أي شيطان يوحي لهؤلاء الأحزاب مواقفهم ؟!!

 


 

 

الحصيف الواعي الذكي هو من يحذر ويعمل ألف حساب للعدو المرتبك. ويرصد تحركاته، بأكثر مما يفعل مع عدو منتظم الخطوات، واضح الحركات والخطط. فأنت لا تستطيع أن تتنبأ بحركة المرتبك التالية، إذ قد تتفاجأ بها، ولكن بعد فوات الأوان.

وإذا كنا تحدثنا في مقالنا السابق والذي قبله (دون كثير تفصيل) عن ارتباك قيادة المكون العسكري، فإن ما ينبغي التركيز عليه، هو الوجه الآخر لهذا الارتباك، والذي لا ينبغي أن نستهين به ونعتبره من مؤشرات هزيمته المؤكدة، أو يغرينا بتصور استسهال الانتصار عليه.

فالحصار الخانق والخوف يدفعان الضعيف إلى هجوم انتحاري يتساوى فيه موته وموت عدوه. وهذا سلوك غريزي قد تلاحظه في قطة أو ثعبان أغلقت في وجهه كل نوافذ الهروب، لحظتها يصبح محاصره بالذات هو نافذة الخروج الوحيدة.

ومن يتابع تحركات المكون العسكري الأخيرة يلاحظ بأنهم أخذوا يسلمون فلول المؤتمر الوطني دفة قيادتهم للمخارجة من الحصار الذي أوقعوا أنفسهم فيه. وهم يفعلون ذلك بأحد الدافعين: إما بدافع الرعب والخوف، أو بقصد ووعي وذكاء منهم، ليدفعوا بهم إلى واجهة المشهد، ليصبحوا في مرمي نيران الثورة والثوار. خاصة مع بدء ارتبك مواقف حلفاءهم في الحركات المسلحة وتفكك تماسكها.

ولتزداد صورة هذا المشهد واحتمالاته المتوقعة وضوحاً ، دعنا نلقي نظرة طائر (ولو خاطفة) على موقف اللاعبين الرئيسيين.

- البرهان/ حميدتي في أجندتهما على الطاولة، جاهزة ورقة الانقلاب الثالث الذي فضحته وكشفت عنه تصريحاتهما مما ذكرناه. وإعلان الانسحاب من مفاوضات الثلاثية هو المقدمة الأولى لتهيئة الملعب لتنفيذه. ومثلما أقدم البرهان على مغامرة القفز في الظلام في 25 أكتوبر دون إعداد لما بعد إعلان الانقلاب، فليس من الغريب أو المستبعد أن يفعلها مرة أخرى ويكرر القفز مرة ثالثة.

- خيار آخر أمامه: أن يتحالف مع الكيزان ويسلمهم دفة القيادة بشكل كامل وتام، خاصة وهم بدورهم بدأوا في إعادة تنظيم كوادرهم في الجيش والأمن بقرارات من البرهان. وهو يقوم بهذا، في الوقت الذي يعلن فيه ويردد بأن الجيش والقوى الأمنية سحبت يدها من السياسة !.

وعلى كلٍ، هذا النوع من الخداع والتحايل والكذب المفضوح لم يعد ينطلي على أحد، أو يعره اهتماماً.

- ويزداد الموقف تعقيداً، وتزداد الاحتمالات ضبابية، بسبب ربكة هذا الثنائي (البرهان – حميدتي) حين تقرأ تحركات الأخير، الذي يلعب بأكثر من ورقة في يده.

- فإذا كان تنسيقه مع محمد بن زايد، والذي يقوم على صفقة الذهب والميناء والفشقة واضحاً.

- وتنسيقه مع الروس لإمداد قواته بالطائرات وتدريب الطيارين وتجهيزه لقواته الخاصة مقابل الذهب معلوماً.

- فإن تواجده بغرب السودان تحت غطاء تهدئة الاقتتال العشوائي "المنتظم" وعمليات الترحيل، والإحلال لعناصر غريبة تأتي من وراء الحدود في هذا التوقيت تحديداً وبارود برميل يغلي في العاصمة، وهو الذي عبأه وهيأه للانفجار بغزوات قواته يحمل أكثر من سؤال.

أحد هذه الأسئلة:

ما الذي يخطط له في الغرب، وما هي خطوته التالية إذا ما اتخذ البرهان أحد الخيارين:

الانقلاب، أو تسليم الدولة للكيزان؟.

نرجئ الآن موقف دول الجوار والمجتمع الدولي، خاصة مجموعة الدول الغربية التي انخرطت في هذه "المعمعة" السودانية، لنحصر قراءتنا داخل حدود دولتنا. لنلقي نظرة مماثلة على المعسكر الآخر في المواجهة.

