إنتحب ، أيها الوطن المحبّب (1)

 


 

د. عمر بادي
28 March, 2009

 

مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )
دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003
ombaday@yahoo.com
د. عمر بادي
 واو هي مدينة في جنوب السودان ، وتعتبر هي وجوبا وملكال ثالوث المدن الرئيسية في الجنوب . واو هذه عندما أنطقها تذكرني بالتعجب الإستحساني عند الخواجات والمتخوجين ، هكذا وااااو !..
   لا أدري إن كانت هي قد سميت علي حرف اللغة العربية (الواو) أم كان للإسم معني عند الجور أهل المنطقة الأصليين أو عند دينكا ملوال الذين إستوطنوا بحر الغزال منذ قديم الأزمان ، واللذين كونا (أي الجور والدينكا) مع خليط آخر مجموعة دينكا الجور الحالية ، وأنا أرجح الإحتمال الأخير هذا. عندما أتذكر مدينة واو أتذكر طفولتي المبكرة وبدايات وعي الذاكرة للمحيط الخارجي المتمثل في مجمل الصور والذبذبات الصوتية المعروفة بالكلام ، في ضبابية ملبسة أولاً ثم سرعان ما تنداح وكأنما تمر علي شريط ممغنط مجرور حتي تنجلي الصورة والصوت علي الذاكرة بكل التقاسيم والتفاصيل والترابطات . في لحظة التذكر الأول تلك تذكرت كتاب(الأيام) للدكتور طه حسين والذي كنت قد قرأته قراءة جماعية مع رفاقي ومدرسنا في الفصل الثالث في المرحلة المتوسطة ، ثم أعدت قراءته لنفسي مرات ، ولفرط تأثري به لا زلت أحفظ بدايته كما وردت :(( لا يذكر لهذا اليوم إسماً ، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة ، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتاً بعينه ، وإنما يقّرب ذلك تقريباً..)).
     عندما أقدح الذاكرة وأعود بها إلي الوراء إلي تباشير العام 1956م في يوم إستقلال السودان ، وأنا تلميذ في السنة الأولي الإبتدائية في مدرسة مدينة واو الإبتدائية الحكومية يتجلي لي موكب الإحتفال تتقدمه فرقة موسيقى قوات الدفاع وهو يطوف شوارع واو فأتذكرها شارعاً شارعاً رغم عدم رؤيتي لمدينة واو منذ ذلك الحين.. الخضرة التي تعم المنطقة وأشجار المانجو التي تنؤ أغصانها بالثمار فتنحني وكأنما لتقدم ما لديها في توادد وتجلة للراغبين من المارة ، منظر أشجار الزهور المتفننة في الشكل واللون والمخضلة بالندي والمتضمخة بالطيب فيضوع أريجها عامّاً المدينة وكأنما قد رشت من الجو بعطور باريسية من طائرات خفيّة...الأرض المحمرة (الطوبية) اللون والسماء الغائمة التي تجود بأمطار متقطعة يصاحبها برق ورعد مخيفين بفعل الصواعق المحرقة . تلك الصواعق صارت من فرط خوف الأهالي منها قسماً عندهم يعدونه عظيماً فيومئ الشخص منهم بيده إلي رقبته مـردداً: ((طرنقاعة يضربني)) ، هذا المطر يتساقط علي برك المياه وينثر حبيباته فيتغضن وجه البرك ويتناثر الحباب فيذهب مع الزبد حباً وجفاءً ..هذه الطبيعة الأفريقية الساحرة أعادتني إلي الكاتب الجنوب أفـريقي الأبيض ألان باتون أستاذ دكتور علـم الرياضيات وكتابه (  The Beloved Country، (Cry والذي ترجـمته حسـب فهمي للمقصـود    بـ( إنتحب ، أيها الوطن المحبب) والذي جعلته عنواناً لمقالتي هاتين ، فقد كان ألان باتون عاشقاً لأفريقيا حتى النخاع وكان نصيراً للأفارقة في زمن قهر التفرقة العنصرية (الأبارتايد) البغيضة ولاقى ما لاقي جراء ذلك حتى إنتقل من دنيانا في العقد الأخير من القرن الماضي..
