إسهام الطبقة العاملة السودانية في ثورة 1924م

 


 

 

 

تزامنت مقاومة الطبقة العاملة السودانية مع مقاومة الشعب السوداني للاستعمار البريطاني في بداية القرن العشرين ، تلك المقاومة التي اتخذت الشكل القبلي والديني في البداية وتطورت الي تكوين التنظيم السياسي الحديث في جمعيتي الاتحاد السوداني واللواء الابيض حتي قيام ثورة 1924م، ولم تكتف اقسام من الطبقة العاملة بالنضال الاقتصادي ، بل شاركت في قيادة ثورة 1924 ، وشاركت في المظاهرات ، وتعرض البعض للمحاكمات بعد هزيمة الثورة.

الواقع أن إضرابات ونضالات الطبقة العاملة السودانية ترجع جذورها بعيدا والتي تلازمت مع نشؤها وميلادها في بداية القرن العشرين ، فالطبقة العاملة الحديثة الوليدة والتي نشأت مع مشاريع الاستعمار الحديثة : سكك حديدية ، النقل النهري ، الميناء، مشروع الجزيرة ، الصناعات الخفيفة ... الخ . كانت تعاني من الاستغلال البشع للاستعماريين كما هو الحال في ضآلة الأجور التي كانت تتقاضاها ، وكان عمال الجنوب يعانون من اضطهاد طبقي وعنصري من خلال نظام الأجر غير المتساوي للعمل المتساوي مع عمال الشمال ، كما كانت المرأة تعاني من اضطهاد طبقي وجنسي من جراء الأجر غير المتساوي بين الرجال والنساء ، وكان جهاز الدولة الاستعماري هو المخدم الرئيسي والذي كان ينهب خيرات البلاد الاقتصادية ويصدر فائضها الاقتصادي للخارج ، وبالتالي كان من مصلحته أن يعيش العمال والمزارعون وصغار الموظفين وبقية القوي الأخرى العاملة بأجر علي حد الكفاف ليجنى أكبر قدر من الأرباح .
نتابع هنا بقدر ما أمكن نضال الطبقة العاملة منذ بداية القرن العشرين ، ولكن من المهم قبل أن نبدأ في ذلك أن نشير إلي المؤثرات الخارجية التي أسهمت في تطور وعي الطبقة العاملة السودانية ومنها تطور الحركة الوطنية والتقاليد النضالية للشعب السوداني ، وظهور الفكر والوعي الجديد في مختلف المجالات الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والفنية والرياضية وتطور أشكال التنظيم السياسي والاجتماعي ( جمعية الاتحاد السوداني ، جمعية اللواء الأبيض ، مؤتمر الخريجين ، أندية العمال التي بدأت تنشأ في البلاد منذ منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي في الخرطوم وعطبرة وبور تسودان .. الخ ، وغير ذلك . كما نشير إلي تأثر العمال السودانيين برصفائهم المصريين والأرمن وغيرهم الذين جاءوا من بلاد فيها تقاليد الإضرابات كوسيلة لانتزاع المطالب والحقوق . وإذا أخذنا مصر كمثال والتي كانت حركة الطبقة العاملة فيها أكثر تطورا في المنطقة العربية ، نجد أن أول إضراب عرفته مصر قام به في مارس 1882 م عمال تفريغ الفحم في بور سعيد للمطالبة بزيادة الأجور ، وقد سجل عام 1899 م بداية تحركات عمالية جديدة من أهمها إضراب عمال السجائر الذي نجح في تحقيق مطالب العمال الخاصة بزيادة الأجور ، وبين سنتي 1899 ، 1907 م لم تنقطع الحركة الاضرابية المطلبية ( عبد المنعم الغزالي :تاريخ الحركة النقابية المصرية ، 1899 – 1952 ، القاهرة 1986 ) . وفي نهاية القرن التاسع عشر سافر بعض الطلاب للدراسة في أوربا ، وهناك تأثر البعض منهم بالأفكار الاشتراكية ومدارسها المختلفة : ماركسية ، فابية ، ... الخ ، وعندما اكملوا دراساتهم رجعوا إلي مصر وبشروا بالأفكار الاشتراكية التي تطالب بتحسين أحوال ومستويات العمال والكادحين وتناصر المستضعفين ضد الاستعمار والاضطهاد الرأسمالي وقامت أحزاب اشتراكية في مصر ، ومن هؤلاء المفكرين كان سلامة موسي الذي أول من آلف كتابا عن الاشتراكية في مصر عام 1913 ، وعصام الدين حفني ناصف ومصطفي المنصوري وغيرهم . وقد أسهمت هذه الأفكار في تطور وعي الطبقة العاملة ( للمزيد من التفاصيل راجع : أمين عز الدين : تاريخ الطبقة العاملة المصرية منذ نشأتها حتى 1919 ، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر بدون تاريخ ).
مع بداية القرن العشرين بدأت الإدارة البريطانية في السودان تشرع في إنجاز مشاريعها الزراعية والصناعية والخدمية في السودان ، واتجهت إلى توفير الأيدي العاملة من السودانيين وتشجيع العمل المأجور في التعدين وبناء السكك الحديدية وفي قطع الأخشاب وفي المشاريع الزراعية ، وكانت ظروف العمل سيئة والأجور ضئيلة ، وتشير تقارير الحاكم العام عام : 1903 ، 1907 ، 1908 ، إلى إضرابات وقعت في تلك الفترة . وإذا تتبعنا خيوط نضال الطبقة العاملة السودانية في الفترة من 1900 م وحتي اندلاع ثورة 1924م ، نلمس الآتي : -
1- في عام 1903 ، 1907 أضرب عمال مصلحة الغابات احتجاجا علي ظروفهم السيئة .
- 2 في عام 1907 قام العمال المصريون الذين جاءوا إلي العمل في مصلحة البواخر النيلية بإضراب نتيجة تذمرهم من ضآلة أجورهم ، وكان السجن نصيب البعض منهم. وفي العام نفسه حدث إضراب للعاملين بمزرعة الفاضلاب ببربر وكانت أعمار العاملين تتراوح ما بين الثانية عشره والرابعة عشرة ( ويعكس هذا الاستغلال البشع لللاحداث دون سن ال16 سنة .(
3 - في عام 1908 م قدم موظفو السلك الكتابي مذكرة ضمت شكواهم من شروط الخدمة وضآلة المرتبات .
-4 في عام 1909 م قام سبعون من عمال الزراعة بمشروع الكاملين الحكومي بإضراب عن العمل لزيادة أجورهم ، ولم يتم الاستجابة لمطلبهم ، وتم فصلهم ، ومع ذلك حدث إضراب آخر من جانب عمال المزرعة الباقين ( محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية في السودان ، ص 213، راجع ايضا : تاج السر عثمان: خصوصية نشأة وتطور الطبقة العاملة السودانية" 1900- 1956"، الشركة العالمية للنشر 2007م).
-5 في عام 1912 ، 1913 م أضرب عمال ميناء بور تسودان وعمال طريق أر كويت ، وكانت هذه الإضرابات جنينا وبذورا وشكلا جديدا للنضال ضد المستعمر ولمقاومته في الحقلين الصناعي والزراعي كما لاحظ محمد عمر بشير .
