إذا عطست الخرطوم أصيبت انجمينا بالزكام !!

 


 

 

تجليات أزمة ما بعد الخامس عشر من أبريل الماضي ألقت بظلالٍ قاتمة على الحراك الاجتماعي والسياسي بين السودان وجارته الغربية تشاد، إذ ثار الناشطون التشاديون ورفضوا استمراء حكومات السودان المتعاقبة جعلهم وحكوماتهم شماعة لفشل السودانيين وحكوماتهم، فقد طفح الكيل وتحدث التشادي الذي عُرف عنه الصبر والجلد والتؤدة والحذر والنطق بكلمة الحق التي نصح فيها السودانيين بأن يديروا خلافاتهم بعيداً عن القاء اللوم على المجتمع والدولة التشادية، هذا مع علمنا وتأكيدنا على أن زكام الخرطوم لا محالة مصيب العاصمة انجمينا، بنزلات البرد الحادة طال الزمان أم قصر، لقد زار رأسا الدولة والحكومة الانتقالية السابقة – البرهان وحميدتي – الجارة الغربية مرتان، حينما أدارا ظهريهما لبعضهما البعض، وتلكما الزيارتان لم تأتيا بمحض الحرص على علاقات حسن الجوار، وإنّما فرضهما الواقع والموقع الجيوسياسي للجمهورية التشادية، الأمر الذي أجبر الرجلين لأن يهرولا غرباً بحثاً عن السبق السياسي والكسب العسكري، وكانت الزيارة الثانية للرجل الثاني قد وضعت نقاط كثيرة فوق الحروف، فجاء دور الجار الغربي محايداً عندما اندلعت حرب منتصف ابريل، وشهدنا الحكمة والصبر والبصيرة النافذة لهذا الجار الذي يعلم بواطن أمور جاره، فقام بإغلاق الحدود، وأحسن وأكرم وفادة الهاربين من جحيم حرب السودان، عسكريين ومدنيين، ونال رضا طرفي الصراع.
لكن، بعدما دعا الحاكم المزعوم لإقليم دارفور المواطنين لحمل السلاح والدفاع عن أنفسهم، أدار المراقبون للشأن الدارفوري بوصلة اهتمامهم، وعكفوا على دراسة ارهاصات هذا المشهد الجديد، وهذه الحالة الغريبة والفريدة، التي تزامنت مع تعيين أحد أبطال مهزلة جوبا بديلاً لقائد السريع (المتمرد)، بقرار باطل دستورياً أصدره الجنرال المختبيء تحت أنفاق القيادة العامة، وحينها لم تفت على الفاحص الدقيق للشئون الدارفورية مآلات هذين الحدثين، الذين يبدوان وللوهلة الأولى أنهما نتاج صيرورة تلقائية للأحداث المأساوية التي نشهد أحزانها الآن، لكنها ليست كذلك، وكما يقول فلاسفة العصر لا شيء يحدث بلا مبرر أو بغير سبب أو بدون دافع، وكما هو مفهوم للسودانيين والتشاديين على حد سواء، أن الحراك المجتمعي في الدولتين لا ينفصل عن تعاطي الفعل السياسي في البلدين، لذلك انفعلت المجتمعات المتداخلة مع سكان الدولة السودانية، وأبدت اهتماماً منقطع النظير للمعركة الدائرة بين الرجلين الذين يمثلان رأس الحكم في السودان، وحينها فقدت القيادة القبلية للحكم في انجمينا أعصابها وأصابها الذعر، وبين ليلة وضحاها تحلى الحاكم الدارفوري المزعوم بشجاعة جديدة افتقدها منذ ملحمة وادي البعاشيم، وهذا الأمر لم يأت مصادفة، بل أن المتحالفين مع الرجل السيادي الأول قد حسموا أمرهم وأخذوا يبحثون عن كبش فداء آخر غير (عقار)، حتى يستمر هذا الكبش الجديد في أداء المهمة التاريخية القذرة، التي يقوم بها من يخدمون منازل السيد، فوجدوا ضالتهم في هذا الرجل الضعيف (المُدجّن)، الذي صمت صمت القبور حينما هد الأعور الدجال البيت الذي أوى مرضاه ونزلائه بحي المهندسين الأمدرماني.
لقد تنبأ الكثيرون بأن المعركة الفاصلة سوف تكون في شرق وشمال البلاد، دون أن يعلموا بأن الحراك العسكري ومنذ قديم زمان السودان، يأتي مدفوعاً بعجلة الغرب الغنية بالمورد البشري والمعنوي، لقد انتقلت الملحمة المصيرية التي أشعل ثقابها البرهان في الخرطوم إلى الجنينة وكتم والفاشر ونيالا، بمعاونة أيد ولغت في فتات المال المستجلب، عساها ولعلها أن تحفظ النسق القديم الذي لطالما تشدقت بحرصها على إزالته (تقيةً)، لقد تشابه بقر الثورة والثوار، واحتار المواطن في ذلك المقاتل الذي يقف في صفه موقفاً نبيلاً ليحفظ له حقه في الحياة، بعدما تهافتت الجماعات المرتزقة نحو مائدة الموز، لقد جن جنون هذا المواطن المسكين أكثر فأكثر حينما وقف المسلحون – أردول ومناوي وعقار وجبريل – موقف الداعم لمن ظل يسومهم سوء العذاب ثلاثون عاماً ويزيد، لكل هذا لا نستغرب موقف المواطن السوداني المنصف وقتما قال: هذه المعركة لا ناقة لي فيها ولاجمل، نعم، إنّه الإنسان السوداني الذي لم يهادن أي منظومة من منظومات الحكم الباطشة منذ غابر الأيام والسنين، لقد هزمت الخبرات التراكمية لهذا المواطن السوداني الجميل بطش الحكومات التي عبرت بجسر السلطة والثروة منذ العام 1956، وهو الآن في انتظار المنتصر في هذه المعركة المصيرية، حتى يملي عليه شروطه المتوافقة مع حقه في الحياة الكريمة التي يستحقها، وإلّا فإنه سيقول للطرفين (الفورة مليون)، إنّ محمد أحمد هذا هو الفيصل في ماراثون صراع السلطة وشئون الحكم في البلاد، وهو يرى بعين البصيرة والبصر، ولقد ضل سعي من راهن على خداعه.

إسماعيل عبدالله
5 يونيو 2023
ismeel1@hotmail.com

 

آراء