    الطريق الرئيسي في واو كان يمر من الشرق إلي الغرب فيقسمها إلي قسمين ، في الشمال منه حي الموظفين وشماله حي الجبل ، أما جنـوبه   فحي السوق و حي المقطاع ، وشرقه حلة (كريش) وغربه المديرية والميناء النهري . يطل علي الشارع الرئيسي من الجنوب وفي وسطه السجن الكبير ذو الأسوار العالية والذي به برج للمراقبة عالٍ يراقب منه الحراس من هم داخل السجن ومن هم خارجه ويحرسون المدينة من الخارجين علي القانون ومن الحرائق ، فلديهم جرس كبير كالناقوس يدقونه دقات سريعة عند الطوارئ فتتأهب بدقه قوات الأمن والمطافي ، ويدقونه دقات بطيئة في رأس كل ساعة لتحديد الزمن كساعة (بيق بن) ، كما ولهم بوق (بروجي) ينفخونه ويعزفون عليه تحية الصباح (صباح الخير يا سعادة البيه) فقد كنا نملأ موسيقاه كلاماً فنغني معه وكان ينهض الموظفون والتلاميذ من رقادهم علي صوته...بجانب السجن من جهة الغرب كان مكتب البوستة والتلغراف والتليفون والذي كان من ضمن موظفيه آنذاك الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب ، وبجانب البوستة كانت توجد حديقة يتجمع فيها ممثلو الموظفين من بيوتهم في صبيحة أيام معينة في الإسبوع لأخذ حصصهم من توزيع الخضروات والفواكه مجاناً من جنينة ومزرعة الحكومة...
                         صحيفة (الخرطوم) – 7/4/2001م
إنتحب ، أيها الوطن المحبّب (2)
إلى الشرق من السجن في واو في تباشير العام 1956م ، كانت تقبع بعض المخازن التجارية ثم بعدها كانت الكنيسة والتي بها ناقوس كبير أيضاً يدقونه بطريقة معينة أيام الأحد حيث تقام الصلاة يتقدمها القسسة والرهبان والراهبات وكلهم خواجات ، وكان منظراً مألوفاً أن نري القسسة يتجولون في المدينة علي دراجاتهم النارية الصغيرة من نوع (الفسبا) ، كما كانت الراهبات يركبن الدراجات الهوائية الخالية من ماسورة النصف (الستاتية النوع) ، وكانت مرفقة بالكنيسة مكتبة كبيرة ( Book Shop ) تباع فيـها الأدوات المكتبية واللعب ، وكنت أشتري منها أقلام الألوان لأرسم بها فقد كنت مولعاً بالرسم ، وكنت أشتري كرة المطاط الإسفنجية (الفشفاش) لألعب بها مع رفاقي وهي كرة لا تحتاج إلي نفخ ، وكانت مرفقة مع الكنيسة مدرسة داخلية يتعلم ويسكن فيها طلاب البعثات التبشيرية من الجنوبيين.. علي شمال الشارع الرئيسي الذي يقسم واو وقبالة الكنيسة كانت ميادين الألعاب والمهرجانات وفيها ميدان كرة القدم الذي شهد مباريات حامية بين فرق قوات دفاع السودان وفرق الموظفين والعمال وكان من أشهر اللاعبين آنذاك الضابط حسن أبو العائلة و(أب ليمونة) حارس المرمي الحريف... إلي الشرق من الميادين كانت المدرسة الأولية الحكومية وسورها الواسع والذي ضمّ بداخله ميادين الألعاب المختلفة ، وإلي الجنوب والشرق منها كان يمتد حي المقطاع وحلة (كريش) ، وإلي الغرب من ميادين الألعاب كان نادي الموظفين والذي كان قد أسسه ورئسه والدي يرحمه الله لسنوات عدة ... إلي الغرب منه كانت تمتد بيوت الموظفين ، وقد كان بيتنا الثاني من الشارع قبالة السجن ، وكان جارنا ضابط البوليس قبريال طُلبة كلام فاضي وهو من أبناء الجنوب ، وكان بناء البيوت من الحجر المنقوش والأسمنت وكانت مرفقة مع كل بيت حديقة كبيرة بها أشجار المانجو والباباي والموز والجوافة والأناناس والتوت والزهور المختلفة ، وكانت البيوت تستمر غرباً إلى