وبعد الحرب العالمية الأولى دخلت نضالات الطبقة العاملة مع الحركة الوطنية بأسرها مرحلة جديدة في تطورها ذلك أن الأسعار قد ارتفعت وبوجه أخص سعر السكر ، ومن ثم ازداد بؤس أصحاب ذوي الدخل المحدود بالمقارنة مع الطبقات والفئات الأخرى هذا إضافة للكساد الاقتصادي الذي حدث عام 1908 م في النظام الرأسمالي العالمي وكان له انعكاسه علي السودان الذي أصبح دائرا في فلكه منذ عام 1898 م . زد علي ذلك تدهور التجارة في عام 1913 م نتيجة لللازمة التي بدأت مع الحرب العالمية الأولى والازمة الاقتصادية والمجاعة التي حدثت عام 1914 م ويذكر الشيخ بابكر بدري في تاريخ حياته أن الحكومة اضطرت لاستيراد الذرة من الهند . وفي اجتماع عقده الموظفون الحكوميون في نادي الخريجين بأم درمان في 23/10/ 1919 م لمناقشة مشكلة ارتفاع الأسعار قرر الموظفون مطالبة الحكومة بزيادة المرتبات ومن ثم تقدموا بمذكرة للحكومة ، وبعد مناقشة مجلس الحاكم العام لها ، وملاحظته القلق السائد لدي موظفي الحكومة طلب المجلس من لجنة الاقتصاد المركزية القيام بعمل إحصائيات بشأن مستوي الأسعار فيما قبل الحرب وبعدها . ولكن لم تتخذ الحكومة أي إجراء من جانبها للاستجابة لمطلب زيادة الأجور مما أدي ازدياد قلق المواطنين المصريين العاملين بعطبرة ووادي حلفا ، وقام موظفو وادي حلفا بإضراب في : 20 / 10/ 1919 م . وتمت تعبئة وحشد قوات الجيش وأرسلت بعض الفرق البريطانية والمصرية لكل من بور تسودان وكوستي وعطبرة ، وعكس إرسال الجنود قلق الحكومة فيما يتعلق بتطور روح المقاومة بين العمال والموظفين وقامت بتهديد وإنذار العمال بالفصل واستخدام قوات الجيش للقمع عند الضرورة ، ولكن ذلك لم يمنع من انتشار روح المقاومة وسط العمال إذ حدث إضراب مماثل لعمال السكة الحديد بعطبرة خلال الأعوام 1920 إلى 1923 م ، وذلك بعد تهديدهم بالإضراب عندما اقترحت الحكومة تطبيق نظام التدرج الجديد عام 1920 م أو هيكل مرتبات هدلستون الذي بدأ العمل به عام 1922.
الطبقة العاملة وثورة 1924م
لم تكن الطبقة العاملة الوليدة بمعزل عن ثورة 1924 ، بل كان بعض العمال أعضاء في جمعية اللواء الأبيض علي سبيل المثال : في تحليل لتركيب (104) من أعضاء جمعية اللواء الأبيض نلحظ التالي : 40 موظفين ، 27 ضباط سابقين ، 10 عمال ، 8 تجار ، 6 كتبة ، 4 طلاب ، 4 قضاء ، 3 مدرسين ، 2 من نواب المآمير(محمد عمر بشير : تاريخ الحركة الوطنية ، ص 86 ) . ما يهمنا هنا وجود 10 عمال في هذه العينة كانوا أعضاء في جمعية اللواء الأبيض مما يؤكد ملامسة أقسام من الطبقة العاملة الوليدة للتنظيم السياسي الحديث في السودان ( جمعية اللواء الأبيض ) ، وأن هذه الأقسام لم تكتف فقط بالنضال الاقتصادي والمطلبي ، بل ربطت مصيرها بالقضية الوطنية والسياسية العامة في البلاد . كان قادة جمعية اللواء الأبيض يحاولون التأثير علي العمال وجذبهم لأهداف الجمعية ، جاء في تقرير مديرية الخرطوم في عام 1924 بأن ( هناك في الخرطوم جماعة من العمال منظمة بواسطة جمعية اللواء الأبيض ، وقد قصدت بذلك أن تضع في الوقت المناسب تحت تصرف الجمعية نشاط جميع الفنيين السودانيين ( محمد عمر بشير ، ص 212 ) ، ويمكن أن نستنتج من ذلك – إن صح الاستنتاج – أن قادة جمعية اللواء الأبيض كانوا يركزون علي الفنيين لما لهم من تأثير وسط جماهير العمال . وذكر علي احمد صالح