إرهاصات التعاون السودانى الصينى فى قطاع النفط … بقلم: د. جعفر كرار احمد -الصين

 


 

 

اسرار وخبايا يونيو 1989- يونيو 1993

 

بقلم: د. جعفر كرار احمد -الصين

 

قبول الصين بالشراكة النفطية اقتضته استراتيجية الخروج الكبير

 

eastofahmed@yahoo.com

 

سنحاول في هذا المقال الذي اقتطعناه من كتاب للكاتب تحت الطبع حول العلاقات السودانية الصينية  أن نلقي الضوء علي إرهاصات التعاون الأولى بين السودان و الصين قبل عام 1989، أي خلال الفترة من 1970-1989 ، ثم نتابع الاتصالات بين الحكومة الحالية والصين حول هذا الملف. و سنحاول أن نكشف عن الأسباب الحقيقية التي دفعت بالبلدين للتوجه بحماس لتفعيل التعاون في هذا القطاع في التسعينات من القرن الماضي.

 

تنبع أهمية هذا المقال من كونه يكشف اسرار فترة هامة من جهود السودان لاستخراج النفط وهي الفترة من يونيو 1989 – مايو 1993، وهي فترة تعرضت لتعتيم شديد وشحت حولها المعلومات، وألتزم الفاعلون خلالها الصمت، وظهر إباء كثيرون ملئوا الوطن ضوضاء حول  ملف النفط في السودان، زاعمين انه لو لا قدراتهم الشخصية المتميزة لما قرر الصينيون الدخول فى مشروع النفط السودانى. كما أشار البعض الي أن الصينيين قد استخرجوا النفط بسبب علاقات سابقة مع الحركة الإسلامية السودانية وأنهم حملوا معداتهم وقطعوا المحيطات إيفاء لصداقة قديمة مع الحركة الإسلامية، هذا بينما دخلت وزارات شتى، وشخوص، لسباق المتنافسين على أبوية قرار الصين للدخول في شراكة نفطية مع السودان.

 

هذا المقال المستند على أجزاء من كتاب أكاديمي تحت الطبع يكشف عن الملابسات الأساسية التي قادت الصين للاستثمار في قطاع النفط في السودان خلال هذه الفترة، ويحاول المقال أن يجاوب على سؤال رئيسي وهو هل كان قرار الصين للدخول في شراكة مع السودان نتيجة لعلاقات سابقة بين الصين والحركة الإسلامية، أم أنه نتاج لقدرات جبارة لشخص أو مؤسسة ما، أم أنه قرار صيني بحت تم لأسباب متعلقة باحتياجات وإستراتيجيات الصين في هذا القطاع، والقرار بالتالي متعلق بالصين، أكثر منه بالسودان .

  

تشير الوثائق إلى أن حكومة الرئيس عمر البشير لم تكن أولي الحكومات السودانية التي سعت إلى تأسيس تعاون في قطاع النفط مع جمهورية الصين الشعبية إذ يعود هذا التعاون إلى عام 1970 وذلك عندما حمل الرئيس جعفر نميري معه ملفاً حول التعاون في قطاع النفط إلى الصين أبان زيارته الأولي في عام 1970. حيث بحث الرئيس نميري مع المسئولين الصينيين سبعة مشاريع من ضمنها ملفا حمل عنوان" استخراج البترول والمعادن الأخرى"  وقد كانت الاستجابة الصينية سريعة جداً إذ عاد السفير الصيني في الخرطوم  Yang Shouzheng ليبلغ مدير إدارة آسيا بوزارة الخارجية السودانية أن  خمسين خبيراً صينياً سيصلون إلى البلاد لإجراء الدراسات اللازمة للمشاريع المقترحة أثناء زيارة الرئيس نميرى إلى الصين مشيرا إلى تخصيص فرقتين صينيتين مختصتين بقطاع النفط والمعادن ويبدو أن رئيس الوزراء الصيني تشو أن لاى كان مهتماً شخصياً بهذه المشاريع ومن ضمها مشروع استخراج النفط السوداني إذ نلاحظ أن اتصالات السفير السوداني عبدالوهاب زين العابدين في بكين حول هذا الملف تجري مباشرة مع تشو أن لاى  وبالفعل وصلت فرق الخبراء الصينيين في قطاع النفط وقامت بإجراء المسوحات في عددٍ من المناطق، إلا أن تقدماً كبيراً لم يتم في ذلك الوقت وذلك لأسباب عدة منها عدم حاجة الصين الشديدة للنفط من الخارج و ضعف تقنياتها في ذلك الوقت و عدم الاستقرار السياسي في السودان و خصوصا بعد انقلاب 19 يوليو 1971 الذي دبّره فصيل في الحزب الشيوعي السوداني ، هذا إلى جانب ظروف الإضطراب الكبير في الصين أثناء الثورة الثقافية سيئة الصيت 1966-1976 . كما أن دخول  الشركات الأمريكية  في قطاع النفط في السودان منذ عام  1974 أبعد الصين نهائياً عن هذا الملف.

