إشكالية الانتقال السياسي في السودان: مدخل تحليلي بقلم: عطا الحسن البطحاني .. تقديم وعرض د. حامد فضل الله / برلين
صدر في سبتمبر 2019، عن المركز الاِقليمي لتدريب وتنمية المجتمع المدني بالاشتراك مع مبادرة اساتذة جامعة الخرطوم، كتاب لأستاذ العلوم السياسية عطا البطحاني بالعنوان أعلاه. يضم الكتاب 104 صفحة. ويحتوي ــــــ بجانب تقديم الناشر وقراءة أولى في اشكالية الانتقال السياسي والمدخل والخاتمة والمراجع والمصادر ـــــ على خمسة فصول، بالعناوين التالية:
الفصل الأول: المرحلة الانتقالية.. الفهم والتطبيق النظري. الفصل الثاني: شروط الانتقال الاِجرائية والموضوعية. الفصل الثالث: فشل تجارب الانتقال والحكم الديمقراطي. الفصل الرابع: تركة الاِنقاذ للانتقال الخامس. الفصل الخامس: الفترة الانتقالية الخامسة 2019 ــــ 2022.
بجانب كل فصل هناك عناوين فرعية عديدة.
يحتوي الفصل الأول على جانب نظري، يعرض فيه العديد من المفاهيم والنماذج النظرية، التي قد تساعد على فحص أكثر دقة لمواقع الضعف والخلل في ما جرى الاتفاق عليه من ترتيبات لإدارة المرحلة الانتقالية، ومن أجل أثراء النقاش. ويشير الكاتب، بأن مفهوم الانتقال يرجع إلى نظرية التحديث التي قالت باستحالة عملية تحديث المجتمعات التقليدية دفعة واحدة، وإنما تمر بعدة مراحل. ويستعرض باختصار عدة نمازج: ـــــ نموذج صموئيل هانتنغتون، ـــــ مدخل المؤسسة التاريخية، ــــــ نظرية المسار التحكمي أو المرحلة التاريخية المفصلية، ــــــ توازن القوى الطبقية. ويقول، أن مسارات الانتقال السياسي ـــــ الديمقراطي تتحكم فيها عدة عوامل منها: خصوصية جغرافية وتاريخ البلد المعني، توازن القوى بين مكونات المجتمع الرئيسية، دور العامل الخارجي في الحراك السياسي، كفاءة النظام الاقتصادي، آلية الانتقال الديمقراطي، واختزال عملية التحول السياسي ـــــ الديمقراطي في الجوانب الاِجرائية فقط. ويقدم بعض تجارب إدارة المرحلة الاِنتقالية:
ـــــ تكلُس النظام وانهياره: يوغسلافيا، ــــــ المناورة بالإصلاح: شمال أفريقيا والشرق الأوسط، ـــــ تمدد المركز واحتواء المعارضة: النموذج الانغولي، ــــــ انتقال الاصلاح من الداخل: الاتحاد السوفيتي وشرق أوروبا، ــــ انتقال الشراكة والمصالح المتبادلة: النموذج الموزمبيقي، ـــــ انتقال إعادة بناء المركز: النموذج الاِثيوبي \ اليوغندي، ـــــ انتقال التسوية التاريخية: جنوب أفريقيا، ـــــ انتقال الدائرة الشريرة: السودان \ نيجيريا. ويرى البروفيسور البطحاني، بوجود ما بين نموذج المسار التحكمي ونموذج ميزان القوى الطبقية، مما يشكل الإطار الذي ربما يساعد في فهم وتفسير حالات الانتقال في السودان، خاصة في فترة ما بعد أبريل 1985.
يبدأ الفصل الثاني بتحديد دقيق عن: انقلاب؟ إصلاح؟ انتقال؟ ام ثورة؟ انتقال جزئي محدود أم انتقال شامل؟ ثم ما هو الفرق بين الثورة وبين الانتفاضة؟ انتقال واحد ام عدة انتقالات؟ ما هي مراحل الانتقال؟ يعرف الانتفاضة، بأنها تهدف لتغيير النظام السياسي الحاكم، كما حدث في أكتوبر 1964 وأبريل 1985 ولا تذهب بعيدا للتغيير الشامل لبنية السلطة. أما الثورة فهي تغيير "شامل" يشمل بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. كما يشير الى اختلاف رؤى الأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية حول مفهوم ومضمون „المرحلة الانتقالية"، فهنا من يحصرها في عمليات إجرائية، استعجال الانتخابات، دون التنقيب في سلطة الدولة وهيكل السلطة، فالهدف، ليس تغييراً نوعياً في سلطة الدولة وهيكل السلطة...، اما الشروط الموضوعية، فتتعلق بمفهوم الانتقال وماذا يعني؟ وطبيعة القوي التي قادت الحراك المناهض للنظام القائم؟ وهل عملت من خلال تحالف ما مع بعض أجنحة النظام؟ وأهم التحديات التي على مرحلة الانتقال معالجتها: تسوية النزاعات المسلحة واكمال بناء الامة، بناء مؤسسات الدولة ووضع أسس المشاركة السياسية ...الخ.
