رزق صديق لنا بمولودة في 12 فبراير من هذا العام 2011م، فأطلق عليها اسم (إلهام المصرية). لم يكن الموضوع في حاجة لإثبات، كون ان الثورة المصرية مُلهمة، وإنما يحتاج الي تأكيد بان (هذه الإلهام) مرتبطة بوحي الثورة المصرية. هذا ما سيسجله التاريخ وما ستشهد به الأجيال القادمة. إلف مبروك لصديقنا وجعلها الله من بنات الوطن (المُلهمات).
الثورة المصرية مُلهمة أكثر من غيرها من الثورات التي حدثت واللاحقة، لا ينتقص هذا من قدر الثورة التونسية، الرائدة في سبقها ومثالها، لكن اختلاف الظرف المكاني وطبيعة الأنظمة والأبعاد التاريخية والثقافية ومكونات الجغرافية والاستراتيجيا، لها معاني ودلالات مختلفة. النظام المصري قديم، قدم التاريخ وسلطان الدولة متجذر في مصر لدرجة ان اقتلاعه يمكن ان يسبب نزيفا اجتماعيا حادا بتداعيات خطيرة. من هنا جاءت عظمة الحدث وأثره المزلزل للعالم من (الغرب للصين)، اثر من الممكن القول (بقلب قوي)، لم يتوقعه احد.
دعونا نقف عند عدد بسيط من الشواهد الملهمة في الثورة المصرية نستلهم منها العبر والدروس لعلها تكون مفيدة لنا في التعلم من غيرنا والسير في طريق إصلاح الحال قبل ان تهتز الأرض من تحت الأقدام، ومع هشاشة مكونات مجتمعنا فان النتائج ستكون مختلفة جدا والعواقب غير حميدة.
أول الدروس التي يجب فهمها جيدا بالرغم من أنها قد تم تقديمها مرات عديدة وتم تناولها بشكل يؤدي الي الملل، هي ان قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ستسود جميع بلدان العالم (شاء من شاء وأبي من أبي)، بالتالي من الحميد السير طوعا في طريق التحول الديمقراطي وترسيخ مبادئ المشاركة في صنع القرار بتوسيع فرص الممارسة السياسية وابتداع المؤسسات والأطر الصالحة لمجتمعنا. في هذا الدرس من الضروري إدراك الترابط بين الحرية، الديمقراطية ، الحقوق الأساسية من جهة، والتنمية بمختلف مفاهيمها من الجهة الاخري، كما يجب ملاحظة ان التنمية وكفالة الحريات والحقوق الأساسية وفي مقدمتها الحقوق الاقتصادية، تشكل الضمانة الأساسية للأمن القومي، الاجتماعي الاقتصادي وتشكل عماد الاستقرار السياسي. فهم هذا الدرس مفيد للجميع اذ ان استخدام ادوات اخري والظن بأنها تمكن الأنظمة من الاستدامة في الحكم وتشكل واقيا لها من رياح التغيير، هو وهم يمكن ان يوصف صاحبه بانه ("عنِد" حسب الوصف المصري لعناد رئيسه السابق) .
الدرس الثاني هو ان إضعاف المعارضة وقمعها وتكسير مجاديفها وتحجيم و(تقزيم) منظمات المجتمع المدني او جعلها تابعة للحكومة ليست من مصلحة السلطة الحاكمة ولا تصب في اتجاه تطوير المجتمعات وتخليصها من أزماتها، العكس هو الصحيح، لن يستطيع احد إخضاع التاريخ لمصلحته او إيقاف دوران عجلته. بهذا الشكل فان ضعف المعارضة وضعف المؤسسات السياسية وتخلف منظمات المجتمع المدني ، سيؤدي الي إنتاج بدائل اخري غير مفهومة ولا معالم واضحة لها يمكن امساكها والتعامل معها. هذه البدائل قد تكون حميدة كما حدث، لحد ما في تونس ومصر، وقد تكون في غاية السلبية مثل انتشار التطرف واللجوء الي المؤسسات التقليدية مثل القبلية والجهوية، وهذا التوجه يحمل عواقب مدمرة للجميع.
