إحذروا البرد

 


 

د. عمر بادي
28 March, 2009

 


مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )
دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003
  ombaday@yahoo.com
د. عمر بادي
من الأقـوال المأثـورة التي كانت ترددها لنا والدتنا – رحمها الله – ونحـن صغار : (( ترقد بردان تصبح مرضان ، ترقد دافي تصبح متعافي )) ، وهذه حكمة مثبته عملياً وعلمياً فالتعرض للبرد يصيب بأمراض عدة ، سواء كان ذلك أثناء الصحو أو النوم ، ولكن في النوم تقل حركة الجسم فتقل الطاقة المهدرة في ذلك فتقل الدورة الدموية ، وتقل حرارة الجسم ، ويكون النائم بذلك أكثر عرضة للإصابة بأمراض البرد ، وأمراض البرد كثيرة وتعادل في مجملها أغلب ما يصيب الإنسان من أمراض في حياته ، وهي تشمل الزكام وإلتهابات الحلق واللوزتين والسعال والانفلونزا والنزلة الشعبية والإلتهاب الرئوي والربو وآلام الأسنان وإلتهابات العضلات والجهاز الهضمي والروماتيزم والدوالي وعرق النسا..
    إنني أمقت البرد لأنه متعب ولئيم ، ولأن إتقاءه يتطلب قدراً كبيراً من الإستطاعة المادية ، فهو مناقض للحر ذي الحنيّة واليد الرحيمة والذي لا يكلف الناس شيئاً لمقاومته سوى ظل شجرة أو (راكوبة ) في مهب الريح ، إلا لمن إستطاع سبيلاً فاستزاد بالمرواح والمكيفات . ترى ، كيف يكون حال عامة الناس عندنا إذا ما اشتد البرد على ما هو عليه وقارب ما بأقاصي الشمال أو أقاصي الجنوب؟ أين عندنا البيوت المحصنة بالجدران السميكة ؟ وأين الدفايات الكهربائية والغازية ؟ وأين الملابس الصوفية الثقيلة ؟ وأين أحـذية ( البوت ) والقفازات الجلدية ؟.
   أن الحر نعمة ولا شك ، ولن يحس بقيمة تلك النعمة إلا من سافر وجرب الحياة في المناطق الباردة!
   أثناء دراستي في روسيا وفي فصل الشتاء الذي يمتد لمدة ستة أشهر كانت تهبط درجة الحرارة في موسكو إلى ثلاثين درجة مئوية تحت الصفر! وكنا نمشي في الشوارع خّباً مع تحريك أيدينا وأرجلنا لتنشيط الدورة الدموية ولنحرق طاقة حرارية أكثر ، وكنا بملابسنا الكثيرة نشبه عنقود أو قندول الذرة الشامية (عيش الريف) وهو يكون مغطى بأغطية كثيرة من الأوراق ، وكذا كانت ملابسنا التي تبدأ بالملابس الداخلية ثم الزي التحتي (Underwear ) ثم البنطلون والقميص وربطة العنق ، ثم الصديري والجاكيت ثم وشاح (شال) الصوف وبعده البالطو الصوفي الثقيل وعلى الأرجل الجوارب الصوفية والحذاء (البوت) الجلدي ، وعلى الأيدي القفازات الجلدية ، وعلى الرأس وجانب الوجه الخوذة الجلدية (الشابكة )..حتى إذا جاء الصيف وأشرقت الأرض بنور ربها وتوهجت الشمس ، إرتفعت الحرارة إلى ثلاثين درجة مئوية فوق الصفر! وانطلق الناس إلى البحيرات الصناعية وتمددوا بملابس السباحة (المايوهات) يتشمسون طلباً لفيتامين(د) ولحرق أجسادهم حتى تصير سمراء فاتنة ! أنظروا إلى هذا التضارب في درجات الحرارة وأنظروا أكثر إلى  خاصية التأقلم التي حبانا بها الله تعالى ، إنها نعمة ولا شك !
