إدوارد سعيد.. (الهوية) وحروب الذاكرة

 


 

غسان عثمان
14 November, 2022

 

ghassanworld@gmail.com

نيويورك- بعد صراع مرير مع سرطان الدم (اللوكيميا) وفي صباح الخامس والعشرين من سبتمبر سنة 2003م انتهت رحلة إدوارد سعيد المفكر والمُنظر الأشهر والأكثر إثارةً للجدل في الأوساط العلمية والأدبية العالمية، وبعد حياة حافلة بالكشف الأعمق عن وهم الامتياز الغربي، وسلطته المزيفة على حالة العالم، وسعيه المُنفر لبناء صورة تخصه، صورة تتغذى على تقزيم الآخر والنيل من خصوصيته، والعمل حثيثاً لأجل هزيمته نفسياً وسياسياً، كان سعيد الخصم الألد للمعرفة الغربية، المعرفة المعجونة بالسطو والإنكار، والتشفي بحرق جذور الآخرين، وتركيب الصورة بمعزل عن الهيئة، صورة في حضورها تشبه شلال الإمبراطور الصيني الذي كتب عنه ريجيس دوبريه (Régis Debray) في كتابه اللامع (Vie et mort de l'image) (حياة الصورة وموتها،1995م) هذا الشلال الذي على جماديته ظل يؤرق مضجع الإمبراطور فيمنعه النوم، بسبب صوت المياه المندفعة من أعلى، وهذه صورة العربي التي أراد الاستشراق أن يمحوها عن جدار الوعي وحائط الزمن، لكن سعيد كان بالمرصاد، ومعركته لم تكن شخصية بالقدر الذي وفّر شغّله ومتّن رؤيته للدفاع عنا نحن، العرب المسلمون والمسيحيون، وبالإشارة أدق سكان المشرق في هذا العالم الممنوع على غير الغربي اجتذاب فراشاته.
إن حياة الأديب والمفكر الفلسطيني الأصل، أمريكي الجنسية إدوارد سعيد هي حياة الشرق الموصوف بذهنية ماكرة أنه الـ(بازار) تعيث فيه الغرائب وتتناقله شفاه مبهوتة، بوجود آخرين يشاركونها وهم العالم، إنه مجمّع للتفاهة المعقلنة، مجتمع يراد به أن يظل مربكاً للغرب، وفي الوقت ذاته مصدر سخريته بفضل البدائية المرسومة فوق جباه الراقصات على رتم الفقراء غير المدوزن، هناك في حواري القاهرة، أو في أزقة تونس، أو حتى في ساحة (جامع الفنا) في مُراكش، إنه البدائي الطيب، أو بالأدق "البدائي النبيل" كما صوره الرحالة الغربيون في تمشيطاتهم المُغرضة يقطعون فيافي الجزيرة العربية بحثاً عن صيد يؤمن له حضور المستقبل، أما نُبله فهو ليس سوى القناع الموضوع بالقوة، قناعٌ يَشِّل حركته، ويحرمه الإمعان، ويفرض عليه شروط الرؤية، وقوانين المكان، إن الاستعمار لم ينهب فقط خيرات العالم العربي، بل صنع الصورة، وبات يُنمي فيها تأملاته المحرمة، فعل ذلك حتى يضمن المزيد من الهيمنة ليأتي من يحصد ثمارها لاحقاً.
لقد استطاع إداورد سعيد أن يفكك الخلية المبطنة للنص الغربي حول الشرق، وكتابه (الاستشراق) الصادر في 1978م وثيقة إدانة وجودية لهذا الآخر الموصوف بالغربي، وقد علّمنا سعيد كيف نفهم طبيعة تراكيب الوعي عند هذا الآخر، ودلّنا على سُبله لبناء ذاته ونحن، إن كتاب (الاستشراق) فوق إدانته لجريمة الآخر المُنكر لحقنا في الحياة، هو كذلك بيان لعبث الثقافة الغربية بشقيها الإنجليزي والفرنسي، عبثها في تعبئتنا منتجاتٍ بائرة، ولكنها مطلوبة لإكمال لوحة إدوارد مانيه (أوليمبيا) سنة 1863م، فهذه المرأة العارية وفوق