العربية في وسط السودان على سبيل المثال والأفريقيّة في جنوب كردفان، وفي دارفور وفي جنوب النيل الأزرق. لذا فأنا أناشد من هذا المنبر أبناء الوطن من الحركة الشعبيّة لأن يقفوا إلى اصطلاحات سلميّة عالميّة تآلفيّة توافق لغة العصر وتوحي بالديموقراطية وبالتعددية الثقافية والسياسية التي تصبو لبناء سودان واحد حتى بعد الانفصال.

انطلاقا من التحليل اللساني السمنطيقي أي المعنوي لحقل كلمة "هامش" (مهمّش، هامشيّ، هامشيون، تهميش، هامشيّة) وترددها، اطرادها، واستخدامها في الخطاب السياسي والأيديولوجي وفي اللغة وبالاعتماد على آليات تحليل أخرى كالسيكولوجية (علم النفس) والسوسيولجيّة (علم الاجتماع) يمكن أن نستنتج أن مفهوم الهامش – نفسيّاً واجتماعيّاً - يرتكز على أيدولوجية عنصريّة ونعرة عرقيّة وجغرافيّة تتضمن مفهوم التفرّقة بين أهل البلد الواحد أكثر من أنها تدعو إلى التألف والوحدة أو الاتحاد. لذا فهي – من وجهة نظر علميّة - تناقض مشروع السودان الواحد، إذ أنها تحمل رسالة بين ال(أنا) و(الآخر)، لا تتفق ومبادئ احترام التباين العرقي والثقافي والتعدد الدينيّ. إذاً ينبغي لمن ينشد الوحدة والائتلاف أن يتبع (لا فرق لجلابيّ على هامشيّ لا بحبّ الوطن). لذا فهي لا تتوافق وزمن ينادي فيه الكلّ بالائتلاف الحقيقي في البحث عن الأهداف والصفات المشتركة بين أهل الوطن الواحد – لا في اختلاف الأعراق والملل –. فخطورة هذا المصطلح أنه يدعو للطائفيّة ومن يعلم بأن داخل أهل الهامش سوف ينشأ هامش آخر ثم يتلوه آخر، وهلم جرّ. إن حكمة الخالق في خلقه ومخلوقاته هو التباين، إذ أنها ترتكز – دونما شكّ -على اختلاف مظاهر الطبيعة وسمات البشر المتباينة بتباين أوطانهم وتقاليدهم – (إنّا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). فللاختلاف محاسنه، فانظر لأصابع اليد، فلو كانت كلها واحدة لما استطاعت اليدّ أن تؤدي وظيفتها على أحسن وجه. ونحمد الله على الاختلاف في بلدنا السودان لأنه ثروة تفتقد إليها الأمم الأخرى. في هذا الصدد أذكر أن معهد العالم العربيّ بباريس قام بمهرجان عن السودان كان عنوانه: السودان، قارّة الحضارات.

ومن قراءة اصطلاح "الهامش" في سياقاته الكثيرة نجد أنه - للأسف - صار سلاحا لردع كل من تسمح له نفسه بنقد فكرته ومضمونه والصفحات الاسفيرية شاهدة على المعارك الضاريّة في هذا الشأن. وأخيراً يمكن القول بأن من أولى ثمار فكرة الهامش التي حان قطافها (أو قُطفت) هي تصويت أهل الجنوب للانفصال من دولة الجلابة المركزيّة (أنظر تصريحات باقان أموم العديدة قبل الانفصال).

وفي شأن الوحدة الفدراليّة يستشهد السيد عرمان بمثال الألمانيتين. لكنني أسمح لنفسي بأن أذكرّه أن تاريخ ذينك البلدين اتسم منذ عهد بعيد بالتفرقة والقتال والتناحر القبلي بين الأقاليم المختلفة، إذ حارب البافاريون ضد البرويزن (اقليم برلين) وتقاتل السوابيون والبادنيون، الخ، إلى أن وحدّها بسمارك فصارت دولة موحّدة. بيد أن هذه الوحدة رغم ثقلها اتسمت ببعض الهشاشة والوهن. جدير بالذكر أن في فترة الحرب العالميّة الثانيّة استطاع هتلر بأيديولوجيّة الجنس الآري العنصرية  أن يقضي على ٦ مليون من اليهود من الألمان وغير الألمان، والغجر من الروما والسنتي، ومعظم الأقليات اللاآرية الأخرى بصورة تلقائية ومحكمة، إذ سخّر كل آليات دولته لتطبيقها. وكانت أيدولوجيته تحمل أيضاً رسالة ال(الأنا) وال(آخر)، وكان الآخر هو دوما المسؤول الأول عن الوضع المذرى الذي عاشته ألمانيا. لم يكتف هتلر بهذا فحسب، بل صدّر هذه الأيديولوجية الشائنة لدول الجوار وأرغمها أن تطبّقها عبر القستابو (المخابرات الهتلريّة) وقوى التحالف (الكولابوراتوريين)، فهنا خطورة هذه الأيديولوجيات في  سريان العدوى الإقليميّة. فالكراهيّة لا تجلب إلا الكراهيّة والتفرقة لا توّلد إلى العنف والبغضاء والناس في شأن الوطن يجب أن تجمعهم أيديولوجيات إيجابيّة سمحة تحقق لكل فرد منهم الرقيّ والسلام وحظه من العلم والمعرفة والرخاء وتأمن له حرية الرأي في ديموقراطية سمحة مبنيّة على المحبّة والإخاء.

لذا يجب علينا اخوتي في الوطن تحويل التحدِّيات إلى فرص حقيقية، لكي نصل إلى بر الأمان رافعين رؤوسنا بين الأمم بأعمال ثرّة، واضعين بلادنا وشعوبنا وحب العمل والخير لها في قلوبنا، متطلعين إلى مستقبل أفضل.

 

آراء