إن مستقبل السودان يتشكل بالبنادق والمال، تماماً مثل ماضيه
حسام عثمان محجوب
27 August, 2023
27 August, 2023
إن مستقبل السودان يتشكل بالبنادق والمال، تماماً مثل ماضيه
نشر في موقع ذا كونفرسيشن
24 أغسطس 2023
أليكس دي وال أستاذ باحث ومدير تنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في مدرسة فليتشر
إعداد الترجمة: حسام عثمان محجوب
مثل أغلب الحروب المعاصرة، لا يمكن اختزال حرب السودان في صراع بين طرفين. هناك أشياء أخرى كثيرة، من بينها "طبقة أصحاب السلاح" المكونة من تحالفات متغيرة باستمرار من المتخصصين في العنف والمتاجرة السياسية الذين يعيشون على التهام المدنيين. لقد كانت أطراف السودان منذ فترة طويلة ساحة خارجة عن القانون للاستغلال الوحشي للناس والموارد الطبيعية من قبل مجمع تجاري عسكري. الآن صارت البلد كلها ساحة لهم.
بعد أربعة أشهر من بدء القتال، لم تحقق القوات المسلحة السودانية ولا قوات الدعم السريع نصراً حاسماً في ساحة المعركة. ولا ينبغي أن يفاجئ ذلك أحداً، فإنه لم يحدث أن انتهت أي حرب سودانية بهذه الطريقة من قبل.
بدأت الحرب الحالية في السودان في 15 إبريل، عندما حاول السياسي الأكثر نشاطاً وقدرة في البلاد، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، الاستيلاء على السلطة. وعلى الرغم من التخطيط الدقيق والمهارة التكتيكية، فشل الانقلاب في القضاء على قيادة القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك قائدها الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
وحتى لو نجحت قوات الدعم السريع في نهاية المطاف في السيطرة على العاصمة، فقد فشلت سياسياً. فقد حولت الفظائع التي ارتكبتها – مثل النهب والقتل والاغتصاب – تقدمها في ساحة المعركة إلى كارثة في العلاقات العامة.
بدأ القتال بما يشبه معركة مسدسات بين رجال عصابات حول الكارتل التجاري العسكري الذي سيدير السودان. لكن الزعيمين يفقدان سيطرتهما على الأمور. ويبدو أن حميدتي عاجز جسدياً كما لم يُظهر أياً من الطاقة الشعبوية التي سمحت له بوضع بصمته على الأجندة السياسية. وفي محاولة لتبديد الشائعات التي تفيد بأنه مات أو في العناية المركزة، نشرت قوات الدعم السريع مقطع فيديو لمقاطع مجمعة مع بعضها، وقف فيها حميدتي، متصلباً وشاحباً، يتحدث لمدة 11 ثانية فقط.
لقد خرج البرهان من مخبئه وأصبح أكثر ظهوراً، لكنه ليس أكثر تماسكاً. هو الرئيس الاسمي لعصابة منقسمة من الجنرالات والممولين، كثير منهم من الإسلاميين من الحرس القديم لنظام الرئيس عمر البشير السابق.
لقد ظللت باحثاً في شؤون السودان منذ أربعة عقود. خلال الفترة 2005-2006، تم إعارتي إلى فريق الوساطة التابع للاتحاد الأفريقي لدارفور، ومن 2009 إلى 2013 عملت كمستشار أول للجنة التنفيذ رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الأفريقي بشأن السودان، أثناء المفاوضات حول استقلال جنوب السودان وتداعياته. أحدث كتاب لي، والذي شاركت في تأليفه مع ويلو بيريدج، وجستن لينش، ورجاء مكاوي، يحكي قصة ثورة عام 2019 المدنية وأسباب فشلها.