الذي اصبح شاهد ملك لدي محاكمة أعضائها : ( إن أعضاء اللواء الأبيض حاولوا أن يجذبوا إليها كل من عمال الورش والبواخر ومصلحة الأشغال العامة ( المرجع السابق ، ص 212 ) ، وكان من قادة العمال في جمعية اللواء الأبيض : عثمان احمد سعيد العامل بمصلحة الأشغال ، ورمضان محمد العامل بمصلحة البواخر بالخرطوم ، وبذل أولئك الرجال مع علي عبد اللطيف جهدا شاقا للحصول علي تأييد العمال لجمعية اللواء الأبيض ( نفسه ، ص 212 ) ، ومن العمال الذين شاركوا في ثورة 1924 م التهامي محمد عثمان الذي كان يعمل نجارا بالري المصري بالخرطوم وقد شارك في رفع الرايات في المظاهرات وكان من ضمن الذين وقعوا برقية الجمعية الموجهة إلى جريدة الأهرام بمصر ، وقد حوكم في حوادث 1924 وحكم عليه بعامين سجن، كما حكم عليه أيضا في حوادث السجن العمومي بعامين آخرين . ومن العمال الذين حوكموا بالتهمة ذاتها العامل عبد الله احمد سعيد ، وكذلك العامل حامد حسنين وقد حكم عليه بعام ونصف ثم حكم عليه في حوادث السجن العمومي بعامين ، وقضي العامل عبد الله ريحان عامين بالمعتقل بتهمة القيام بالاتصال بالجمعية وتبليغ الأعضاء بالقرارات ، بالإضافة إلي إعداد الإعلام للمظاهرات ، أما محمد أبا يزيد النجار بورشة كلية غردون بالخرطوم فقد وضع بالسجن وهرب إلى مصر ثم أعيد إلى السودان ( عبد الرحمن قسم السيد : عمال السودان والسياسة ، ص 38 )
كانت أشكال مشاركة العمال في جمعية اللواء الأبيض تتلخص في : المظاهرات ، توزيع المنشورات والملصقات ، وضع الإعلام والإعلان عن آرائهم في الاجتماعات الداخلية للتنظيم ( المرجع السابق ، ص 38 ) ، ويذكر المؤرخ العمالي عبد الرحمن قسم السيد في مؤلفه ( الأندية العمالية والحركة الوطنية ) أن سدس عدد المتهمين الثماني والعشرين في حوادث 1924 كانوا من العمال . كما حوكم أيضا بعض العمال في حوادث السجن العمومي وانحصر اتهامهم في تنظيم الاجتماعات غير المشروعة واستعمال القوة والكسر والشروع في كسر أبواب السجن لإخراج المعتقلين ( المرجع السابق : ص 38 – 39 )
وفي مقال له بجريدة الأضواء السودانية يناير 1969 م يذكر الأستاذ محمد سليمان ، المقال بعنوان : صحائف مطوية من تاريخنا الحديث ) ، أن أولى المحاولات لإنشاء نقابات العمال بدأت في تلك الفترة فيقول : كما كانت ثمة محاولات تجري لتنظيم العمال في نقابات ، بل كان هناك اتصال بما يسمي بمجلس العمال المصري لبعض العمال السودانيين وجاء في تقرير المخابرات في شهر يوليو عام 1924 ما يلي : وصلتنا معلومات تفيد بأن حزبا عماليا قد تكون برئاسة علي أحمد صالح يضم النجارين والبناءين وصناع الأحذية وغيرهم بهدف حماية مصالح العمال ، ويقال أن رئيس الحزب يسعي لضم حزبه مع حزب علـي عبد اللطيف).
إذن يمكن القول ، أن أقساما من الطبقة العاملة الوليدة ارتبطت بأول تنظيم سياسي حديث في السودان قام علي شعارات سياسية ووطنية ، بعد هزيمة التنظيمات والانتفاضات السابقة التي قامت علي أسس دينية وقبلية في بداية القرن العشرين .
alsirbabo@yahoo.co.uk

 

آراء