واقعيتها تقف بالقرب منها خادمة سوداء تحمل باقة زهور وقطة تشاركها اللون، إن مانيه وهو يُقتّر في استخدام اللون، اكتفى بالثنائية (أبيض وأسود)، وهذه الثنائية يمكن فهم رمزيتها لا في العُري فقط، بل تريد اللوحة أن تقول ما ليس فيها، ورغم صعوبة الذهن في ترتيب فهم واحد لمعنى اللوحة، والاكتفاء بالتأمل والمشاهدة محاولة عمق، فإن مانيه هنا يذكرنا بمنهجية ميشيل فوكو في فهم التشكيل، والذي يرى أن كلاسيكيات الغرب نجحت بامتياز في رسم الغائب دون الكشف عنه، وهو في هذه اللوحة الغائب أو المستثنى، فليس الأمر منوط بسيدة هي رمز الارستقراط والدعّة، بل هي الخادمة، بل هو اللون، بل العالم في مقسوم على اثنين.
لقد رفد سعيد العقل العربي بالكثير من دماء الوعي، فعل ذلك منذ انتباهته لصاحب (قلب الظلام) و(اللورد جيم) إنه البحار البولندي جوزيف كونراد (1857م- 1924م) فأصدر سعيد كتابه (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية) سنة 1966م وهذا الكتاب في الأصل رسالة سعيد للدكتوراة بجامعة هارفارد، والأطروحة كانت بعنوان: «رسائل جوزيف كونراد وروايته القصيرة»، 1964م، ومنذ تلك اللحظة توالت فتوحات الرجل خدمة لغرض رئيس، وهو الإقامة الدائمة في ثنايا توتر المثقف ومجتمعه، فاستعراض عناوين مؤلفات الرجل كافية لمعرفة كيف جنّد سعيد نفسه لهذا الهدف (المثقف والسلطة، خيانة المثقفين، السلطة السياسية والثقافة، الثقافة والمقاومة، صور المثقف...إلخ) وغيرها من المؤلفات.
لقد خاض إدوارد سعيد المعركة بالنيابة عنا، والمعركة التي نقصد هي الحتميات التي سجلت أعلى مستوى من اليقين في إنكار حق الشعب العربي بل والثقافة العربية في أن تدافع عن جذورها، فالذي صار أنه بعد إصدار سعيد مذكراته، انبرت أسماء غربية ذات ثقل لإنكار فلسطينية إدوارد سعيد، وقالت بأنه يكذب بخصوص نسبه وملكية عائلته لبيت في القدس، وقد أشار مترجمه في تقديمه لـ(خارج المكان) إلى هذه المسألة، ولكن أهم ما ذكره أن قال بأن "الحملة الصهوينية تنطوي على محاولة اغتيال رمزية لجماعة بصيغة فرد: الإمعان في إنكار حق الفسطينيين في فلسطين من خلال إنكار حق أحد أبرز وألمع مثقفيها في وطنه". ويقول كذلك "أجد في تلك الحملة ما هو أبعد من ذلك. وتنطوي الصهوينية على مضمر أساسي، بل وجودي، بما هو استعمار استيطاني، وهذا المضمر هو السرقة. حدث ولا حرج عن سرقة الأرض، والمياه، والآثار التاريخية، والتاريخ ذاته، والذاكرة، والمأكولات، والعمارة، والعادات، والتقاليد الشعبية- خارج المكان، صفحة (14).
هي سرقة كل شيء، ولذلك فإن مذكرات سعيد هي المحاولة الأخيرة في إيقاف هذا النزيف، ومنع اللصوص من التسلل إلى الذاكرة، وفلسطين (القضية) ليست دفاعاً عن جغرافيا ميتة، هي دفاع عن الذاكرة، ذاكرتنا، إن الدفاع عن قضية فلسطين بات يشبه موضات النقاش الطلابي، أي أنه ينحشر في الحلق ولا يخرج إلا شعارات وأناشيد، وهذا الأمر هو الذي يؤذي أي قضية، إذ به تكتفي الشعوب بالهتاف، الهتاف الملقن كما يقول مظفر النواب، وقد تعلمنا من سعيد كيف تتم المواجهة، وهي