نتابع في الصفحات التالية توصيف دقيق لمراحل الانتقال الخمسة، بدأ بالفترة الانتقالية الاولى 1953 ـــــ 1956 (فترة الحكم الاستعماري 1898 ــــ 1956 )، حتى الفترة الانتقالية الخامسة 2019 ــــ ؟ وهو لا يتناول كل تجربة بمفردها، وانما يفضل تناول المتغيرات ــ العوامل المشتركة بين هذه التجارب، مع الإشارة الى أي من هذه المتغيرات أو العوامل كان لها اكبر الأثر في سير عملية الانتقال في الفترة المعنية، ويفرد مساحة أكبر لتجربة الانتقال في عهد الانقاذ 2005 ــــ 2011، فهي بالإضافة للمدة الطويلة، حيث لها صلة وثيقة بالفترة الانتقالية التي بدأت في أبريل 2019 أيضاً.
نعدد هنا فقط رؤوس المواضيع، التي عرضها وحللها الكاتب بإسهاب.
عوامل ومتغيرات تجارب الانتقال: ـــــ الارث الاستعماري والتدخل الخارجي ـــــ التنكر للأسس الدستورية المتفق عليها، ـــــ الفشل في حل النزاعات، ـــــ جمود الممارسات السياسية، ـــــ عجز الأطراف المتنازعة عن كسب الصراع بالقوة العسكرية، ــــ عامل الأهمية الاقتصادية للدولة، ـــــ التعايش الاِثني الثقافي ـــ الاجتماعي. وعندما يتعرض لتركة الاِنقاذ للاِنتقال الخامس، يرى أن هذه الفترة تواجه تحديات كبيرة منها الأمنية ومنها الاقتصادية وتمدد الفساد في أجهزة الدولة وانتشار خطاب الكراهية الذي خلق مرارات واسعة تحتاج إلى تضميد الجراح وعقد مصالحة وطنية تحتاج الى عدالة انتقالية، التي لا بد أن تتم في إطار التوافق على مشروع وطني جامع، وهو الحاضر الغائب بالفعل.
يختتم البطحاني كتابه بالفترة الانتقالية الخامسة 2019 ـــــ 2022؟ بتركيز شديد، فيما يتعلق بالترتيبات الاجرائية والموضوعية وسؤال عن المأزق الوجودي. ويقول " لا شك ان ثورة ديسمبر 2018 قد نالت اعجاب العالم بسلميتها ومثابرتها وتماسكها حتى أزالت رأس النظام. ومع ذلك فالانتقال الذي بدأ مسيرته ليس هو الانتقال الأول ــــ وإن كان الجميع يتمنى ان يكون الانتقال الأخير. فرصيد البلاد من فشل الانتقالات في الماضي والأثر الكارثي لحكم الاِنقاذ وضع البلاد أشبه ما تكون في الحالة المرضية التي يتفادى الجميع انتقال العدوى اليه. ودفعت البعض بتوصيفها بحالة متلازمة السودان... الطاقة الثورية التي برزت اثناء الحراك السياسي الشعبي الطويل تدفع للتفاؤل، ولكن تبقى التحديات ماثلة... وتصبح الاسئلة المطروحة الآن: إلى أين يسير الانتقال في فترة ما بعد أبريل 2019؟ وهل تدعم الاحداث ما افترضناه اعلاه ان ثقل المراحل التاريخية خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي وميل ميزان القوى الطبقي "المائل" سيحدان من عمق التحول الديمقراطي ولكنهما لن يشكلا عقبة كبيرة ان استطاعت الطبقة السياسية من أخذ العبر والدروس من الماضي وبرز من بينها تمثيل حقيقي للقوى الحية التي قادت الحراك الشعبي ـــ الثوري، أم ان تحالف القوى المحافظة الاقليمية والدولية في عهد النيوليبرالية قادر على وضع حد للاندفاع الثوري وتدجينه؟ ام تفعل قوانين القوة الفيزيائية ــــ كما ديفيد لانديز ـــــ فعلها"؟