 

إلا أن الصينيين على كل حال عادوا وفي معيتهم معلومات أولية هامة حول احتمالات وجود النفط في السودان وربما حجمه ومواقعه. ولم يتحرك هذا الملف من ملفات العلاقات السودانية الصينية بعد ذلك. ولم يحدث أي تقدم في ملف العلاقات السودانية – الصينية في قطاع النفط حتى عام 1989 عندما قامت الحكومة الجديدة بإجراء اتصالات مع الصين لاقناعها بالشروع في التعاون في قطاع النفط .

 

لم يكن من الصعب بأية حال من الأحوال تلمس دوافع حكومة الإنقاذ في السودان للإهتمام بملف النفط بشكل عام ثم توجهها نحو الصين بشكل خاص لدفعها للدخول في شراكة في هذا القطاع. وذلك للحصار الدولي والإقليمي القوى المفروض على حكومة الفريق عمر أحمد البشير في ذلك الوقت لاتهامها في التورّط في نشاطات إرهابية وزعزعة السلام الإقليمي والإنقلاب على حكومة ديمقراطية منتخبة. وقد أُضيف لاحقاً سعي حكومة الانقاذ الي صبغ الحرب في الجنوب بصبغة دينية جهادية واضحة. حيث مارس الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة ضغوطاً شديدة على حكومة السودان وبذلت مجهوداً دبلوماسياً كبيراً لعزلها عن محيطها الاقليمي والدولي، في وقت كانت حكومة الانقاذ معزولة أصلاً عن شعبها بعد أن مارست سياسة الاقصاء والتنكيل بالخصوم في الشمال وتوسيع دائرة الحرب  في الجنوب.

 

إلا أن الحركة الإسلامية كما يشير زعيمها الروحي الدكتور عبد الله الترابي  في حواره مع الكاتب كانت تتحسّب لردود الأفعال الدولية والاقليمية تجاه النظام الإسلامي الجديد بل أن الحركة الإسلامية وبعد أن قرّرت في دوائرها الداخلية الضيقة الاستيلاء على السلطة بعمل عسكري ، قامت بالتمهيد والاستعداد لقترة إدارة الدولة في عدة محاور فعلى المحور الخارجي يقول د. الترابي "إختارت الحركة الإسلامية الصين كقوى كبرى تلجأ إليها في صراعها المتوقع مع الغرب". ويضيف د. الترابي "إننا سعينا إلى الصين للتعريف بانفسنا قبل الإستيلاء على السلطة حيث نظّمت لنا جمعية الصداقة مع الشعوب في الصين زيارة إلى الصين في عام 1988 امتدت لفترة أسبوعين وقد رد لنا الحزب الشيوعي الصيني هذه الزيارة"[1]  ويقول الترابي "إن زيارتنا تلك لم تكن صدفة فقد قدرنا إنه عندما نأتى للسلطة لا بد أن نتوجّه إلى الصين لعدد من الأسباب"، عدّدها الدكتور حسن الترابي في الآتي:

 

1-      إننا في حاجة لانجاز اقتصادي سريع مثل استخراج النفط.

 

2-      إننا في حاجة إلى تكنولوجيا غير معقدة وهذا متوفر في الصين.

 

3-      الصين كانت دولة مستعمرة او شبه مستعمرة مثل السودان كما إنها لا تتدخل في شؤون الآخرين.

 

4-      الخبراء الصينيون يمتازون بالبساطة والمقدرة على الحياة في مناخات مثل مناخ السودان كما إنهم يحترمون الثقافات المحلية ولهم مقدرة على التعامل معها واحترامها.

 

5-      أردنا بزيارتنا قبل الإنقلاب أن نهيئ الصين لقبول الوجوه الجديدة في الحكم في السودان  والنظام الإسلامي المتوقع.

 

6-      قدرنا ان الغرب سوف يتعرّف على هوية الوليد الجديد قبل عام ونصف ويصفنا بالاصوليين ويبدأ في عزلنا فاخترنا التركيز على الصين دون الهند وذلك بسبب النزاع مع باكستان حول كشمير. كما اتجهنا إلى ماليزيا حيث كان نائب رئيس الوزراء هناك السيد أنور إبراهيم  صديقاً للحركة الإسلامية السودانية وكانت تربطنى به صداقة قديمة". و أضاف " لكل ذلك كانت زيارتنا للصين في عام 1988 جزءاً من الإعداد لإستلام السلطة".