مواجهة بالمعنى لا اللفظ، مواجهة عمادها تفكيك خلايا خطاب "العدو" وليس مقابلته بالخطابة المجانية، فالمعركة في حقيقتها بين مشروعين، الأول يريد أن يولد كل الناس على مزاج واحد، هو مزاج الليبرالية الجديدة التي لا تفهم من الإنساني سوى تعظيم الاستهلاكية وتسليع كل شيء، وهذا فوق أنه مقزز ومربك وقميء، فإنه يريد من المعرفة كذلك أن تنزل إلى مستوى اللذة؛ اللذة بمعناها الأيروسي، أي فوق كل فاعلية نحصد قدراً ما من التنميط والتسخير للآخر، الآخر الذي هو (نحن)، والثاني مشروع لا يملك من أدوات بقاءه سوى تذكارات قديمة، وأناشيد مخنوقة، وهتافات مرهونة للفعل ورده، أما سعيد فقد شرع في مواجهة ضعفنا وهيمنة الآخر، وفي سبيل تعريفنا أكثر بالوضع المزري الذي نعيش، أراد سعيد أن يوبخنا، ويعري ذواتنا أمام العالم، والأهم أمام أنفسنا، فباتت معركتنا هي الارتهان لمعنى واحد في الوجود، السلطة، وهذه السلطة مقبرة الهوية والعقل، فصراعات المشرق والمغرب حول المنصب والمكسب، جرّفت أجيالاً من المثقفين وجعلتهم رهائن عطاياها، ولو فكروا وقاموا فهم سجناءها الخالدون، ينالون منها العسف ونصيب الهزيمة، لكن سعيد ولظروف خاصة بموقعه في الغرب، عرف كيف يقابل المنهج بالمنهج، والسؤال بالسؤال، فناصب هذه الليبرالية عداءً ناعماً، لكنه قويٌ ومؤثرٌ للغاية، هذا هو جوهر مشروع إدوارد سعيد، أن تواجه الآخر بأوهامه، لا أن تركنَ لتصوراته حول نفسه والآخرين.
ترك لنا سعيد مذكراته وهو بعد في أرض المعركة، يناضل المرض والموت، لكنه يحافظ أكثر على حيوية الذاكرة، وقد عبّر عن ذلك بقوله: "لعبت ذاكرتي دوراً حاسماً في تمكيني من المقاومة خلال فترات المرض والعلاج والقلق الموهِنة.. فالأكيد أن الذاكرة تشتغل بطريقة أفضل، وبحرية أكبر، عندما لا تُفرض عليها الأساليبُ أو النشاطات المعدة أصلاً لتشغيلها.." (خارج المكان، ص19). إن هذه الذاكرة التي مدت اليد العون لسعيد لم تكن في كامل عافيتها، فقد نالها الكثير من التشويش، بل والتخوين، فسعيد في نظر نقاده، ليس إلا مخترع للنسب، وموهوم بالحقيقة، لكن الذاكرة ذاتها وفرت له القوة فوق إرادته التي لا تلين في اقتحام الميادين الخطرة، يدخلها غير عابئ بقطاع الطرق، ومرتزقة الإعلام المتصهين، وفوق ما كتب عن إدوارد سعيد ومشروعه المعرفي، فإن الحاجة لا تزال ماسة لإبقاءه في الذاكرة أطول وقت ممكن، وفي هذه المقالة نحاول فهم البنية التكوينية التي صنعت لنا هذا المشروع.
خارج المكان، أم فضح ترميزه؟
لقد كان إدوارد سعيد وهو ينزع ذاته ويجمدها أمامه بعيدة عنه، هناك.. ينظر إليها من الخارج، وهو يطمح أن يستطيع الفكاك منها، وكيف له ذلك، إنه حتى ما كان ليبلغ معها القدرة لإعادة بناء تصوره حول نفسه والعالم، وهذا هو معنى كتابة السيرة الذاتية، أن تُعيد بناء الواقع كما فهمته لا كما عشته، ولعل سعيد هو الأكثر حظاً من ضمن كُتّاب السيّر الذي استطاع أن يُصَور العالم الذي تنقل بين جنباته، يصوره بالوعي؛ وعيه الذي امتلكه بعد تجارب في إعادة تقييم الحياة، لعل سعيد سعيدٌ بالفعل حين أهدانا ذاته عارية ولا تقف على ضفاف..
