أفول نجمين في غضون إسبوع واحد لا يزيد من هول اليقين أو يقلل من وقع الحكمة المتداولة بأن الموت نقاد يختار الجياد. لكن غياب الإستثنائيين يفتح بصائرنا دوماً عى حقائق تبدو للوهلة الأولى بمثابة كشف جديد. في حمى الصدمة المباغتة نعمد إلى توسيع دائرة الإبصار علنا نرى أبعد مما اعتدنا. هكذا يبدو تزامن رحيل عبدالله بولا ويحيى الحاج ليس قدرا عارضاً في ظل العتمة المطبقة على مشهد الإبداع السوداني.
بين الراحلين أكثر من وثاق يشدنا إلى الأسى العميق على قدر ما يربط بينهما. كلاهما خرج إلى المهجر بقسمات غالبية أهل السودان المشتركة وفي صدريهما طموح ليس على كاهل جل أبناء الوطن. كل منهما تأبط مشروعاً إنسانياً منبثقاً من معاناة الشعب وعذاباته لكنه مشروع لا يتوقف عند تخوم الإحساس بالرهق والتعب إذ كلف كل منهما نفسه عبء البحث الدءوب عن مسارب الضوء لجهة المساهمة الرصينة في صناعة غد أجمل للجميع.
رغم تباين المدارات حيث حلق كل من يحيى الحاج وعبد الله بولا إلا أنهما إرتادا فضاء مشتركاً أفقه الإبداع واجنحتهما إليه وفيه ريش الفصاحة.
كلاهما استهدف ترقية الذوق العام والتفكير الجمعي عبر التعليم، التنوير والتبشر بالخير والجمال والفرح. لم تكن حنتوب صدفة تاريخية في مسيرة عبد الله بولا ويحيى الحاج وإن تعاقبا ولم يتازاملا فيها. حنتوب كانت في تلك الحقبة أكبر من مدرسة ثانوية وأوسع من سكن داخلي يأوي شباباً من فجاج الوطن في كنف تربويين أكفاء. ذلك كله منح حنتوب شيئا من عبقريتها الزمكانية على خارطة الوطن.
هنا بدأت شخصية يحيى الحاج في التشكل خارج أطر التلمذة الكلاسيكية. الفتى القادم من الشريف يعقوب لم يكسر فقط الحواجز التقليدية بين أبناء الدفعات الأربع المتزامنة دوما. هو قطع كذلك في الوقت نفسه شوطا مشهوداً على درب نقل خشبة المسرح إلى فضاء المدرسة. يحيى الحاج هو من أعاد إكتشاف نفسه ليستهل بناء مشروعه الإنساني الذاتي في تلقائية إستثنائية جعلت منه نجما إجتماعيا غدت الفكاهة معه خبزا يومياً.
هنا بدأ مشروع عبدالله بولا التربوي كذلك في التشكل على الأرض إذ كسر مدرس الفنون الجديد الحاجز الكلاسيكي بين الطالب والأستاذ في صيغة تبادلية رفاقية. أبعد من ذلك ذهب بولا إلى فتح نوافذ في جدار العقلية الطلابية نحو آفاق "بلشفية" تجسدت في جمعية "طلائع الهدهد". لمَا لم تحتمل إدارة المدرسة "فوضى بولا" عمدت إلى التخلص منه. حتى إدارة كلية الفنون الجميلة لم تحتمل هي الأخرى فوضى بولا إثر عودته إليها أستاذاً.
عندئذ أخذ مشروع عبدالله بولا الإنساني يتسع إذ تجرأ على فتح نوافذ التشكيل على تيارات الوعي السودانية ومنصات الخطاب الجمالي آنذاك فاتسعت جبهات صدامه مع الآخر. ذلك صدام لم ينحصر على رؤيته وأعماله الفنية حيث أبرزتاه شخصية مركزية متفردة على خارطة التشكيل بل تجاوز دائرة الفنون إلى رحاب الثقافة والسياسة. ما تزال مساهماته الفكرية الموسومة "موت الإنسان الممتاز" تثير جدالا في الأوساط الثقافية .بها يصنفه البعض مفكرا حداثيا سباقا.
كلاهما يحيى وبولا حكاءان يتمتعان بذاكرة تراثية ثرة إستقياهما من صباهما المبكر. لكل منهما ذاكرة فوتغرافية تستوعب التفاصيل على نحو مثير للغيرة ومجبر على الإصغاء. هاتان الخاصتان أعانتاهما على بلورة مشروعيهما الإنسانيين؛ كل في حقله. يحيى لم يكتف بالأداء على الخشبة ممثلا أو مخرجا بل أخذ على كاهله عبء إستثمار الفكاهة في التعليم والتدريب وصناعة الفرح والخير والجمال في صورهما الإجتماعية البناءة. هو الآخرعاد إلى معهد الموسيقى والمسرح معلما قبل السفر إلى لندن لتوسيع مداركه المسرحية في أكاديمية "إيست ففتين" قبل ضرب جذور مشروعه في تربة الخليج. كذلك حين ضاقت الخرطوم ببولا أو هو ضاق بها آثر الرحيل إلى باريس بغية إشباع نهمه المعرفي.
كلاهما دخل في تشابك منتج مع الواقع الجديد متأبطا مشروعه الحياتي الطليعي. كلاهما حمل مشعل التنوير؛ كل في ميدانه. ليس الركض عبر صالات العرض والدرس وحده ما يجمع بينهما فهناك قاسم أعظم مشترك بين يحيى وبولا ألا وهو تقديم عقل وروح السوداني الممتاز. بينما ارتاد بولا "الغالريز" وقاعات المحاضرات مصغيا ومتحدثا يمم يحيى المسارح وقاعات المؤتمرات منظرا ومعقباً لكن قيمة مشروع يحيى تبقى "أيام الشارقة المسرحية " ذروته وشاهده الماجد كما أبقى حصيلة تجربته في كتابه المعنون تاريخ المسرح.
إذا كانت محاولات بولا لجهة بلشفنة منهجه التربوي أضاف بعداً إجتماعيا على مشروعه الفكري فإن طبع يحيى الحاج التلقائي لجهة مسرحة لقاءاته الإجتماعية أضفى على مشروعه الحياتي ألقاً لا ينجو منه كل من نعم بتلك اللقاءات. ذلك أثره الخالد فقد مضى يحيى الحاج وفي ذاكرة كل من عرفه مشهد ضاحك ماتع. يحيى بين ثلة من رحلوا وليس في نفوس الذاكرين له غضب أو حرج؛ رجل مجبول على المرح والفرح والعطاء النبيل. من يمنن طالع يحيى وجوده رجل بعقلية ومقام حاكم الشارقة فكنفه برعايته عقب تقاعده بمنطق البروقراطية وحتى أسلم روحه إلى بارئها.
عبد الله بولا ويحيى الحاج أنموذجان لفئة مستنيرة فقد الوطن بخروجها إلى المهجر حملة مشاعل التنوير فانفتح الأفق أمام الإظلاميين خانقي منابت الضوء. كلاهما حمل العقل، الذاكرة والروح والجسد مافوق الإمكان حد الإنهاك.