إسهام مجلتي “النهضة” و”الفجر” في الإستنارة والتجديد (1/2)
تاج السر عثمان بابو
14 August, 2015
14 August, 2015
معلوم أن مجلة "النهضة السودانية" أسسها محمد عباس ابو الريش في اوائل الثلاثنيات من القرن الماضي، ومجلة "الفجر" أسسها عرفات محمد عبد الله عام 1934م، وقد لعبتا دورا كبيرا في الاستنارة والوعي والحداثة والتجديد في آساليب ومناهج العمل الصحفي، وظهرت المجلتان بعد هزيمة ثورة1924م ، وانحسارالمد الثوري ضد الإستعمار ، وفي ظروف تعرض فيها الوطنيين والمتعلمين المعارضين للاستعمار لحملة مطاردة وقمع من الحكومة الاستعمارية وقلم مخابراتها، وتم سن قانون الإدارة الأهلية وتشجيع القبلية ومبدأ " فرق تسد" لاضعاف الحركة الوطنية وتقوية الطائفية ودعمها اقتصاديا كترياق مضاد للحداثة والاستنارة والحركة الوطنية، وسن قانون المناطق المقفولة لعزل الجنوب عن الشمال بعد مشاركة عناصر من الجنوبيين في ثورة 1924م، وإستمر هذا القمع حتي إتفاقية 1936م، والتي بعدها حدث إنفراج نسبي ، وبدأت تنهض المقاومة بسبب تهميش السودانيين في الإتفاقية، وقام مؤتمر الخريجين عام 1938م، ونشأت الأحزاب السياسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ، وقامت الحركة النقابية واتحادات الطلاب والشباب والنسا،ء وتطورت الصحافة الوطنية ،واشتد عود المقاومة الوطنية حتي جلاء المستعمر عام 1956م. :وكان تطور الصحافة في السودان نتاجا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في اوائل القرن الماضي بعد قيام مشروع الجزيرة ومشاريع القطن الأخري، والسكة الحديد ، وميناء بورتسودان، وكلية غردون وتطور التعليم الحديث..الخ. وعندما نتحدث عن الصحافة السودانية وروادها المجددين الأوائل لابد أن أن نذكر حسين شريف وعرفات محمد عبد الله ومحمد احمد المحجوب والتنى ومحمد عباس أبو الريش ... الخ . ويمكن القول أن أسس العمل الصحفي في السودان تم إرساؤها على يد عرفات محمد عبد الله ورفاقه .. من حيث استحداث الأساليب الصحفية الحديثة والمتنوعة التي تشبع أذواق القراء على مختلف ميولهم ومشاربهم واحترام شرف المهنة .. الخ ومن خلال مجلة" النهضة" "والفجر" وغيرهما، اطلع المتعلمون السودانيون على عوالم ثقافية وفكرية متنوعة وكانتا منبرين مهمين لخدمة البلاد في شتى المجالات مثل : التعليم ، الاقتصاد ، الوطنية السودانية ، نهضة المرأة ، والتعريف بالمدارس الأدبية والفنية فى البلدان الغربية والعربية والافريقية والآسيوية. وكمثال على الأفكار الناضجة عن الصحافة ما جاء في افتتاحية الفجر الصادرة في أول أغسطس 1935 بعنوان " الصحافة الوطنية " بمناسبة صدور صحيفة النيل والتي كتبها عرفات محمد عبد الله : تطرقت الافتتاحية إلى الحديث عن الصحافة الوطنية ووظيفتها و أشارت إلى آلاتي : _ في البداية نرى انه من العبث إقتفاء اثر الصحف العربية والأوربية في صحافتنا وذلك لاختلاف و تباين واقع البلاد ومشاكلها عن تلك البلدان ، بالإضافة إلى عدم وجود "سياسة" بمعنى وجود أحزاب وبرلمان ووزارات وانتخابات .... الخ . _ والصحفي المغامر لن يلبث طويلا حتى يكتشف بعد دروس قاسية أن بضاعته المستوردة لن تجديه فتيلا ، يتعرض المقال للصعاب والعقبات التي تعترض الصحافة في البلاد منها . 