إذا نظرنا إلى حرب السودان في سياق تاريخ الدولة السودانية وحروبها، فإن هذه الحرب تبدو مشابهة. إنها ليست نسخة طبق الأصل من الحروب السابقة، ولكن إذا لم يعد التاريخ نفسه، فإنه يتناغم. إذ تحصل الآن عصابة من الجنرالات وسماسرة السلطة الإسلاميين، الذين ازدهروا في ظل النظام السابق للرئيس عمر البشير، على الاعتراف بهم كحكومة. لكن سيطرة دولتهم على الأراضي أصبحت أكثر محدودية وبمؤسسات أضعف من ذي قبل، في حين يتوسع نمط الأطراف شبه العسكري للحكم ــ الذي تمثله قوات الدعم السريع ــ في الأراضي والقدرات.
تخون الدولة السودانية اليوم تاريخها كدولة غنيمة على هامش النظام العالمي. والرجال الذين يتنافسون على السلطة هم سماسرة في هذا النظام الاستخراجي، وليسوا بناة دولة. ولهذا السبب، فإن الجهود الحالية لإيجاد حل وسط بين البرهان وحميدتي ليست أكثر من "شملة كنيزة، هي تلاتية لكن قدها رباعي".
السوق السياسية في السودان
وكان تحالف القوى المدنية إلى جانب بعض جنرالات الجيش في القوات المسلحة السودانية، وأغلبية الدول الأفريقية والغربية، يطمح إلى الانتقال إلى دولة مؤسسية وديمقراطية بعد الإطاحة بالبشير. لكن عشية الإعلان الدستوري في أغسطس 2019، كتبت ورقة تعارض ملخصها المتشائم مع التفاؤل السائد في تلك اللحظة.
وكنت أرى أن القضايا التي كانت قيد التفاوض في ذلك الوقت لم تشمل الهياكل الحقيقية للسلطة في البلاد. لم أكن أرى أن السؤال الرئيسي هو إرساء الديمقراطية، بل ما إذا كان حميدتي – رجل الأعمال السياسي المهيمن – يمكنه الاستيلاء على السلطة بنفسه وتأمين التسوية مع المجموعات السياسية والعسكرية التجارية الأخرى أو ما إذا كان سيكون هناك انقلاب مضاد من تدبير المؤسسة (الدولة العميقة).
وزعمت أيضاً أنه نظراً لأن نموذج حميدتي لم يكن مستداماً، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو تسارع الاتجاه نحو "سوق سياسي" غير منظم وعنيف و"حكم شبه عسكري".
في ذلك الوقت، توصل حميدتي إلى تسوية مع القوات المسلحة السودانية. أولاً، وافق على تولي البرهان رئاسة هيئة الرئاسة الجماعية، المعروفة باسم مجلس السيادة، ثم وافق لاحقاً على الانقلاب في أكتوبر 2021. وكان مثل هذا التواطؤ قابلاً للتطبيق طالما تُركت هياكل قيادة قطاع الأمن دون تدخل ودون حل. لكن سياسة التأخير لم تعد ممكنة مع النص الوارد في الاتفاق الإطاري المبرم في ديسمبر 2022 والذي تتطلب استيعاب قوات الدعم السريع تحت قيادة القوات المسلحة السودانية. لذلك اتخذ حميدتي خطوته.
وبدلاً من استيلاء حميدتي على الدولة، قام بتدميرها. وفي الحرب الدائرة، تكون الخسائر والمكاسب في ساحة المعركة أقل أهمية من القدرة المادية. والأكثر أهمية هي الأموال السياسية لزعماء كل تحالف متحارب. الآن، كما كان الحال في السابق، تتفوق القوات المسلحة السودانية في القدرات المادية بشكل عام، لكن الدخل السياسي المتوفر تحت تصرف قوات الدعم السريع أكبر، وهو الأمر الأكثر أهمية.
الوتد المربع
في الأسابيع الأولى من الحرب، حاول الوسطاء الأمريكيون والسعوديون التوصل إلى وقف مباشر للأعمال العدائية بين القوات السودانية. كان ذلك رد فعل فورياً مبرراً. ولكن بعد مضي أربعة أشهر، فإنه غير مفيد.
