إنهيار جسر العبور

 


 

عمر العمر
7 November, 2022

 

تجربتانا الانتقاليتان السابقتان لم يؤمنا عبورًا سلسًا في المرحلة الراهنة. مفصل الأزمة ليس في وهن القوى السياسية . فهذه مسكونة بفيروس مزمن . ذلك مصدر خذلاننا في اجهاض مضامين هباتنا الشعبية الثلاث. لكن مصيبتنا في افتقادنا الركيزتين الأساسيتين حاملتي جسر العبور إبان المرحلتين السابقتين؛ صلابة الجيش والنقابات . تباين رؤانا تجاه تدخل العسكر من أجل إنهاء نظامي عبود والنميري على نحو سلمي وعاجل لم يذهب لجهة إدانة الضباط بارتكاب مذابح أو خيانات وطنية. في الحالتين الأوليين لعبت النقابات دورا مشرّباً بالوعي والصلابة والانحياز الى المستقبل.في التجارب الثلاث حسمت الجماهير أمر الأنظمة الاستبدادية لكنما في المرحلة الراهنة أخفقت في العبور ألى الضفة المقابلة. أحلام الغد انهار بها جسر العبور ذو الركيزتين غير الآمن فسقطت المرحلة برمتهافي نهر الفوضى.
******

ثمة قواسم مشتركة بين مراحلنا الثلاث رغم تباين ظروفها التاريخية ساهمت في الإخفاق في بلوغ غايات الثوران الشعبي إلى سقف طموحاته الوطنية .لعل وجود شخصيات غير سياسية على رئاسة الوزراء شكّل مفصلا رخوا حال دون تحمله ثقل قيادة المرحلة كما ينبغي . فسر الختم الخليفة مثل الجزولي دفع الله كما عبد الله حمدوك حملتهم رياح الصدف إلى سدة السلطة .ثلاثتهم وفدوا من خارج أروقة السياسة التقليدية . قضية الوحدة الوطنية وسمت العنوان الأبرز في اكتوبر.رصيد سرالختم المؤهل لرئاسته الوزراء ليس غير سني عمله التربوي في الجنوب. وجود الجزولي في قيادة نقابة الأطباء ،هومؤهل الصعود إلى رئاسة الحكومة تقديرًا لدور النقابة في تحريك الإضرابات المطلبية لجهة إلهاب الحراك الجماهيري .الرهان على حل المسألة الاقتصادية ،ليس غير،،جعل حمدوك خيار اً مريحا لإطفاء تنازع القوى السياسية.
******

مؤتمر المائدة المستديرة يمثل إنجاز حكومة أكتوبر الوحيد .هو من بنات فكر وليم دينغ . برآة سر الختم الخليفة جعلته غير قادر على مقاومةالقوى السياسية التقليدية فنجحت في دفعه لإجهاض مشروع القوى الحديثة السياسي .لذلك تم اختزال المرحلة الانتقالية في غضون سنة فالذهاب الى صناديق الاقتراع .التزام ضباط الجيش مهنيتهم الوطنية وقتذاك حصّنتهم ضد الدخول في الصراع على الحلبة السياسية. ركوب كبار الجنرالات موجة الثورة في ابريل جعل حكومة الجزولي خاضعة لاملاءتهم حتى قبل تشكيلها. إنجازها الوحيد هو الوفاء بوعد سوار الدهب تسليم السلطة الى حكومة منتخبة بنهاية سنة وحيدة. هكذا تم الذهاب إلى الانتخابات .تدني منسوب حمدوك السياسي جعله غير قادر على رؤية المد الجماهيري لجهة مستقبل واعد .ذلك القصور أسلمه لضغوط زمرة الجنرالات المنغمسين في تراب الإنقاذ .
******