1_ قلة السكان وقلة عدد المدن 2 _ الأمية المتفشية 3 _ فقر الأهلين وانخفاض مستوى التعليم 4 _ حداثة العهد بالصحافة وانعدام التعود على المطالعة حتى عند من أصابوا جانبا من التعليم . كما أن هناك عقبات تواجه الصحفي الذي يريد أن يرضى ضميره وعليه معالجتها بكل حكمة ومنها : _ ما ينسب للدين والتعصب القبلي والمصالح الشخصية أو مصطلحات الطرق الصوفية والعادات المستحكمة .. الخ . _ هناك الرقيب الحكومي عن كثب ولابد لك من حكمة ومن المران لتعرف كيف تقول شيئا ما من دون أن تغضب أحدا ، فقد تكون مقتنعا كل الاقتناع أن ما دبجت من نقد كان من باب النقد الإصلاحي الرشيد وليس هدفا في شئ ولكنك قد تطال أرضا محرمة . _ على الصحفي أن يبث في قرائه روحا جديدة من التسامح واتساع أفق النظر لاعهد لهم بها فيما سبق كان عرفات محمد عبد الله من رواد التجديد والاستنارة وكانت له نظرة متقدمة وعميقة لمسألة التجديد . ففي أول عدد لمجلة "الفجر" الصادر بتاريخ 6/ 6 / 1934 ،كتب عرفات الافتتاحية بعنوان " قل هذا سبيلى " وضح فيها أهداف المجلة ، ورد فيها على بعض الأفكار والتهم التي وجهت للمجلة وهى أنها باسم التجديد تريد أن تطمر القديم من الأدب العربي بخيره وشره يقول: " ليس معنى التجديد الهدم ولا التدمير، وان الآداب والفنون لا تستطيع مطلقا أن تهمل القيم أو تتناساه وان التراث العربي الفني الخصيب سيجد من عنايتنا ورعايتنا وبرنا افضل ما تصل إليه طاقاتنا كما إننا نود أن نؤكد لهم إن الآداب الأجنبية لا مندوحة عن قراءتها ودرسها " ويواصل ويقول" " علينا معالجة مشاكلنا الخاصة قبل أن نتصدق على الأغنياء باكاسر الذرة وبطونهم ملآى بشهي الطعام والشراب " _ وفى ميدان تجديد الأدب والنقد والفن لابد أن نذكر الرواد والذين كتبوا في مجلتي "الفجر" "والنهضة" مثل: محمد احمد المحجوب ، حمزة الملك طمبل، عبد الله عشري الصديق ، ومحمد عشري الصديق ، الأمين على مدني ، التيجانى يوسف بشير ، معاوية محمد نور ، ويوسف مصطفى التنى......الخ . وفى عدد "الفجر" الصادر بتاريخ أغسطس سنة 1935 نجد مقالا بعنوان "بين الادبين" ليوسف مصطفى التنى يرد فيه على مقالة سابقة لمحمد حمزة عبد القادر بعنوان "الأدب المصري والسوداني وخطأ الفصل بينهما" يوضح المقال النقاط التالية: " : • إننا ندعو إلى قراءة كل ما تيسر قراءته من نتاج الفكر البشرى دون قيد من جنس أو وطن أو دين (الجانب السلبي من الثقافة ) ولكننا نقول إن الجانب الإيجابي أي نتاجنا الأدبي يجب أن يكون عليه طابعنا الخاص وشخصيتنا القومية . • إننا نريد أدباءنا أن يقرءوا أدب مصر وغير مصر حينما يقرءون ، ولكن يجب أن يكونوا سودانيين عندما ينتجون وليس في جعل أدبنا أدبا سودانيا ما يمنعه من أن يكون عربيا إلا إذا أنكرت على السودانيين عربيتهم ، بل أريد أن اذهب حدا ابعد ، فاذكرك بان ليس هناك ما يمنع الأدب القومي من أن يكون أدبا عالميا متى توفر عنصر( الإنسانية ) اللازم .وخذ من قصص الروس ومسرحيات شكسبير واخيرا من كتاب الأيام لطه حسين أدلة مقنعة لمن ألقى السمع وهو شهيد" . وهذا مثال لرفض النقل الأعمى لتجارب واداب الآخرين والإسهام في الآداب العالمية من خلال محليتنا .. • كما تطورت كتابة القصة التي عكست الهموم والآمال والأحلام والطموحات للفئات الاجتماعية الجديدة الناشئة مع التطورات الاقتصادية ، فدارت القصص حول الحب والزواج والأحوال المالية والأسعار والمغامرات ومحاربة العادات الضارة ( د. عبد المجيد عابدين : تاريخ الثقافة العربية في السودان ص 333 _345 ، د. مختار عجوبة: القصة الحديثة في السودان ) ويتناول عرفات محمد عبد الله قصص الحب بصورة ناقدة وواقعية ويقول (( إن بلادنا ليس فيها من حوادث ما يتخذ موضوعا لقصة قوية لان الاختلاط بين الجنسين غير ميسور )) ويقول أيضا " إن مجتمعنا السوداني اقل ازدحاما بالعاشقين والمعشوقات ، وذلك لطبيعة بلادنا وعادات أهلنا الموروثة وتقاليد ديننا ، وإذا أخذنا فقد الاتصال فلاسبيل إلي هذا الحب إلا إذا كان حبا صوريا كاذبا لاقوة فيه )) ( د.