ساحة الوساطة مزدحمة الآن. ويتولى الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) بقيادة كينيا، ومصر قيادة المبادرات. ويقول كل منهم إنه ينسق مع الآخرين. وبغض النظر عما إذا كان هذا صادقاً أم لا، فإن نتيجة القواسم المشتركة الرسمية هي أن يتفق الجميع على أبسط تحليل ممكن، وهو حرب بين جانبين.
بالنسبة لمصر، القضية الأساسية هي الدولة المنهارة أو المتشرذمة. فتماماً كما كانت تخشى أن تؤدي محادثات السلام التي قادتها كينيا منذ عشرين عاماً إلى انفصال جنوب السودان، فإنها تشعر اليوم بالقلق إزاء قيام دولة فاشلة تضم حكومتين متنافستين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى نزوح الملايين من اللاجئين.
بالنسبة لكينيا، يعد هذا بمثابة انتقال معطل إلى الديمقراطية. ويعمل الأميركيون والسعوديون على إحياء خططهم المشتركة لوقف إطلاق النار، متجنبين التساؤل حول كيفية جعل الدولة السودانية قابلة للحياة. وقد تقترح دول أخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة، منتديات جديدة أو تصر على أن يكون لها دور.
والأمم المتحدة غائبة تماماً.
وعلى النقيض من الصراعات السابقة في السودان، لم يضع المجتمع المدني القومي والمثقفون رؤية لكيفية إنقاذ البلاد من دوامة الموت. ولم يفعل ذلك حتى العلماء والمحللون الأفارقة. قدم علماء السياسة السودانيون قراءات غنية عن الخلل التاريخي الذي تعانيه بلادهم. لقد حان الوقت لإحياء هذه التحليلات ومناقشتها. وفي ظل الفراغ، يتشكل مستقبل السودان بالسلاح والمال.
دولة مكشوفة
قبل ثلاثين عاماً، قال وزير المالية الإسلامي عبد الرحيم حمدي إن الأجزاء الوسطى من السودان تشكل دولة مصغرة قابلة للحياة اقتصادياً. أصبحت المدن والمشاريع الزراعية التجارية الواقعة على مسيرة يوم واحد بالسيارة من الخرطوم تُعرف باسم "مثلث حمدي". وكانت هذه منطقة متوسطة الدخل وموضعاً لمعظم البنية التحتية والاستثمارات. قال حمدي إن هذه المنطقة يمكن أن تزدهر دون الاضطرار إلى إدارة المناطق المزعجة في جنوب السودان ودارفور وغيرها من المناطق النائية التي كانت بمثابة مستودعات لاحتياطي العمالة بشكل رئيسي.
قد تكون ثمرة هذه الحرب شبه مثلث مقطوع في شرق السودان. سيتم إدارة هذا الأمر مثل الاحتكار الثنائي العسكري الإسلامي في سنوات البشير، باستثناء أنه أكثر وحشية وأكثر فساداً، وربما أكثر انقساماً. لقد التف جنرالات وإسلاميون مختلفون حول البرهان كزعيمهم الإسمي، لكن من المرجح أن يظلوا متماسكين فقط طالما شكلت قوات الدعم السريع في الخرطوم تهديداً وجودياً.
ما يزال التنافس بين حميدتي والبرهان في طريق مسدود.
وتحدثت البيانات المبكرة الصادرة عن الوسطاء الأمريكيين والسعوديين عن القوات المسلحة السودانية باعتبارها مجرد طرف محارة، مما وضعها على قدم المساواة مع قوات الدعم السريع. وفي الآونة الأخيرة، أصبح البرهان ومجموعته الآن معترفاً بهم على نطاق واسع كحكومة السودان. هذا على الرغم من أنهم لا يسيطرون على العاصمة. وهم يديرون فقط مقرهم الفعلي في بورتسودان وعدداً قليلاً من المدن الأخرى.