وهو يكتب لم يجد عنواناً أفضل لسيرته الذاتية من Out of Place والذي صدرت سنة 1999 عن مؤسسة Knobfباللغة الإنجليزية، وجاءت النسخة العربية سنة 2000م عن "دار الآداب للنشر والتوزيع" وتُرجمها باقتدار فوّاز طرابلسي تحت عنوان: "خارج المكان". وبالفعل كان سعيد رغم حضوره في كل مكان، لم تستجب ذاته إلا لمكانه المفقود، فلسطين، وإذن فهو خارج المكان؛ مكانه الذاتوي والنفسي والاجتماعي، وإدوارد المنزوع عنه إدوارديته (نسبة للاسم) شخص آخر متحرر من العنف والقوة والجسارة والتصرف والهروب من كل شيء، إنه الصراع الذي عاشه ونعيشه، صراع الهوية، وهذا الصراع لا ينتمي إلى محددات بعينها، وهذا هو سر تشعّب الحديث عن مسألة الهوية، فقد بان لسعيد المُكره على إنكار عروبته، والمحبوس في أمركة والده، وأوربة أمه عصية الرضا، بان كيف يستعصي عليه وهو يَشغب بإرادة واعية وغير واعية يكتب عن نفسه، إن الكتابة في سجل الهوية تكلف المرء فوق أمانته زيادة في التقى المنقوص، وهكذا كان إدوارد سعيد، حتى سعيد لم يُسمح له بأن يستمع إليها نقية مشربّة بالحدة والفراسة، بل هي (سأيد) منطوقة ومجففة المنابع ومنزوعة عن فيضها التراثي واللاهوتي، ولذا فإن سعيد لم يعد سعيداً باسمه.
إن المرارات التي يقف عليها المرء وهو يتصفح مذكرات الفيلسوف الأميريكي (بالقوة)، "إلى أن جاء اليومُ الذي سمعني فيه (الأب) أتدرب على القَسَم، وتحديداً المقطع المتعلق بالله والملك. "لماذا تقول ذلك؟" سألني وكأني أنا مؤلف الكلمات "أنت أمريكيّ، ونحن ليس لدينا ملكٌ،، بل رئيسُ جمهورية، أنت مخلصٌ للرئيس، لله والرئيس. خارج المكان ص (77)، لكنه كذلك الفلسطيني بالتركة والدم، مرارات كثيرة مكتوبة بلغة مكثفة تحكي كيف يمكن للإنسان أن يصارع حياتين، الأولى يعي فيها موقعه وذاته، والثانية يتقوقع عند منزلة السيد؛ السيد صاحب السطوة، أمريكي، بالورق فلسطيني عربي بالذاكرة، وهذه الثنائية عرضّت الرجل لمعارك شتى أهمها أن يدافع عن نفسه أمام الآخر، وهذا الآخر يصنع على يديه عالمه المنسوب إلى العقل والنقدية، والتحرر، وإدمان ممارسة السلطة من على البعد، الآخر وعالمه المصنوع من أوهام التاريخ، وجدابة الواقع المنكر، أما سعيد فهاهو يعيش واقعه العربي أربعينيات القرن الماضي، حين كان اسمه الحقيقي إدوارد يمتح من عنف التربية وسلاطة المكان، هذا الذي نسميه (شفاعة بالإكراه)، للأسف لم يشفع له اسمه، بل ظل في نظر الأمريكي والعربي شخصاً غريباً متسخة ثيابه، وثياب التي الهوية شكلته من مادة غير سوية هي اسمه المركب بغير عناية، - إدوارد وسعيد- معاً، والرجل في صدقه لم يدخر أن يقول لإدوارد الذي تخلص منه أنا لست أنا، لا أدري كيف استطاع محمود درويش أن يكتب: "الهوية هي مانورِث لا مانرث، مانخترع لا مانتذكر.الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة".