عبد المجيد عابدين : ص 336 ). _ وتطور المسرح والمسرحية السودانية منذ عام 1904 من مسرح مدرسي إلى مسرح للمجتمع ، وظهرت مسرحيات في مجلة "الفجر" مثل زواج المصلحة ومسرحية تاجوج ( نفسه :346 ). كما ظهرت الدعوة لبناء مسرح وطني وقيام فرق للمحترفين وتشجيع التأليف المسرحي ، والدعوة للمسرح لكيما يواكب النهضة الثقافية الجديدة وعلي صفحات مجلة " الفجر"، ظهرت الأفكار في ميدان الفن التي تدعو إلي إنتاج ثقافي يتكيّف بالوسط الطبيعي والشخصية القومية والتي تتري وعظمة الفنان بمقدار تجاوب نتاجه مع وسطه الطبيعي ونزعات شعبه نحو المستقبل ، وكذلك الأفكار التي تدعو إلي دراسة الفن الإفريقي وتحسينه لتخرج منه فنا محترما قريبا جدا إلي مزاجنا وعيه طابعنا بدلا من التقليد الأعمى لفنون الغربية مثل: نزعة المستقبلية ( Futurism ) والتكعيبة ( Cubism ) وتقليد موسيقي الرومبا الغربية التي أصلها إفريقي ( "الفجر" العدد ، 19 ، أول مايو 1935 ) . ظهرت علي صفحات مجلتي " النهضة" و "الفجر" بذور الفكر الاشتراكي التي كانت موجودة في السودان قبل الحرب العالمية الثانية ، صحيح أن التنظيمات الاشتراكية مثل الحركة السودانية للتحرر الوطني ( الحزب الشيوعي فيما بعـد ) ، التي تأسست في أغسطس 1946 نشأت بعد الحرب العالمية الثانية ، ولكن كما - ذكرنا – فإن الأفكار الاشتراكية كانت موجودة في السودان قبل الحرب العالمية الثانية ، وتعرّف عليها المتعلمون والخريجون السودانيون من مصادر مختلفة وسنحاول إثبات ذلك من الأمثلة التالية : - في مجلة "النهضة السودانية" العدد ( 26 ) ، نجد قائمة بأسعارها لكتب عصرية حسب ما وصفتها مكتبة النهضة السودانية ، من ضمن هذه الكتب كتاب عن "روح الاشتراكية "، ترجمة الأستاذ محمد عادل زعيتر وثمنه 22 قرشا وغالبا ما يكون بعض الخريجين أو المتعلمين السودانيين في الثلاثينيات قد تداولوا هذا الكتاب وتعرفوا ولو علي لمحات من الفكر الاشتراكي . - في مجلة الفجر العدد ( 1 ) مجلد ( 3 ) الصادر بتاريخ: 1 – 3 – 1937 م ، نجد دراسة تحت باب دراسات اقتصادية بعنوان: " لمحة عن الاشتراكية " للكاتب عبد الرءوف فهمي سمارة . وبعد الحرب العالمية الثانية اتسع دخول الفكر الاشتراكي بمدارسه المختلفة من ماركسية وغيرها ، وتأثرت أقسام من العمال والمثقفين بها . : كما نلاحظ علي صفحات مجلتي " النهضة"، " والفجر" تناول الفكر الديني المستنير الذي يعالج الدين في ارتباط مع العلم والمدنية الحديثة ، ويدعوا إلي مواكبة العصر والاجتهاد ونبذ الجمود الذي يكبل ويخنق تطور وإبداع الإنسان . وعلي سبيل المثال ، في "مجلة النهضة السودانية" العدد ( 27 ) ، نجد مقالا لعرفات محمد عبد الله بعنوان ( تمجيد الخالق ) ويخلص فيه بعد دراسة مطولة بقوله : ( إنما أردت أن الغي من بعض العقول فكرة خاطئة هي أن تمجيد الخالق معناه الصلاة والصوم والمناسك الأخرى لا أكثر ، فليس أكثر من هذا إمعانا في الضلال ، فالصلاة والصوم والحج مثلا بصفتها أعمالا بدنية مجردة عن كل شعور روحي بالغاية منها وحكمتها لاتمت إلي تمجيد الخالق بصلة ، بل ربما جاءت من باب النفاق أو على الأقل من باب إرهاق البدن بما لاطائل ، ولكن للمناسك جميعها حكمة بالغة تتخلل تفاصيلها وجزيئاتها وشعور النفس بالقنوت وتحقيق الحكمة هو الذي يجعل لتلك الصور والأشكال قيمة حقيقية .