إن قوات الدعم السريع هي بمثابة انتقام من الجموع عديمة القيمة ضد المؤسسة السياسية السودانية التي كانت على استعداد لاستغلالهم عندما احتاجت إلى إنجاز مهمة قذرة. كان لزعيمها حميدتي لمسة شعبوية وعقد تحالفات انتهازية. ارتفعت حظوظه السياسية لأنه كان يتمتع بالطاقة السياسية والمال. ولأنه قدم وعداً بخيار بديل للحرس القديم.
لكن حيل حميدتي السياسية الحربائية لم تتمكن من إخفاء الحمض النووي لمصالحه التجارية السياسية العسكرية. وهو ابن ميليشيات الجنجويد، المشهورة بفظائعها في حرب دارفور في الفترة 2003-2005. وقوات الدعم السريع هي أيضاً شأن عائلي، لكن لا يتمتع أي من نواب حميدتي – الإخوة والأعمام وأبناء العمومة – بالكاريزما والمكانة اللازمتين ليحل محله.
إذا انتصرت قوات الدعم السريع، فيجب أن نتوقع أن تصبح الحكومة السودانية، أو ما بقي منها، شركة تابعة مملوكة بالكامل للأجندة التجارية والعسكرية والعرقية لعائلة دقلو وداعميها الأقوياء.
إن التناقض في الحكم شبه العسكري هو قدرته التدميرية. أسلوب عمل قوات الدعم السريع هو مهاجمة ونهب كل شيء – الأسواق والمزارع والمدارس والمستشفيات – تاركين أرضاً يباب. يقوم رجال الميليشيات بطرد السكان المحليين لكنهم لا يستطيعون إعالة أنفسهم إلا من خلال التوجه إلى ضحايا جدد. وفي الوقت المناسب سوف تنتهي المدن التي يمكنهم نهبها.
رابط المقال الأصلي باللغة الإنجليزية:
https://theconversation.com/sudans-future-is-being-shaped-by-guns-and-money-like-its-past-211948
husamom@yahoo.com
نشر في موقع ذا كونفرسيشن
24 أغسطس 2023
أليكس دي وال أستاذ باحث ومدير تنفيذي لمؤسسة السلام العالمي في مدرسة فليتشر
إعداد الترجمة: حسام عثمان محجوب
مثل أغلب الحروب المعاصرة، لا يمكن اختزال حرب السودان في صراع بين طرفين. هناك أشياء أخرى كثيرة، من بينها "طبقة أصحاب السلاح" المكونة من تحالفات متغيرة باستمرار من المتخصصين في العنف والمتاجرة السياسية الذين يعيشون على التهام المدنيين. لقد كانت أطراف السودان منذ فترة طويلة ساحة خارجة عن القانون للاستغلال الوحشي للناس والموارد الطبيعية من قبل مجمع تجاري عسكري. الآن صارت البلد كلها ساحة لهم.
بعد أربعة أشهر من بدء القتال، لم تحقق القوات المسلحة السودانية ولا قوات الدعم السريع نصراً حاسماً في ساحة المعركة. ولا ينبغي أن يفاجئ ذلك أحداً، فإنه لم يحدث أن انتهت أي حرب سودانية بهذه الطريقة من قبل.
بدأت الحرب الحالية في السودان في 15 إبريل، عندما حاول السياسي الأكثر نشاطاً وقدرة في البلاد، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، الاستيلاء على السلطة. وعلى الرغم من التخطيط الدقيق والمهارة التكتيكية، فشل الانقلاب في القضاء على قيادة القوات المسلحة السودانية، بما في ذلك قائدها الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
وحتى لو نجحت قوات الدعم السريع في نهاية المطاف في السيطرة على العاصمة، فقد فشلت سياسياً. فقد حولت الفظائع التي ارتكبتها – مثل النهب والقتل والاغتصاب – تقدمها في ساحة المعركة إلى كارثة في العلاقات العامة.