 

وبالفعل يقول الدكتور الترابي "عندما استلمنا السلطة في يونيو 1989م وجد الصينيون الوجوه التي تدير البلاد مألوفة بالنسبة لهم". وكشف الترابي أنه و بمجرد استلامهم للسلطة في البلاد تحرك النظام الجديد نحو الصين عبر عدد من القنوات لاقناعها بالمشاركة في صناعة النفط، و قال " ولكن ولمعرفتنا ببطء عملية صنع القرار في الصين فتحنا الباب لشريك كندى مسلم من أصول باكستانية فضّل التعامل معنا رغم الضغوط التي واجهتها شركته،  في وقت كنا نحاور فيه الصينيين والماليزيين".[2]

 

هذا وتوفر أدبيّات الحركة الإسلامية  والتراشق وتبادل الاتهامات بين شقيها الشعبي بقيادة الدكتور حسن الترابي والمؤتمر الوطني الحاكم بعد انشقاقهما في رمضان 1999 ، إشارات واضحة بأن الحركة الإسلامية حتى  قبل استلامها للسلطة في يونيو 1989 كانت قد عزمت وهي في طريقها لتنفيذ الانقلاب على السلطة الشرعية أن تسعى إلى تحقيق إنجاز اقتصادي سريع مثل استخراج النفط يؤمّن لها دخلاً إضاقياً هاماً وشرعية اقتصادية بديلاً عن شرعية قانونية ودستورية لا تملكها وشرعية ثورية تفتقدها. كما أنها قد حزمت أمرها قبل 30 يونيو وهي تعي أن الغرب سيناصبها العداء بمجرد أن يكشف هويتها الدينية، للتوجه إلى الصين البعيدة عن المنظومة الغربية ليمدوا لها يد العون لتمويل مشاريعهم الاقتصادية الداخلية وإنتاج النفط لكسر عزلتهم الداخلية وتمويل حروبهم المتوقعة والصرف على الأجهزة الأمنية المُكلفة التي تضمن بها السيطرة على بلد مرشح للإنفجار في أية لحظة نتيجة لعزل النظام لشعب كامل من منافذ القرار السياسي والاقتصادي والثقافي أيضا.

 

وتنسجم المعلومات التي زودنا بها رئيس اللجنة الاقتصادية ووزير الطاقة السابق السيد صلاح الدين محمد احمد كرار مع هذا الطرح إذ يشير كرار إلى "أننا قدّرنا أنه بعد السيطرة على قطاع الطاقة فإن الصين بسبب صداقتها القديمة مع السودان وسياستها الخارجية المبنية على مبادئ التعايش السلمي وعدم التدخل في شؤون الأخرين، هي الدولة المرشحة لإقامة شراكة معها في قطاع الطاقة" [3]ويؤكد صلاح كرار " أن اللجنة الاقتصادية قررت منذ انشاؤها في يوليو 1989 الاتصال بالصين لكنها كثفت اتصالاتها مع الصينيين بعد انعقاد المؤتمر الاقتصادي في أكتوبر 1990م حيث أرسلت اللجنة مقترحات محددة للتعاون مع الصين في قطاع النفط عبر سفير السودان في بكين د. د. أنور الهادي عبد الرحمن وطلبت منه تلمس امكانية التعاون بين البلدين في هذا القطاع".

 

في وقت التقى فيه رئيس اللجنة الاقتصادية سفير الصين لدى السودان هوي تشن Hui Zhen  عدة مرات خلال الفترة من 1989- 1990 لحث الصين على دراسة امكانية التعاون مع السودان في قطاع النفط .

 

 على كل حال نقل المسؤولون السودانيون معلومات مطمئنة للجانب الصيني لتشجيعه على التعامل بجدية مع الملف النفطي السوداني، ومن هذه المعلومات أن حقول الوحدة وأبو جابرة وهجليج كانت جاهزة للضخ منذ الأيام الأولى لاستيلاء الجبهة القومية الإسلامية على السلطة والثروة في السودان، وقد نقل رئيس اللجنة الاقتصادية صلاح كرار تقاريراً للجانب الصيني تفيد بأن حقل الوحدة  يتضمن 19 بئراً محفورة تنتظر حل مشكلة المياه المصاحبة للنفط، كما أكد لهم أن المنطقة قد تم تأمينها عسكرياً في ذلك الوقت،  وقد أكد المسؤلون السودانيون بأنهم لا يطمئنون لأية دولة أخرى غير الصين حالياً وفي المستقبل وقد نقل المسؤولون السودانيون ذات الحقائق إبان زيارة الرئيس السوداني إلى الصين في عام 1990، حيث كان ملف النفط أهم ملف حمله معه الرئيس السوداني الجديد إلى بكين و قد حث الرئيس السوداني المسؤولين الصينيين على الإستثمار في قطاع النفط في السودان، وأكد للقادة الصينيين مقدرة السودان على استرداد هذا القطاع بالكامل من شركة شيفرون، ناقلاً لهم أن هناك مناطق واسعة خارجة الآن عن سيطرة شيفرون، موضحاً لهم أيضاً إن الصين يمكن أن تستثمر في مربعات جديدة. ويشير السفير أنور الهادي عبد الرحمن إلى أن الرئيس شدّد في لقاءاته مع كل المسؤولين الصينيين الذين التقاهم وفي مقدمتهم الرئيس الصيني على أهمية مشروع النفط بالنسبة لحكومته التي تعاني وضعاً اقتصادياً صعباً ، وقد وعد المسؤولون الصينيون الرئيس بدراسة هذا الملف.