في حين تبدو الصورة واضحة، لا لبس ولا غموض ولا ضبابية فيها، عند لجان المقاومة وقوى الثورة الحية التي حسمت موقفها في لاءآتها الثلاث (لا شرعية، لا تفاوض، لا شراكة) وأنها ستمضي في ثورتها حتى النصر وإقامة دولة مدنية.
مقابل هذا، تجد قوى الأحزاب السياسية وكأنها تعيش في كوكب آخر أو كأن هذه الأحداث تدور في كوكب آخر، لا علاقة تفاعلية لها مع الواقع وأحداثه السياسية والاجتماعية.

في ظل هذه الأوضاع المعقدة، والأحداث المتلاحقة المتسارعة، والحبلى بشتى أخطر التحديات والاحتمالات، تخرج قوى الحرية والتغبير لتعلن عن ورشة عمل لتقييم المرحلة الانتقالية والشراكة السابقة !!.

فهل هذا وقته ؟!.

الشارع يغلي والشباب يتساقطون قتلى وجرحى والجيوش بمختلف ألوان أزيائها، وتنوع أسلحتها تجوب الشوارع، تدهس بعرباتها مسيرات الشباب وتقتحم المنازل وتعتقل الثائرات والثوار، تعذب وتغتصب وتنهب وتلف التهم.

- وقيادات المؤتمر الوطني يجتمعون ليل نهار، ويعلنون عن تآمرهم، ويصدرون بيانات توضح أهدافهم وخططهم بأوراق مكشوفة.

- والمكون العسكري برئيسه ونائبه في حركة دائبة متوترة لا تهدأ، (طالع نازل) داخلياً وخارجياً.

- ومرتزقة الحركات المسلحة يزرعون شارع العاصمة بينما أهلهم في مناطقهم تحصدهم أسلحة لا أحد يعلم ماهيتها والجهات التي إليها تنتمي وما هي أهدافها. وقياداتها (ضارباها الحيرة والحيلة) تقدم رجلاً وتؤخر الأخرى لا تعلم ما الذي تفعله لتحافظ على ما غنمته من موقفها الداعم للانقلاب، وهي تشهد اهتزاز عرشهم.

وفي خطوة كاشفة عن مدى خوفهم من خروجهم من معادلة السلطة صرّح الناطق الرسمي باسم "الجبهة الثورية" أسامة سعيد بأن الأزمة السياسية الراهنة "لا تحل إلا بالحوار ومشاركة جميع أطراف الأزمة فيه"، معلناً انسحاب الجبهة من حوار الآلية الثلاثية بعد انسحاب المكون العسكري منه.

في هذا التوقيت الذي يتطلب مواقفا عملية واضحة وحاسمة سريعة للانتظام في إيقاع حركة الشارع وقواه الثورية الحيَّة، كواجب وطني وأخلاقي يحتم عليهم التفاعل الجاد والمسؤول مع الأحداث لإنقاذ السودان من منزلق التفكك الذي يقاد إليه، تجدهم يمارسون – وبإصرار – نفس طقوس لعبة الكراسي التي طُبعوا عليها وتوارثوها منذ ما قبل الاستقلال، كابراً عن كابر.

في (وقت الحارة) وقيامة البلاد تطرق الأبواب، قرروا أن يصموا أذانهم، ليعقدوا جلساتهم النخبوية/ الصوفية في غرفهم المغلقة ليناقشوا أسباب خيبتهم. والنتيجة معروفة مسبقاً حين أعلن إبراهيم الشيخ بأنهم لم يخطئوا ولا يوجد ما يعتذرون عنه !!.

ولن يجيبك أحد إذا سألت: وفيم الورشة إذن، وما جدواها ؟!!.

لا أظنك تحتاج إلى ذكاء استثنائي لتعرف بأن ما يدور في عقولهم وفي ضمائرهم بأنهم وقد رأوا بأن ثمرة الثورة وتضحيات الشباب قد نضجت بدم الشهداء وحان قطافها يجتمعون لقطفها وتقاسمها، وكأنما (خلاص) إنتهى الموضوع، ورفع البرهان وحميدتي والفلول والحركات أيديهم استسلاماً، وحان الوقت أن يتهيأ جماعة (قحت) لاستلام السلطة !!.

ألم يكن هكذا دائماً هو الحال ؟!.

ألم يكن هذا هو السيناريو المكرر المعتاد والدور الطبيعي لهذه الأحزاب إثر كل ثورة شعبية ؟!.

أما الحزب الشيوعي الذي سعى مع الفلول لإسقاط حمدوك، ثم شن حربه لإزاحة (القحاتة) ورميهم خارج العربة، مذكياً نفسه بالطهارة الثورية، ومقدماً نفسه قائداً وحيداً للثورة، بعقلية شمولية إقصائية.

أي شيطان يوحي لهؤلاء الأحزاب مواقفهم ؟.

هل من سبيل ليفيقوا ليتذكروا بأن هناك وطن يتربصه التفكك.

وبأن هناك ما يسمى بالتناقضات الثانوية التي تحتمل التأجيل ؟؟!!.

izzeddin9@gmail.com

 

آراء