نالت قضية " حرية الفكر والمناقشة والنقد" إهتماما في مجلتي " الفجر" و " النهضة"، ويتضح ذلك من المقالات التي نشرت فيهما ، فنجد مولانا " أبو رنات" يكتب بجثا عن حق حرية المناقشة ويتعرض لجذوره في القانون الفرنسي وقوانين بعض البلدان الغربية ، كما نجد مقالا بعنوان حرية الفكر واستقلاله لإسماعيل العتباني في مجلة" النهضة السودانية" العدد (24 ) صفحة ( 7 ) يدعوا إلي صيانة حرية الفكر وأن يعمل قادة الفكر وكل وطني لتقويتها وتعزيزها . كما نجد مقالا آخر لرمضان عبد الرحمن عن حرية الفكر في مجلة "النهضة السودانية "العدد ( 31 ) ص 10 يقول فيه ( إن لكل فرد كامل حريته وهو طلق من كل قيد وشرط في أن يجتمع بمن شاء أني شاء ، وفي أن يبدي آراءه ويجاهر بها علمية كانت أو سياسية أو دينية ، وأن يسطرها في كتب أو يطبعها في نشرات أو يظهرها علي صفحات الجرائد السيارة في مشارق الأرض ومغاربها ، لكن كل ذلك في دائرة القوانين وتحت مسئوليته ) . وتم تناول قضية الفكر الفلسفي والعلمي، علي سبيل المثال: في "الفجر" العدد ( 2 ) الصادر بتاريخ : 16 –6 – 1934 م ، نجد مقالا فلسفيا لعبد الله عشري الصديق تحت عنوان " مسائل الكون الكبرى – البداية " ، ويخلص في نهاية المقال إلي أن ( كل ما توصل إليه الفكر البشرى حتى أيام الفلسفة العربية يتلخص في ثلاث نظريات لشرح أصل الكون وبدايته هي نظرية الخلق ، ونظرية التوليد ، ونظرية الخروج والانبعاث ، وقد وجدت كل من هذه النظريات أنصارها وناشريها ، وأخذت مكانها بين أخواتها كأخر حل يمكن الوصول إليه لهذه المسألة الغامضة ) . وفي البحث الفلسفي أيضا نشير إلى المقالات التي كتبها معاوية محمد نور بعنوان: " عالم القيم والنظريات " التي ناقش فيها مذهب الشك الفلسفي ( معاوية محمد نور : مقالات في الأدب والنقد ، دار جامعة الخرطوم للنشر ، المقالات كتب أغلبها معاوية في الصحف المصرية وجمعها رشيد عثمان خالد ) . كما نجد في العدد ( 20 ) من "الفجر" بتاريخ 16 – 5 – 1935 م تحت باب العلوم سردا تاريخيا لتطور علم النفس وسردا تاريخيا للنفس الإنسانية . وفي أعداد "النهضة السودانية" : 29 ، 30 ، 32 ، والصادرة بتاريخ : 20 – 11 – 1932 ، 27 – 11 – 1932 ، 11 – 12 – 1932 على التوالي ، نجد تحت باب أبحاث علمية حلقات عن مذهب النشؤ والارتقاء لداروين ، لعوض حامد جبر الدار ( استند الكاتب إلى بحث إسماعيل مظهر ، ملتقى البيبل ، وكتابات داروين وترجمة Voyage of Beagle ، كما نشير إلى ترجمة اسماعيل إسماعيل مظهر لكتاب داروين أصل الأنواع . ) ، وقدم الكاتب نظرية داروين المعروفة ، وأوضح حياته وأبحاثه العلمية والميادين التي طرقها ، وكيف توصل إلى قانون البقاء للاصلح ، ونظريته حول الخلق المتسلسل ولبس المستقل .
ويرى الكاتب في النهاية إن الاطلاع على نظرية داروين ضرورية ، وليس على الإنسان الإيمان بها ، بل للإحاطة بها من وجهة تكوين الثقافة العلمية