 

ويلقي د. الترابي أيضاً بعض الضوء على مجهودات الرئيس السوداني لاقناع الحكومة الصينية للاستثمار في قطاع النفط خلال هذه الزيارة مشيراً إلى "إنهم شدّدوا على الفريق عمر البشير أن يواصل جهوده مع القيادة الصينية  للحصول على موافقتهم على الشراكة في هذا القطاع " ويقول الترابي إن هذه الزيارة حركت ساكن الحياة في هذا الملف إلا إن الصين لم ترسل في ذلك الوقت رسائل واضحة وحاسمة حول رغبتهم في العمل معنا في هذا المجال ".

 

هذا ويشير د. أنور الهادي إلى أن الرئيس وجّهه لتحريك هذا الملف باعتباره أولوية قصوى لعمل السفارة . كما لاحق مسؤولون في اللجنة الاقتصادية السفير السوداني في بكين لإقناع الشركات الصينية بالدخول في شراكة في قطاع النفط مع السودان. ونلاحظ أن السفارة السودانية في بكين قد نشطت خلال عامي 1990- 1991 في الاتصال بالمسؤولين عن دوائر النفط والشركات الصينية العاملة في هذا القطاع لإقناعها بالاستثمار فيه  حيث عقد الكادر العامل في سفارة السودان في تلك الفترة عدداً من الاجتماعات مع المسؤولين الصينيين في قطاع النفط.[4]  وتشير تقارير سفارة السودان في بكين إلى إن سفير السودان في بكين د. د. أنور الهادي والرجل الثاني في السفارة الوزير المفوض أبو بكر محمد صالح قد بذلا جهوداً مقدرة في الاتصال بمؤسسة CNPC والمسؤولين السياسيين  في الحزب الشيوعي الصيني وفي وزارة الخارجية الصينية لتحريك هذا الملف .

 

ويبدو ومع إلحاح المسؤولون السودانيون على حث الصين للتعاون في هذا القطاع قامت وفود صينية خلال الفترة من 1991- 1992 بزيارات استطلاعية للسودان، وقد حرص المسؤولون في اللجنة الاقتصادية على تنظيم زيارات لهم إلى الحقول الموجودة آصلاً لاقناعهم بسهولة المهمة . ويقول صلاح كرار "بحلول عام 1991 كنا قد زودنا الصين بمعلومات وفيرة وهامة حول قطاع النفط في السودان والاتفاقيات السابقة ورؤيتنا للتعاون في هذا القطاع ". ويشير السفير د. أنور الهادي في تقريره الختامي بمناسبة انتهاء فترة عمله في بكين إلى أن" البعثة تلمست إمكانية دخول الشركات الصينية في الاستثمار في قطاع النفط ولا يزال هذا الموضوع قيد البحث والدراسة.  وبالرغم من مجهودات القيادة السودانية وفي مقدمتها الرئيس السوداني ورئيس اللجنة الاقتصادية صلاح كرار والمجهودات الكبيرة التي قام بها كادر السفارة السودانية في بكين طوال الفترة من 1989-1991 لإقناع الشركات الصينية بالإستثمار في قطاع الطاقة، إلا أن هذه الشركات تعذرت خلال هذه الفترة بأنها لا تمتلك تكنولوجيا مناسبة لمساعدة السودان في هذا القطاع ناصحين  سفير السودان د. أنور الهادي بالبحث عن دول أخرى تمتلك تكنولوجيا أفضل لإستخراج الخام السوداني.  ويعزى وزير الطاقة السابق صلاح كرار تردد الصين آنذاك للإستثمار في هذا القطاع حسب تقديره إلى إحتجاز جار النبي لنفط السودان حتى عام 1993م ، و تعرّض الصين لضغوط من الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية مصر العربية للعمل في هذا القطاع في السودان، بالإضافة  إلى أنهم كانوا غير واثقين من قدرة النظام على الإستمرار حيث كانوا يراقبون الوضع عن كثب. و أضاف كرار "وظل الصينيون طوال الفترة من 1989-1992م يقولون لنا ليس لدينا امكانيات تقنية عالية لكننا سندرس الامر". وكان دكتور الترابى قد لاحظ بطء الاستجابة الصينية مشيرا إلى " أن جهودنا لدعوتهم للدخول في قطاع النفط كانت أكبر من استجابتهم لكننا كنا نصر على مواصلة الحوار لاننا نعرف ان ضغوطا تمارس عليهم" ويبدو ان قراءة الدكتور الترابي كانت سليمة اذ أشار الرئيس السابق للشركة الوطنية الصينية للنفط (CNPC) وانغ تاو في أجتماع مع وفد سوداني أن الأمريكيين حاولوا إقناعهم بعدم الدخول في استثمارات نفطية في السودان بحجة ان النفط الموجود يحتاج إلى تقنيات عالية فضلا عن المخاطر الأمنية في جنوب السودان. وبالرغم من عدم ظهور نتائج أنية لهذا الجهد السياسي والدبلوماسي الكبير ، إلا أن الجانب السوداني استمرّ يلح على الجانب الصيني للدخول في تعاون في هذا القطاع. 