لم يكن سعيد معجباً بإدوارد بل كارهاً له عاملاً على التخلص منه كلما سنحت له فرصة، والعجيب في الأمر حقاً هو تلك القدرة التي امتلكها صبيٌ غير راضي بوجوده الجسماني، وخائف دوماً من سلطة الأب المتخفي وراء الكلمات العِجاف، يدخر محبته للولد عبر ترهيبه بالنظرات، أبٌ شديد الحرص على السلطة؛ سلطة يتقاسمها خفيةٍ مع الأم المنكوبة بالولد المصاب بالإثم كلما حل وبدا، عاش سعيد وسط هجيان المشاعر هذا وعند عتبات غمائم مكرهةٌ على استقبال تفاقم الأذى، لكنه ورغم ذلك لم يكره أحداً، يبدو أنه وضع مخزونه من الكراهية في ركن حصين، وأجرى عليه عمليات الحصد والتثمير ليُخرجه أمام من يستحقه، بل حتى معاركه الطفولية مع أقرانه في المدرسة لم تكن على درجة من الشر والشراسة، هذا ولد يضع في ذهنه فرصة قد تأتي لينتقم من اسمه، وبالأحرى من ذاته المعلولة المسجونة بين عروبة تحت الجلد، وأمركة بحكم الواقع والورق، وأوهام الأب المنكر لغريزته تجاه ولده، وهذا حال آباء كثيرون، يعتقدون أن مجرد الحزم وإضعاف حساسيتهم تجاه أولادهم حتماً ستقوي عودهم، هذه الأبوة تشرب من بئر الحرمان ولا تدخر جهداً في الحفاظ على سلاسة الذكورة ممنوعة عن الحب.
في مذكرات الطفولة لأدوارد سعيد، نجد الأسرة وهي تعيش في القاهرة ولا تعيش، بمعنى أدق تتنكر للمكان، أليس الرجل نفسه خارج المكان؟ ووسط هذه الفوضى من اللاجماليات لم تتأقلم عائلة مسيحية تسكن في الزمالك نهايات النصف الأول من القرن العشرين، بل ظلت تمارس القمع على نفسها، تمنع حضورها من الالتزام بالمكان، هكذا بات المكان هزيمة إدوارد وانتصاره الوحيد، فالأم مشتعلة بالدقة، مهجوسة بالترتيب والدراما فوق العائلية، أمٌ تمارس القمع بالصمت، وحالها يشير إلى خاصية الخوف والارتياب من هوية باتت عُرضة للاجتياح من قِبل الغرباء، الغرباء هم أهل المكان وسُرّتهُ، فلا مصر ولا القدس ولا أي مكان آخر كان ليشبعها ويحملها على خلع الذات مسلولة ومشتركة، وقد يكون الدين سبباً؟ مسيحيةً في وسط مسلم؟ لكننا لا نتعقد بذلك فالسبب الوحيد المقنع هو غياب الصلة بالمكان، والشعور بالغربة عن الأرض، فقد كان يسعها في سابق حياتها، فالقدس مكان الجلد والدم تعيش حالة من الذوبان المؤكسد بالنزاع بين أصحاب الأرض والغرباء السادرين الطامعين، ظلت القدس تترى وتتحجب، وعند كل موجة تتجهم الأم مرة بعد مرة أمام الطفل الوحيد وسط أُختيه، ورغم كل الحب الذي كان يخرج منها للصبي الوحيد إلا أن مِصفاةً غير نقيةٍ مارست فعلها في صناعة الولد قابعاً في حبسها، وهذا كان حال إدوارد سعيد مع ملاذه الوحيد في البيت؛ بيت العائلة التي تسكن وحدها وسط كل ضجيج قاهرة الأربعينيات.
أم الأب البيزنس مان، وارثُ الصنعةِ رفقةَ الحزّم المُزيف، جعل من الصبي يخاف من الكلام، وإن كان ذلك قد أفاده كثيراً وجعله يتفجر لاحقاً صاعقاً بالكلمات كل معتد على هويته المخزونة في شرايين الذاكرة، هذا الأب يلعب أدوار عدة، أهمها أنه لا يريد لولده الوحيد أن يعيش بإرادته، بل يصنعه هو بمادة من الترقب.
ظلت رحلة إدوارد سعيد هي رحلة الوعي العربي المتشظي بين مواطن كثيرة، مواطن يبحث فيها عن ذاته المُبعدة والمنُكر حقها في التعالي والمكان.

////////////////////////

 

 

آراء