أن تلتقي بالأشغال ومرفقي الكهرباء والماء والمديرية والتي كان مديرها داؤود عبد اللطيف ومفتش مركزها عثمان النو وكان رئيس حساباتها والدي محمد صالح أحمد بادي ، وجنوب المديرية كان البيطري وحديقة الحيوانات ، وإلي الغرب كان الميناء النهري حيث كانت تربض الرفاصات والبواخر النيلية التي كانت تمخر النهر في رحلات بين واو والخرطوم ، وأذكر من أسماء تلك البواخر: ملك ،غرنوق ، كجبار، الناصر، فشودة ، نوير.. ولا زلت أسمع صدي صوت صافرات البواخر وهي تعلن الوصول أو مغادرة الميناء ، ولا زلت أشم رائحة المازوت قرب البواخر وعلي النهر ، ولا زلت أري البحارة وهم يستحمون في النهر من جهة دواليب البواخر المتوقفة ، ولا زلت أري الرفاصات وهي بماكيناتها الحديثة ذوات مراوح الدفع وهي تذيب الطين عن البواخر  والصنادل الوحلة وتجرها إلي داخل النهر ، وأري جنوب الميناء السيارات الحكومية والتجارية يقوم المساعدون بغسلها علي النهر بينما حولها يلعب الأطفال ويسبحون...إلي الشمال تجاه حي الجبل كانت المستشفي والتي كان بها أطباء خواجات وأطباء سودانيون أذكر منهم دكتور خالد حسن التوم ، وفي حي الجبل كان يسكن الخواجات في مكان كأنه قطعة من الفردوس فالحدائق وأشجار الزهور والمانجو والباباي والجميز كانت علي مد البصر وتحتها كانت الأعشاب الطّرية وفوقها ظُلل الغمام ويتنزّل المطر رزازاً لا يحجب الشمس كلياً ولا يسفرها..إلي الجنوب من السجن كان مركز البوليس وكان كمندانه ضابط البوليس حسن محمد صالح ، ثم كان حي السوق وبه المحلات التجارية ومساكن التجار والذين كانوا خليطاً من الخواجات الأغاريق والشوام والجلاّبة ، كان يقابلك دكان الخواجه نيكولا وكان لديه ببغاء قد علّمه (كلام السفاهة) وكان يداعبه السوقة فيسبهم بأقذع الألفاظ بينما هم يضحكون ، وكان دكان الخواجه ساوا ودكاكين الخواجات بابوسيدس وخرارمبو و كارايوريس ، وأذكر جيداً في ذلك الحين أننا سمعنا بخبر البئر التي حفرها نيكولا في بيته قبالة دكانه ولكنها أخرجت زيتاً أسوداً بدلاً عن الماء ، وجرينا لنري ذلك الماء المسحور الذي تحول إلي زيت كما روي الأهالي ووجدت أن الحاكم الإنجليزي قد أمر بردم البئر وإغلاقها ، ورأيت قوات البوليس تقوم بذلك! أكانت تلك بداية إكتشاف البترول في السودان والتي لم يرض عنها الإنجليز وهم يغادرون السودان؟ بجانب دكاكين الخواجات كانت دكاكين الشوام وأذكر منهم ميري وإبنتها أنطوانيت وزوجها لا أذكر أسمه.... سوق التجار الجلابة كان مهتماً بتجارة السلع المحلية كالذرة والبقوليات والملح والبهارات والعسل والتمر والشاي وكان سوق الخواجات مهتماً بالسلع المستوردة كالمعلبات والأجبان والسكر والزيتون والملابس والسجائر والخمور.. كان يوسف المليح هو شيخ التجار الجلابة ومعه من الجلابة علي الحسّاني وعلي الزين ومحمد عبد الرحمن وإبراهيم عامر ، وكلمة (الجلاّبة) يقصدون بها التجار الشماليين الذين يجلبون البضائع .. إلي شرق السوق كان حي المقطاع والذي في جنوبه كان كوبري (التك- تكا) وهو جسر معلق مربوط بالحبال من جوانبه وعليه ألواح من الخشب وكان يتأرجح بالناس عندما يمشون عليه ، وإلي الشرق من المقطاع كان المطار حيث تهبط وتقلع طائرات الفوكرز في رحلات بين واو والخرطوم...
                          صحيفة (الخرطوم) – 7/4/2001م


 

 

آراء