  

المتغيرات الداخلية في الصين التي دفعتها لتحريك ملف النفط السوداني:

 

لحسن حظ الحركة الاسلامية الحاكمة في السودان كانت الظروف في الصين نفسها مهيأة لقبول النظام الجديد في السودان لعدد من الأسباب منها تلك العلاقات الهادئة والقديمة التي تربط الصين والسودان منذ عقود طويلة، هذا بالإضافة إلى استمرار تمسك الصين بسياستها الخارجية لتي لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى ولا تفرض شروط سياسية على أنماط التعاون الفني والاقتصادي مع الدول الأخرى. كما لعب عاملين هامين حاسمين دورا هاما لصالح رؤية الحركة الإسلامية للتوجه إلى الصين في ذلك الوقت وهما:

 

1-      كانت الصين نفسها تعاني حصارا سياسياً واقتصادياً وعسكرياً غربياً قاسياً في ذلك الوقت وذلك نتاج لإنعكاسات الإحتجاجات الطلابية في ميدان تيان آن مين  في يونيو 1989 . حيث إتهم الغرب الصين بأنها واجهت الحركة الطلابية بعنف شديد وانتهكت  حقوق الانسان في الصين وكان الغرب في ذلك الوقت يأمل أن تقود حركات الاحتجاج التي عمت الكثير من المدن الصينية إلى سقوط نظام الحزب الشيوعي الصيني متفائلا بالثورات التي كانت تعم المنظومة الشيوعية السابقة منذ عام 1988 والتي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفيتي وعدد من أنظمة المعسكر الاشتراكي منذ عام 1990.

 وقد نظم الغرب بعد أن انهت السلطات الصينية حركة الاحتجاجات بالقوة، مقاطعة سياسية وحظر عدد من أشكال التعاون مع الصين.

وهكذا وجدت الصين نفسها مرة أخرى معزولة عن محيطها الدولي و  الاقليمي إلى حد ما، وبدأت في تنشيط علاقاتها مع الدول النامية ، و بالطبع من بينها السودان.

 

2-      تحول الصين من  دولة مصدرة للنفط إلى دولة مستوردة  للنفط.

 

 في تقديري أن تحول الصين منذعام 1993إلى دولة مستوردة للنفط لعب دوراً أساسياً كما سنرى في إهتمامها المفاجئ بالملف النفطي السوداني . فمن المعروف أن الصين أصبحت دولة مصدرة للنفط منذ سبعينيات القرن الماضي حيث تحولت منذ عام 1978م عند انفتاحها علي العالم الخارجي إلي  واحدة من المنتجين الرئيسيين للنفط في العالم بحجم إنتاج يومي يفوق المليوني برميل.

 

          لقد دفعت الإكتشافات الجديدة وتحول الصين إلى أحد المنتجين الكبار للنفط في تلك الفترة الرئيس الصيني هوا قوا فنغ Hua Guofeng ، للإعلان في عام 1979م عن أن الصين سوف تفتح عشرة حقول جديدة بحجم حقل داتشنغ العملاق بحلول عام 2000م، وسيصل الإنتاج يوم ذاك - يتابع الرئيس هوا-  إلي 500 مليون طن سنويا مشيراً إلى أن الصين سوف تصبح شرقاً أوسطاً جديداً.