بدأ القتال بما يشبه معركة مسدسات بين رجال عصابات حول الكارتل التجاري العسكري الذي سيدير السودان. لكن الزعيمين يفقدان سيطرتهما على الأمور. ويبدو أن حميدتي عاجز جسدياً كما لم يُظهر أياً من الطاقة الشعبوية التي سمحت له بوضع بصمته على الأجندة السياسية. وفي محاولة لتبديد الشائعات التي تفيد بأنه مات أو في العناية المركزة، نشرت قوات الدعم السريع مقطع فيديو لمقاطع مجمعة مع بعضها، وقف فيها حميدتي، متصلباً وشاحباً، يتحدث لمدة 11 ثانية فقط.
لقد خرج البرهان من مخبئه وأصبح أكثر ظهوراً، لكنه ليس أكثر تماسكاً. هو الرئيس الاسمي لعصابة منقسمة من الجنرالات والممولين، كثير منهم من الإسلاميين من الحرس القديم لنظام الرئيس عمر البشير السابق.
لقد ظللت باحثاً في شؤون السودان منذ أربعة عقود. خلال الفترة 2005-2006، تم إعارتي إلى فريق الوساطة التابع للاتحاد الأفريقي لدارفور، ومن 2009 إلى 2013 عملت كمستشار أول للجنة التنفيذ رفيعة المستوى التابعة للاتحاد الأفريقي بشأن السودان، أثناء المفاوضات حول استقلال جنوب السودان وتداعياته. أحدث كتاب لي، والذي شاركت في تأليفه مع ويلو بيريدج، وجستن لينش، ورجاء مكاوي، يحكي قصة ثورة عام 2019 المدنية وأسباب فشلها.
إذا نظرنا إلى حرب السودان في سياق تاريخ الدولة السودانية وحروبها، فإن هذه الحرب تبدو مشابهة. إنها ليست نسخة طبق الأصل من الحروب السابقة، ولكن إذا لم يعد التاريخ نفسه، فإنه يتناغم. إذ تحصل الآن عصابة من الجنرالات وسماسرة السلطة الإسلاميين، الذين ازدهروا في ظل النظام السابق للرئيس عمر البشير، على الاعتراف بهم كحكومة. لكن سيطرة دولتهم على الأراضي أصبحت أكثر محدودية وبمؤسسات أضعف من ذي قبل، في حين يتوسع نمط الأطراف شبه العسكري للحكم ــ الذي تمثله قوات الدعم السريع ــ في الأراضي والقدرات.
تخون الدولة السودانية اليوم تاريخها كدولة غنيمة على هامش النظام العالمي. والرجال الذين يتنافسون على السلطة هم سماسرة في هذا النظام الاستخراجي، وليسوا بناة دولة. ولهذا السبب، فإن الجهود الحالية لإيجاد حل وسط بين البرهان وحميدتي ليست أكثر من "شملة كنيزة، هي تلاتية لكن قدها رباعي".
السوق السياسية في السودان
وكان تحالف القوى المدنية إلى جانب بعض جنرالات الجيش في القوات المسلحة السودانية، وأغلبية الدول الأفريقية والغربية، يطمح إلى الانتقال إلى دولة مؤسسية وديمقراطية بعد الإطاحة بالبشير. لكن عشية الإعلان الدستوري في أغسطس 2019، كتبت ورقة تعارض ملخصها المتشائم مع التفاؤل السائد في تلك اللحظة.
وكنت أرى أن القضايا التي كانت قيد التفاوض في ذلك الوقت لم تشمل الهياكل الحقيقية للسلطة في البلاد. لم أكن أرى أن السؤال الرئيسي هو إرساء الديمقراطية، بل ما إذا كان حميدتي – رجل الأعمال السياسي المهيمن – يمكنه الاستيلاء على السلطة بنفسه وتأمين التسوية مع المجموعات السياسية والعسكرية التجارية الأخرى أو ما إذا كان سيكون هناك انقلاب مضاد من تدبير المؤسسة (الدولة العميقة).