الدرس الثالث هو ان الفساد يشكل أس البلاء وسيسقط اعتي الأنظمة ولن يفيد في ذلك أي شكل من أشكال الإسناد الأمني او تجييش المنتفعين والتبع و(المطيباتيه) او حتى (عولمة البلطجة) ، هنا يستدعي الأمر التصدي للفساد بشكل مؤسسي يحكمه القانون، بالتأكيد ان الفساد هو اكبر أشكال الظلم ومرسخ له.
الدرس الرابع هو الخاص بالمدرسة الإعلامية الرسمية والخاصة الموالية للنظم الحاكمة. أجهزة الإعلام تحتاج لمراجعة شاملة حتي تتحول الي أجهزة محترفة تتميز بالحرفية والمهنية والتخصصية والكفاءة، ذلك غض النظر عن رسالتها الحقيقية، إذ أنني انتمي الي المدرسة التي لا تؤمن بالحيادية الخالصة لاي جهاز او مؤسسة إعلامية. المقصود هو الالتزام بمعايير العمل الإعلامي والتعاطي المفيد مع الأحداث والمعلومات واحترام عقل المتلقي وفتح المجال للرأي والرأي الأخر (حقيقة وليس بالادعاء كما هو الحال في أجهزة إعلامية زائعة السيط)، إضافة لفك احتكار التعيين (التوظيف) فيها لأصحاب الولاء، وضرورة استقطاب الكوادر المؤهلة توظيفا وتعاونا ومشاركة. يشمل ذلك أيضا إتاحة ألفرص بالتساوي لمن أراد ان يرتاد هذا المجال دون تقييد او حجر.
الدرس الخامس يتلخص في ضرورة ترقية السياسة الاجتماعية التي تهتم بالتعليم ، التربية، الصحة، رعاية الأمومة والطفولة، والأهم من ذلك محاربة الفقر. تدخل هنا ايضا رعاية الانشطة الخاصة بالنشء والشباب وتطوير اهتماماتهم وملكاتهم الإبداعية وصولا الي الاهتمام بوسائل الترفيه والترويح المشروع عن النفس، وجميع مؤشرات التنمية البشرية. الجزء الخاص بوسائل الترفيه مفقود تماما في السودان اذ يسود التلوث البصري في كل مكان وتنعدم وسائل الترفيه ، بل حتي ان بعض الضيوف الاجانب قد ظنوا وجود حديقة حيوان في الخرطوم، ولم يجددوها، مع هروب لاعبي كرة القدم الي الخارج، بسرعة البرق هروبا من ملل الحياة في السودان، جعل ذلك من الاستثمار في هذا المجال ضربا من الغباء في واقع اليوم.
درس سادس يجب ان نتعلمه وهو ان نسير بخطي أسرع نحو الحداثة لنواكب العالم، لان الحداثة تشكل حماية من الانزلاق نحو مزيد من التخلف وتدني القدرات، الحداثة بمعناها الفكري والإداري والتنموي. ما يوجد عندنا من مظاهر الحداثة مجرد نتوءات مشوهة وقشور خارجية، فنجد مدراء او (علماء) لا يعرفون التعامل حتي مع (الموبايل)، ناهيك عن الكمبيوتر، او ان أستاذ جامعي لا يعرف كيفية إنشاء بريد الكتروني، كما نجد صاحب (فلة) فخمة يحتضن كوم من الأوساخ عند حائطه الأمامي، او ان صاحب (الهمر) يضطر لنش الذباب والباعوض قبل ان يمتطي فارهته، او ان صاحب الحٌلة الفخمة يكفكف أطرافها لتخطي مياه المجاري الطافحة أمام مدخل مقر عمله او الوحدة الحكومية التي يريد التعامل معها.
أخيرا يفترض تعلم الحذر في إطلاق التصريحات من قبل المسئولين الرسميين او التعامل بعقلية الموظف الحكومي عديم الخبرة مع الأحداث كبيرها وصغيرها، في الداخل والخارج، تلك أشياء تصغر من مقام المسئولين وتهد هيبة الدولة. هل من الممكن دراسة التجربة المصرية بتبصر وترجمة دروسها الي إجراءات عملية تختصر الطريق نحو تغير حقيقي، خاصة بعد ان وصلنا الي ما يسمي ب(الجمهورية الثانية)؟ سؤال ينتظر الاجابة، مع ملاحظة ان الزمن المخصص للإجابات أصبح قصيرا جدا ولم يعد مفتوحا كما هو في السابق مع ثورات القرن 21، التي انطلقت.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]