 إلا أن الإنتاج لم يتطور بالشكل الذي تصوّرته القيادة الصينية كما أنها لم تتصوّر أيضا المدى الذي سيصل إليه استهلاك الطاقة في الصين.

وفي الواقع ظلت الصين حتى عام (1993م ) واحدة من الدول المصدرة للنفط عندما حدث تحولٌ كبير في البنية الاقتصادية والصناعية في البلاد نتيجة للتوسع الاقتصادي ونمو الصناعات والزيادة الكبيرة في الطلب على محروقات النفط بعد اكثر من عقد  ونصف من النمو الاقتصادي السريع، إذ  شهدت أعوام 1990-1993 نسبة نمو اقتصادي عالية وصلت إلى 13% الأمر الذي اضطر الصين في عام 1993 إلى استيراد 9.93 مليون طن من النفط الخام [5] لتتحول الصين من بلد مصدر للنفط إلى بلد مستورد لهذه السلعة الاستراتيجية الهامة  ليقفز استيرادها في عام 2000 إلى 70 مليون طن  من النفط الخام و 30 مليون طن من النفط المكرر بزيادة قدرها 103.9 % عن عام 1999م. وقد دفعت الصين 25 مليار دولار أمريكي ثمنا لهذا الحجم من الاستيراد،  ثم إلى 127 مليون طن في عام 2005 ، ثم إلى 145.18 مليون طن في عام 2006 ليقفز إلى 160 مليون طن في عام 2007. ونلاحظ أنه  بالرغم من ظروف الأزمة المالية العالمية إرتفع استيراد الصين من النفط إلى 178.88 مليون طن في عام 2008م

 

وتشير دراسة أجرتها شركة شل إلى أن الصين سوف تستورد ما بين 7-8 ملايين برميل من النفط الخام يومياً بحلول عام 2015م، وتؤكد وكالة الطاقة الدولية بان استيراد الصين من النفط سيصل في نهاية عام 2020م إلى 8 ملايين  برميل يومياً مما يعنى أن الصين ستستورد نصف احتياجاتها من الخارج ، وتبدو التوقعات لحجم استهلاك الصين لعام 2030 وفقاً لإحصاءات وكالة الطاقة الدولية أكثر تشاؤماً إذ تشير الوكالة إلي أن الصين سوف تضطر في ذلك العام (2030م) إلى استيراد 84% من  حجم استهلاكها من الخارج.

 

 ونلاحظ أن الزيادة في الإنتاج المحلي من النفط لا تتناسب مع الزيادة الكبيرة في الطلب الحالي والمستقبلي للنفط في الصين. و يتوقع خبراء نفط صينيون أن يبلغ إنتاج  بلادهم من النفط 198 مليون طن بحلول عام 2011.

 

وهكذا ترسم الأرقام صورة قاتمة أمام دوائر صناعة القرار النفطي في الصين بسبب اتساع الهوة بين حجم الإنتاج وحجم الاستهلاك وانعكاسات الوضع الجديد علي مجمل البنية الأمنية والاقتصادية والسياسية في الصين . فماذا فعلت الصين لمواجهة هذا الوضع؟

 

عملت الصين لمواجهة هذا الوضع المعقد في اتجاهين رئيسيين، اتجاه داخلي يعمل علي تكثيف عمليات المسح والتنقيب في محاولة لزيادة حجم الإنتاج أو على أقل استقراره وزيادة الاحتياط النفطي الداخلي في الصين عن طريق الاكتشافات.* *  للمزيد من المعلومات حول الإستراتيجية التي عملت بها الصين لتأمين احتياجاتها من النفط أنظر جعفر كرار أحمد، صناعة النفط و البتروكيماويات في الصين و انعكاساتها على العلاقات العربية الصينية، مركز الدراسات الآسيوية ، كلية الاقتصاد و العلوم السياسية،، جامعة القاهرة، أوراق آسيوية، رقم 54  ، فبراير 2004،  ص 2-11     و يبدو حتى الآن أن الصين لم تحقق نجاحات كبيرة في العثور على إحتياطات جديدة كبيرة تسهم في رفع إنتاجها من النفط من حقول داخلية إذ أنه في عام 2008م  لم يتعد إنتاج الصين من النفط 189.73 مليون طن. وبالرغم من أن حجم الإنتاج قد فاق في هذا العام توقعات الباحث الصيني لي شنغ شنغ بمركز البحوث الإقتصادية و الاستشارية بحوالي 19 مليون طن إلا أن الصين استوردت في ذات العام بالرغم من هذه الزيادة الهامة 48% من حجم استهلاكها من الخارج.