وزعمت أيضاً أنه نظراً لأن نموذج حميدتي لم يكن مستداماً، فإن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو تسارع الاتجاه نحو "سوق سياسي" غير منظم وعنيف و"حكم شبه عسكري".
في ذلك الوقت، توصل حميدتي إلى تسوية مع القوات المسلحة السودانية. أولاً، وافق على تولي البرهان رئاسة هيئة الرئاسة الجماعية، المعروفة باسم مجلس السيادة، ثم وافق لاحقاً على الانقلاب في أكتوبر 2021. وكان مثل هذا التواطؤ قابلاً للتطبيق طالما تُركت هياكل قيادة قطاع الأمن دون تدخل ودون حل. لكن سياسة التأخير لم تعد ممكنة مع النص الوارد في الاتفاق الإطاري المبرم في ديسمبر 2022 والذي تتطلب استيعاب قوات الدعم السريع تحت قيادة القوات المسلحة السودانية. لذلك اتخذ حميدتي خطوته.
وبدلاً من استيلاء حميدتي على الدولة، قام بتدميرها. وفي الحرب الدائرة، تكون الخسائر والمكاسب في ساحة المعركة أقل أهمية من القدرة المادية. والأكثر أهمية هي الأموال السياسية لزعماء كل تحالف متحارب. الآن، كما كان الحال في السابق، تتفوق القوات المسلحة السودانية في القدرات المادية بشكل عام، لكن الدخل السياسي المتوفر تحت تصرف قوات الدعم السريع أكبر، وهو الأمر الأكثر أهمية.
الوتد المربع
في الأسابيع الأولى من الحرب، حاول الوسطاء الأمريكيون والسعوديون التوصل إلى وقف مباشر للأعمال العدائية بين القوات السودانية. كان ذلك رد فعل فورياً مبرراً. ولكن بعد مضي أربعة أشهر، فإنه غير مفيد.
ساحة الوساطة مزدحمة الآن. ويتولى الاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) بقيادة كينيا، ومصر قيادة المبادرات. ويقول كل منهم إنه ينسق مع الآخرين. وبغض النظر عما إذا كان هذا صادقاً أم لا، فإن نتيجة القواسم المشتركة الرسمية هي أن يتفق الجميع على أبسط تحليل ممكن، وهو حرب بين جانبين.
بالنسبة لمصر، القضية الأساسية هي الدولة المنهارة أو المتشرذمة. فتماماً كما كانت تخشى أن تؤدي محادثات السلام التي قادتها كينيا منذ عشرين عاماً إلى انفصال جنوب السودان، فإنها تشعر اليوم بالقلق إزاء قيام دولة فاشلة تضم حكومتين متنافستين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى نزوح الملايين من اللاجئين.
بالنسبة لكينيا، يعد هذا بمثابة انتقال معطل إلى الديمقراطية. ويعمل الأميركيون والسعوديون على إحياء خططهم المشتركة لوقف إطلاق النار، متجنبين التساؤل حول كيفية جعل الدولة السودانية قابلة للحياة. وقد تقترح دول أخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة، منتديات جديدة أو تصر على أن يكون لها دور.
والأمم المتحدة غائبة تماماً.
وعلى النقيض من الصراعات السابقة في السودان، لم يضع المجتمع المدني القومي والمثقفون رؤية لكيفية إنقاذ البلاد من دوامة الموت. ولم يفعل ذلك حتى العلماء والمحللون الأفارقة. قدم علماء السياسة السودانيون قراءات غنية عن الخلل التاريخي الذي تعانيه بلادهم. لقد حان الوقت لإحياء هذه التحليلات ومناقشتها. وفي ظل الفراغ، يتشكل مستقبل السودان بالسلاح والمال.