هذه زمرة مغايرة تربيتها الأخلاقية والمهنية عن تقاليد المؤسسة العسكرية. تلك تقاليد حملت مجلس الثورة في اكتوبر على الاصغاء لصوت الجماهير ونداء الضباط. فمعروف رفض قيادات عسكرية ارتكاب حماقة النزول الى الشارع. إذ رفض تجمع قادة في معسكر الشجرة حماية الشعب على حماية النظام. من المفارقة المتداولة تخلي جعفر نميري عن إدارة الاجتماع اعترافا بقلة خبرته السياسية فأفسح المنصة امام توفيق محمد نور الدين وفيصل حماد توفيق باعتبارهما ابني سياسييْن .هناك رواية كذلك عن عملية موازية من حيث ثقل الضغط على الجونتا .محور تلك العملية اللواء محمد ادريس عبد الله .فهو شكّل جسر تواصل بين الضباط والقصر بحكم موقعه في قيادة العمليات . ضمن ذلك الجسر استعانته بمفرزة حاصرت القصر ثم مارس ضغطا مع اللواء محمد الباقر افضى الى تنازل عبود وصحبه.
******

النقابات توجت حصاد نضال سياسي مطلبي سياسي طويل شرس بانتزاع مقاعد وزارية في حكومة اكتوبر . هي المرة الوحيدة حيث شغل ممثل لاتحاد المزارعين وممثل لاتحاد العمال حقيبتين وزاريتين بالاضافة إلى نقيب المحامين .اتحاد العمال نظّم اضخم موكب مؤيد شهدته الخرطوم تأييدا لسطة حاكمة . جامعة الخرطوم ،اساتذة وطلابا ،كانت بؤرة إشعال اكتوبر وأبريل . الإنتفاضة الثانية تفجرت عقب مراكمة إضرابات مطلبية في قطاعات خدمية مثل الكهرباء، الاتصالات والأطباء مما أدى إلى اضطراب إيقاع الحياة. اضراب اساتذة الجامعة ومؤسسات إعلامية اشعلا حماسة الجماهير . الجزولي خرج من سجن كوبر محمولا على الاعناق الى رئاسة الحكومة . الحركة النقابية تعرضت الى التفريغ، التشريد التجريف والتشويه على أيدي زبانية الانقاذ النهابين، مخربي بُنى الاقتصاد التحتية والفوقية، بالع الأرض ،آكلي السحت والمال العام.لذلك لم تسطع النهوض بعبئها في تجسير العبور حاليا .
******

تخلي نميري عن قيادة اجتماع معسكر الشجرة يعكس في جانب من تجلياته تقاليد المؤسسة العسكرية المهنية. فذلك سلوك يشهد بتصالح نميري مع نفسه حد اعترافه بجدارة من يليق بالموقف .ذلك الانضباط أكده نميري في ظهوره التلفزيوني الاول عقب نجاح انقلاب مايو. يومها وعد العقيد بنأي ضباط مجلس قيادة الثورة عن العمل السياسي مكتفين بالرقابة لضمان قيام السلطة التنفيذية بمهامها كم ينبغي. ذلك وعد كذبته إغراءات السلطة والانشقاقات. الانقاذ أفرغ المؤسسة العسكرية من تلك التقاليد الحميدة.لذلك مزّق البرهان وزمرته الشراكة الساذجة إذ منحت من لايستحق ما لايستأهل. هم فقراء إلى تلك التقاليد المضاعة معوزون في التربية الوطنية لذلك لا يملكون الحد الأدنى من التصالح مع الذات ، مع الشعب والتاريخ.
******

لكل مرحلة سياسية عثراتها وخطاياها. اكتوبر بذرت خطيئة الإستغناء عن الكفاءات المهنية تحت شعار (التطهير واجب وطني). مايو جعلت من الشعار سلاحا أشهرته عن اليمين و عن الشمال فاقتلعت أخبارًا من خيار .الانقاذ أسمت السلاح نفسه(الصالح العام )فحصدت به الأخضر في كل الحقول واستبدلت به حطبا لا ظليل ولا مثمر. البرهان وزمرته جرفوا في غضون سنة آلاف الشباب ومئات العائلات من بيوتهم الى خارج الوطن . القوى السياسية غير مبرأة من مسؤولية التردي الراهن لكن غياب ركيزتي الجسر الآمن ؛ صلابة الجيش والنقابات عطّل مهمة العبور والسقوط في نهر الفوضى.مع ذلك تطارد زمرة البرهان الخلايا المشرئبة للحياة الوطنية من النقابات بأشكال من القمع والترهيب!

aloomar@gmail.com
/////////////////////////

 

آراء