 

أما الإتجاه الثاني الذي إعتمدته الصين لمواجهة المأزق النفطي فهو البحث عن حصص واسهم في حقول نفط في الخارج عن طريق الشراء أو التنقيب. و قد عكست الخطة الخمسية الثامنة1991-1995 في الصين هذا التوجه بوضوح عندما دعت شركات النفط  لضرورة الخروج " لتطوير عمليات نفط في خارج الصين"، لتصبح و منذعام 1991 سياسة خروج الشركات الصينية للمنافسة في العالم سياسة رسمية للحزب و الدولة. و في هذا الاتجاه بدأت الصين تحت ضغط الظروف الجديدة تعاونها الخارجي منذ عام 1992م وذلك عندما قامت المؤسسة الصينية الوطنية للنفط CNPC  في عام 1992 بالدخول في مشاريع قليلة المخاطــــر في كندا، ثم في  بيرو في أكتــوبر 1993م  وبابونيو غينيا وتايلاند  في مارس 1993. إلا أن هذا التعاون سرعان ما أخذ منذ عام 1997م بعداً استراتيجياً هاماً، إذ نشطت الصين في تأمين مصادر جديدة للطاقة في الخارج حيث أخذت المؤسسات النفطية الصينية الكبرى وفي مقدمتها CNPC  والمؤسسة الصينية الوطنية للبتروكيماويات SINOPEC  و المؤسسة الصينية الوطنية للنفط البحري CNOOC تنشط في البحث في شتى  أنحاء العالم عن صفقات واستثمارات في مجال البترول ، استكشاف ، تنقيب وتطوير حقول منتجة وشراء حصص. وقد أنفقت المؤسسات الصينية الكبرى الثلاث CNPC  ، CNOOC ، SINOPEC في السنوات   العشر الماضية  عشرات المليارات من الدولارات الأمريكية في منافسات شرسة مع الشركات الغربية و الأسيوية للحصول على امتيازات بترولية في السودان ، فنزويلا، العراق ، كازاخستان ، أزربيجان  ،بيرو ، كندا ، تايلاند ، بورما ، بابونيو غينيا أنغولا ، تشاد ، أندونيسيا ، تركمستان وغيرها من البلدان. كما حاولت دون نجاح مؤسسة الصين الوطنية للنفط البحري CNOOC شراء حصص رئيسية في شركات أمريكية مثل UNOCAL و روسية مثل ROSENEFT .

 

 و على عكس الاتجاه الاول فإن استراتيجية الخروج الكبير سجلت نجاحات كبيرة، إذ أضافت الصين ملايين الأطنان من النفط و الغاز إلى إحتياطاتها المعلنة و قللت بشكل كبير من قيمة فاتورة استهلاك النفط.

 

و في ظل هذه المعطيات لم تكن الحكومة السودانية وأجهزتها الدبلوماسية والفنية الأخرى في حاجة إلى مجهود كبير للمضي قدماً في بناء شراكة استراتيجية مع الصين في قطاع النفط. فقد حزمت الصين أمرها منذ عام 1991 بشكل خاص ىللخروج من أسوارها وتأمين حاجتها من النفط عن طريق المشاركة في عمليات التنقيب والإنتاج في الخارج بدلاً من الشراء المكلف و إرتهان إقتصادها لتقلبات الأسواق. وبالطبع كان السودان حاضرا في استراتيجية التحرك الصيني الدولي المحموم للبحث عن مصادر طاقة تضمن بها الصين استمرارية عملية التنمية آنذاك وفي المستقبل.

 

و تشير الكثير من التقارير والدراسات  إلى أنه بمطلع عام 1992 كان الخبراء الصينيون قد نجحوا في إقناع القيادة الصينية لمراجعة استراتيجيتها للخروج من أسوار الصين ويذكر خبير صيني في قطاع النفط أن النصف الثاني من عام 1991 شهد عددا من الاجتماعات وورش العمل نظمتها الدوائر النفطية الصينية أمنت جميعها على البدء فورا في خطوات عملية وعاجلة لتأمين احتياجات النفط المستقبلية والبدء في حوار مع الشركات الأجنبية والدول لضمان إمدادات النفط. ويشير هذا الخبير إلى أن دوائر النفط أوصت في هذا الاتجاه بالبدء فورا في دراسة الملف السوداني و خوض التجربة مع السودان، بجانب ملف حول التعاون مع دول مثل بيرو وكندا وتايلاند   وإرسال وفود إلى دول منطقة الخليج وتلمس إمكانية توقيع عدد من الاتفاقيات لبدء تنفيذ استراتيجية الخروج الكبير لتأمين إمدادات النفط للصين. ونلاحظ -كما يشير صلاح كرار- أن وفوداً صينية زارت السودان خلال عام 1991م -1992م حرصت على زيارة حقول النفط الموجودة ومتابعة الحوار وطلب المزيد من المعلومات حول الاتفاقيات الموقعة مع الشركات الغربية كما أن السودان في هذه الفترة كان قد تجاوز واحدة من أهم معوقات التعاون في قطاع النفط ليس مع الشركات الصينية فحسب، بل مع الشركات الاجنبية بشكل عام إذ استطاع وزير الطاقة الجديد صلاح كرار كما أشرنا من قبل ان يصل إلى حل للنزاع القائم بين شركة كونكورب العالمية وحكومة السودان والذى امتد طوال الفترة من 1991م -1993م حيث انتقلت كافة امتيازات شركة كونكورب إلى حكومة السودان.