دولة مكشوفة
قبل ثلاثين عاماً، قال وزير المالية الإسلامي عبد الرحيم حمدي إن الأجزاء الوسطى من السودان تشكل دولة مصغرة قابلة للحياة اقتصادياً. أصبحت المدن والمشاريع الزراعية التجارية الواقعة على مسيرة يوم واحد بالسيارة من الخرطوم تُعرف باسم "مثلث حمدي". وكانت هذه منطقة متوسطة الدخل وموضعاً لمعظم البنية التحتية والاستثمارات. قال حمدي إن هذه المنطقة يمكن أن تزدهر دون الاضطرار إلى إدارة المناطق المزعجة في جنوب السودان ودارفور وغيرها من المناطق النائية التي كانت بمثابة مستودعات لاحتياطي العمالة بشكل رئيسي.
قد تكون ثمرة هذه الحرب شبه مثلث مقطوع في شرق السودان. سيتم إدارة هذا الأمر مثل الاحتكار الثنائي العسكري الإسلامي في سنوات البشير، باستثناء أنه أكثر وحشية وأكثر فساداً، وربما أكثر انقساماً. لقد التف جنرالات وإسلاميون مختلفون حول البرهان كزعيمهم الإسمي، لكن من المرجح أن يظلوا متماسكين فقط طالما شكلت قوات الدعم السريع في الخرطوم تهديداً وجودياً.
ما يزال التنافس بين حميدتي والبرهان في طريق مسدود.
وتحدثت البيانات المبكرة الصادرة عن الوسطاء الأمريكيين والسعوديين عن القوات المسلحة السودانية باعتبارها مجرد طرف محارة، مما وضعها على قدم المساواة مع قوات الدعم السريع. وفي الآونة الأخيرة، أصبح البرهان ومجموعته الآن معترفاً بهم على نطاق واسع كحكومة السودان. هذا على الرغم من أنهم لا يسيطرون على العاصمة. وهم يديرون فقط مقرهم الفعلي في بورتسودان وعدداً قليلاً من المدن الأخرى.
إن قوات الدعم السريع هي بمثابة انتقام من الجموع عديمة القيمة ضد المؤسسة السياسية السودانية التي كانت على استعداد لاستغلالهم عندما احتاجت إلى إنجاز مهمة قذرة. كان لزعيمها حميدتي لمسة شعبوية وعقد تحالفات انتهازية. ارتفعت حظوظه السياسية لأنه كان يتمتع بالطاقة السياسية والمال. ولأنه قدم وعداً بخيار بديل للحرس القديم.
لكن حيل حميدتي السياسية الحربائية لم تتمكن من إخفاء الحمض النووي لمصالحه التجارية السياسية العسكرية. وهو ابن ميليشيات الجنجويد، المشهورة بفظائعها في حرب دارفور في الفترة 2003-2005. وقوات الدعم السريع هي أيضاً شأن عائلي، لكن لا يتمتع أي من نواب حميدتي – الإخوة والأعمام وأبناء العمومة – بالكاريزما والمكانة اللازمتين ليحل محله.
إذا انتصرت قوات الدعم السريع، فيجب أن نتوقع أن تصبح الحكومة السودانية، أو ما بقي منها، شركة تابعة مملوكة بالكامل للأجندة التجارية والعسكرية والعرقية لعائلة دقلو وداعميها الأقوياء.
إن التناقض في الحكم شبه العسكري هو قدرته التدميرية. أسلوب عمل قوات الدعم السريع هو مهاجمة ونهب كل شيء – الأسواق والمزارع والمدارس والمستشفيات – تاركين أرضاً يباب. يقوم رجال الميليشيات بطرد السكان المحليين لكنهم لا يستطيعون إعالة أنفسهم إلا من خلال التوجه إلى ضحايا جدد. وفي الوقت المناسب سوف تنتهي المدن التي يمكنهم نهبها.
رابط المقال الأصلي باللغة الإنجليزية:
https://theconversation.com/sudans-future-is-being-shaped-by-guns-and-money-like-its-past-211948
husamom@yahoo.com