قدم البروفيسور عطا البطحاني في كتابه الصغير في حجمه والعميق في مضمونه، مادة تحليلية رصينة، لفترة هامة في تطور تاريخ السودان السياسي الحديث، كما أن الجزء الخاص بالجانب النظري، يكتسب أهمية كبيرة، فهو يساعد القارئ في فهم وتحليل العلاقات المتضاربة واحياناً المتناقضة أو الملتبسة. والكتاب غير مكتمل، فقد صدر في سبتمبر 2019، فهو لا يغطي الفترة الانتقالية الخامسة الساخنة التي تسيطر على الساحة السياسية والاجتماعية الآن، ويبرر بأن دوافع العجلة في تقديم الاصدارة إلى المطبعة، هو الرغبة في ابتدار نقاش حول تحديات المرحلة، واعداً بطبعة ثانية لمراجعة بعض الآراء التي تحتاج لتمحيص أكثر ومتابعة تطورات المرحلة الانتقالية، والتي ربما تكون مفصلية. ونحن ننتمي أن ترى الطبعة الثانية النور قريبا، حافلة بجانب التحليل، نظرة نقدية واستشراف للمستقبل. يحفل الكتاب ببعض الأخطاء الطباعية والنحوية، لا تخطئها العين وكان من الممكن تحاشيها بسهولة لو تم تدقيق النص، كما أنها مزعجة للقارئ، فالكتاب أكاديمي والناشر مؤسسة أكاديمية.
قدم الكتاب د. عبد المتعال قرشاب مدير المركز الاِقليمي لتدريب وتنمية المجتمع المدني، بكلمات ناصعة رصينة تليق بالكاتب والكتاب. كما جاءت فقرة بعنوان "قراءة أولى في إشكالية الانتقال السياسي"، للصديق د. عبد الرحيم بلال، المدير السابق لمؤسسة فريدريش ايبرت الألمانية في الخرطوم (وأول وأخر مدير سودن منصب المدير حتى سن التقاعد)، والرائد في قضايا المجتمع المدني، بأبحاثه العديدة والمهمة، انني اعتبرها مقدمة ثانية، وليست قراءة أولية، فهي تقدم سردا مكثفاً موفقاً للأحداث مثلما جاء في متن الاصدارة، وكما يبدو لي فأن الدكتور بلال لم يستهدف دراسة نقدية للكتاب، وهذا يتفق مع وضع الفقرة مباشرة بعد كلمة الناشر. جاء تقديم بلال متميزاً ومعبراً أيضاً ومحبوكا بدقة، دقة بلال في الكتابة. ونحن في انتظار القراءة الثانية.
يعتبر عطا البطحاني من بين أهم الباحثين والأكاديميين في بلادنا، وظل "راكزاً" بالداخل بالرغم من المنغصات والمصاعب، التي تحيط بالحياة الأكاديمية والفكرية والثقافية في زمن سلطة الإنقاذ البائدة، وظل ملتصقا بطالباته وطلابه في الجامعة. وهو ليس غريبا علينا في المانيا، فقد شارك من قبل في المؤتمر المشهور، الذي يقام سنويا على مدار عشرين عاما في مدينة هيرمانزبورج في ولاية ساكسونيا السفلى، بدعوة من منتدي السودان وسودان وجنوب السودان فوكال بوينت، وكذلك المشاركة في ندوة "الفكر التقدمي في الاِسلام المعاصر"، بدعوة من مؤسسة فريدرش ايبرت في برلين وكذلك محاضرا في مؤسسة هاينرش بول في برلين، التابعة لحزب الخضر. وكان كريما معنا نحن البرلينيين، عندما قدم لنا كتابه الهام قبل الأخير „أزمة الحكم في السودان الصادر عام 2011"، بدعوة من الجالية السودانية برلين \ براندنبورج، وجاء تعقيب الدكتورة عائشة الكارب، تعميقا وأثراءً للنقاش.
التهنئة والتحية للعالم الجليل والباحث الرصين عطا البطحاني.
برلين 12 يوليو 2020
hamidfadlalla1936@gmail.com