 

وتشير مصادر مطلعة بأن مسئولين في مؤسسة النفط الصينية CNPC كانوا قد فرغوا في مطلع عام 1993 من إعداد دراسة الخرط والمعلومات التي وفرتها سفارة السودان في بكين وسفارة الصين في الخرطوم والجهات السودانية المختصّة المتعلقة بالنفط. كما تم دراسة العقود السابقة الموقعة مع السودان و الشركات الأجنبية من الناحية القانونية. وهكذا بات الصينيون على استعداد لتنشيط هذا الملف. خصوصا أن حكومة السودان كانت تلح على هذا التعاون في وقت يشدّد فيه الاستراتيجيون الصينيون على أهمية العمل بشكل أسرع لتأمين إحتياجات الصين من النفط في حقول في الخارج و في أسرع وقت ممكن . كما أن خروج الشركات الأمريكية وحالة العداء الغربي للسودان في ذلك الوقت تبدو في تقدير الجهات الصينية مناخاً جيداً للتقدم وبسرعة في هذا الملف.

 

 وهكذا نرى ان المسئولين المناط بهم متابعة ملف النفط مع الصين بعد مطلع العام 1993 وجدوا الطريق ممهّداً وذلك لأن خبراء النفط في الصين كانوا قد أنهوا سلفاً دراساتهم لوثائق الملف النفطي السوداني، وحسموا أمرهم بالتعامل معه بجدية، وبالسرعة الممكنة منتظرين أن تنهي الحكومة السودانية مفاوضاتها مع شركة كونكورب العالمية حول إمتيازاتها النفطية، وتأمين المواقع المحتملة للنفط، لتبدأ الشركات الصينية فى العمل.

 

وهكذا يكشف هذا المقال أن قرار الصين في الدخول في شراكة مع السودان كان قراراً صينياً بحتاً أملته ظروف داخلية صينية  وكان من حسن الطالع أن تزامنت أشواق السودان للحصول على النفط مع قرار الحزب والدولة الصينية منذ عام 1991 لعبور سور الصين العظيم لضمان حصص في مشاريع طاقة خارج الصين وقد إنتظر الصينيون أن يزيل السودان المعوقات القانونية ويحسن الأمن في مناطق الإنتاج كي تبدأ الصين العمل .

 

في حقيقة الأمر دفعت احتياجات الصين النفطية الضاغطة وإستراتيجية الخروج الكبير، أحياناً الصين للتنازل عن بعض ثوابت سياستها  الخارجية فقد تقدمت الشركات الصينية للاستثمار في جمهورية تشاد بالرغم من عدم وجود سفارة صينية في تشاد بسبب علاقات تشاد السابقة بالمجموعة الانفصالية الحاكمة في تايوان، وقد نجحت الصين في إحداث اختراق هام في تشاد يومذاك رغم عدم وجود سفارة صينية هناك ولا سفارة تشادية في بكين .

 

أن قرار الصين باستغلال واستخراج نفط السودان كان قراراً صينياً بحتاًً وليس بسبب صداقات سابقة بين الحركة الإسلامية والصين، أو لقدرات جبارة لمؤسسات وأشخاص، وإن كان هناك من تشهد لهم الوثائق خلال هذه الفترة يونيو 1989- يونيو1993 بالاجتهاد والمتابعة الصبورة لهذا الملف، ففي مقدمتهم د.حسن الترابي الذي وضع النفط كهدف وأضح لحكومته وأخذ يتابع ويوجه من على البعد، ووزير الطاقة السابق صلاح الدين محمد احمد كرار، الذي تفادي البعض تكريمه بمناسبة عيد النفط، والذي كان يتحرك بنشاط بين بكين والخرطوم وبين مكتبه ومكتب سفير الصين في الخرطوم ليدفع بهذا الملف الي الامام . وكذلك د.أنور الهادي سفير السودان في الصين خلال تلك الفترة والذي ظل يطرق كافة الأبواب بلا يأس والوزير المفوض النشط أبو بكر محمد صالح .

 نقلاً عن صحيفة الأيام السودانية

 

 

آراء