    لقد لاحظت أن سكان المناطق الباردة لديهم أجسام ذات جلود سميكة الملمس وذلك لتراكم الدهون على الطبقة الداخلية من جلودهم حتى يساعد ذلك على إحتفاظ أجسامهم بحرارتها ويقلل من إنتقال البرودة من الخارج..
   البرد عندنا عندما يشتد يلجأ الناس إلى مخزونهم القديم من الملابس الثقيلة ، والتي لا تتعدى فنايل الصوف والملافح والبطاطين ، ولمن لا يملك شيئاً من ذلك يتدفأ بعود حطب يشعله ناراً ، هذا أثناء الليل ، أما أثناء النهار فإن الشمس خـير وسيلة للتدفئة لدينا ، فترى الناس يحتمون بأي حاجز يحجزهم من التيارات الهوائية الباردة ويواجهون الشمس ويتدفون . هذه التدفئة المجانية المتبعة والتي كان يمارسها الناس منذ خروجهم من منازلهم الدافئة في الصباح قد صارت مفتقدة لديهم حالياً وذلك بعد تقديم ساعة الزمن ساعة واحدة جعلت الناس يخرجون من منازلهم الدافئة قبل أن تخرج الشمس فيتعرضون بذلك لإيذاء البرد وأسقامه.
    أهلنا الكبار المتمرسون كانوا يربطون بين الزواج وبين التدفئة فيقولون للشباب غير المتزوجين : (( البرد دا ما برد بطاطين صوف دا برد بطاطين لحم !)) حاثين بذلك مستمعيهم للزواج . هذه نظرة علمية صحيحة فاختلاف القطبين فـي جسمي الرجل و المرأة بين الموجب والسالب يولـد شحنات حرارية تؤدي   إلى التدفئة ، وقد سمعت بشيء مثل هذا قبل سنوات مضت من أجهزة الأعلام ، عندما مكث شاب وفتاة متلاصقين لساعات طويلة بعد إنهيار جليدي أطاح بهما إلى أن أنقذا وهما حيّان ، وهنا تظهر جلية حكمة أهلنا الكبار الذين يفضلون المرأة المكتنزة لحماً وشحماً حتى تصير بذلك أكثر دفئاً!
    أعـود إلى عنوان مقالتي هـذه وهو مأخوذ مـن القول المأثـور الذي يقـول : (( إحذروا البرد الذي قتل أخاكم أبا ذر)) ويروي أن قائله هو معاويه بن أبي سفيان ، والمعني هو الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ، فقد كان أبو ذر زاهداً في الحياة وكان لا يخاف في الحق لومة لائم وكان يدافع بكل ما أوتى من حجة عن المعدمين ، ومن أقواله التي تروي عنه :((عجبت لمن لا يجد القوت في بيته كيف لا يخرج علي الناس شاهراً سيفه !)) وقد توفي في قفر (الربدة) وعليه ثوب بال لا يملك غيره.
     من حكايات الوالدة - عليها رحمة الله - أنه في إحدى القري كانت تعيش إمرأة عجوز عزباء ، وكان بعض رجال القرية يحبون مداعبتها ، وفي إحدى ليالي الشتاء الباردة قال لها هؤلاء النفر في تحدٍ مشروط : ((لو قعدتي لحدي الصباح جنب البحر وما رجعتي حنعرسك للفكي )) ، وكان فقيه القرية ذا وسامة ورغد في العيش ، فوافقت علي الفور ، وأخذوها إلى شاطئ النهر وعليها ملابس عادية فقط وتركوها كي يعودوا إليها في الصباح ، وأثناء الليل رويداً رويداً إشتدت عليها رطوبة التربة وهبّت عليها الرياح الباردة فلسعها الزمهرير ، فصارت تمني نفسها وتقول مرددة وهي ترتجف (تكدكد) من البرد ( الصقط) :((صقط الكدكدي ، بكرة جنس دي ، أنا في صدر الفكي)) و(( صقط الكديكيده ، بكره جنس دي ، عرساً بي زغاريده)) ، ولكن حينما أصبح الصبح وأتوا ، وجدوها جثة هامدة (مكنكشة) من البرد.. نهاية محزنة ، أليس كذلك؟
                                  صحيفة (الخرطوم) – 20/2/2000م

 

آراء