إيران فوق بركان

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

​كان هذا عنوان أول كتاب صنفه محمد حسنين هيكل مراسل (أخر ساعة) آنئذ بإيران في مطلع الخمسينات، عندما كانت في أوج التوتر على خلفية الصراع بين الدكتور محمد مصدق وحزبه (الجبهة الوطنية) وحلفائه حزب تودة الماركسي وملالي قم بقيادة آية الله كاشاني والنقابات العمالية من جانب، وبين الشاه محمد رضا بهلوي ورهطه المدعومين من قبل شركة النفط الإيرانية البريطانية AIOC الخاضعة تماماً لشركة البترول BPبريتيش بتروليوم، ومعها جهاز المخابرات البريطانية MI6، من الجانب الآخر. وعلى الرغم من أن الكتاب صدر عام 1951 إلا أنه لم يتناه إلي فى السودان إلا عام 1956 كأول كتاب سياسي قرأته فى حياتي. ومنذ ذلك الوقت المبكر تنبهنا للحركة الثورية الإيرانية باعتبارها قيمة مضافة محتملة لشقيقتها حركة التحرر الوطني العربية، بما لدى الحركتين من قواسم مشتركة – النضال ضد الاستعمار بكافة تجلياته الاحتلالية والاقتصادية والاحتكارية والاستخباراتية، والظلال الساقطة من الثورة الاشتراكية الماوية التى حققت انتصارها في الصين عام 1949، ومن الحركة الوطنية الإندونيسية بقيادة أحمد سوكارنو التى حققت استقلال بلادها عام 1945 بعد يومين من نهاية الحرب الكونية الثانية، ومن الحركة الوطنية الهندية التى كللت نضالها بالاستقلال عام 1947. ذلك هو المحيط الجغرافي/ السياسي الذى كان ولا زال يحف بإيران.

​ولقد تتابعت الأحداث في إيران بسرعة مذهلة بعد انتخاب الدكتور مصدق رئيساً للوزراء بأغلبية البرلمان الساحقة في 28 يناير 1951، فدخلت حكومته على الفور في حوارات ومفاوضات مضنية ومطوّلة ومعقدة مع الشركة الأنجلو إيرانية (التى يملك الجانب البريطاني أكثر من 90% من أسهمها منذ تأسيسها عام 1913)، علماً بأن النفط الإيراني هو أول نفط تدفق بالشرق الأوسط منذ عام 1915. وقد استندت حكومة مصدق في حيثياتها على سابقة أرامكو السعودية التى تتقاسم إيرادات النفط مع الجانب السعودي بنسبة 50% لكل منهما، بفضل حنكة وشجاعة ودهاء وإصرار الملك عبد العزيز آل سعود. بيد أن الإنجليز رفضوا التنازل قيد أنملة للمفاوض الإيراني. ودخل الأمريكان على الخط بدعوى مكافحة الشيوعية، إذ تم تصنيف دكتور مصدق كشيوعي، كما حدث بالنسبة لجمال عبد الناصر لاحقاً، لأنه دافع عن حقوق شعبه القانونية، ولأنه شرع فى تنفيذ برنامج للإصلاح الزراعي تم بموجبه نزع شرائح من إقطاعيات الأرستقراطيين الكولاك، وتم توزيعها على الفلاحين الإيرانيين العاملين فيها كأقنان وعمال سخرة؛ كما شرع في تطبيق العلاج المجاني على منوال برنامج الNational Health الذى طبقته حكومة حزب العمال البريطانية إثر فوزها بانتخابات 1946 بعد الحرب الثانية مباشرة؛ وشرع كذلك فى تحسين أوضاع العمال بصفة عامة. وعند ذاك وضع الرئيس الأمريكي الجديد دوايت آيزنهاور ووزير خارجيته المستر جون فوستر دالاس مليون دولار تحت تصرف شقيقه ألان دالاس مدير السي آي إي من أجل زعزعة حكومة مصدق ودحرجتها نحو الإنهيار.

​ولما استيأس مصدق من سلاح التفاوض، قام بتأميم شركة AIOC في أول مايو 1951 (الذى صادف يوم عيد العمال العالمي)، وفي أكتوبر من عام 1952 قطعت إيران علاقاتها الدبلوماسية مع المملكة المتحدة، فاتحة  بذلك ثغرة ولج منها الأمريكان، وقامت السي آي إي بالتنسيق مع الMI6البريطانية بإنفاذ (عملية أجاكس) التى أدت لإسقاط حكومة مصدق في مارس 1953، وتم اعتقال الدكتور مصدق وحكم عليه بالسجن ثم بالحبس في مدينة نائية حتى وفاته عام 1967، كما تم إعدام وزير خارجيته الوطني النزيه الجنرال حسين فاطمي. ومنذ تلك اللحظة حتى سقوطه عام 1979 أصبح الشاهنشاه الدكتاتور الأوحد والمنفذ بالحرف للمخططات الأمريكية؛ هذا ولقد تضاءل النفوذ البريطاني.

​بيد أن المؤسف بحق وحقيق أن المخابرات الأمريكية استمالت قادة الشيعة أمثال كاشاني وإبنه، بعد غسيل أدمغتهم بأن الجبهة الوطنية التى تزعمها مصدق ليست إلا مجرد غطاء للشيوعية، فهي حليفة لحزب توده الذى ألصق به الأمريكان تهمة العمالة للإتحاد السوفيتي؛ وأصبح إبن كاشاني أحد رموز العهد الجديد الذى جاء بعد حكومة مصدق.

​والمؤسف أيضاً أن حركة الملالي بقيادة أية الله الخميني التى وجدت نفسها بعد ذلك بعقدين فى مربع المعارضة لنظام الشاه، قلبت ظهر المجن للإرث الوطني المصدّقي، ولم تستلهم الخط الوطني الذى جسده مصدق وحزب الجبهة الوطنية، الهادف للإصلاح الإجتماعي والتقدم الإقتصادي تحت رايات الديمقراطية الحقيقية، وبإرادة الجماهير الحرة التى جاءت بالجبهة الوطنية للحكم مرتين على أساس انتخابات نزيهة وشفافة، خاضتها أحزاب متعددة، وعلى أساس الموقف الوطني الواضح في وجه مؤسسات الاحتكار الغربية والإمبريالية، وهو الموقف الذى كان سيقرب الملالي من حركة التحرر الوطني العالمية، ومن الأنظمة والأحزاب والتيارات التقدمية المعادية للإستعمار والمساندة للشعوب المحتلة والمستضعفة –وليس للتنظيمات الخارجة من بردة الإستخبارات الغربية مثل الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية والبعث السوري، الذين سقط الملالي في قبضتهم.

​والمؤسف حقاً أن آية الله الخميني لما سئل عن خططه للإصلاح الاقتصادي ولتحسين معيشة الجماهير، رد قائلاً: (إن الثورة الإسلامية لم تتفجر لتحدد سعر البطيخ). ومنذ أول أيامها رفعت ثورة الملالي الشعارات المتطرفة والطائفية الديماجوجية، لا لتحقيق دولة العدالة الاجتماعية العمرية (نسبة لكل من سيدنا عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهما)، إنما لتكريس السلطة في يد قائد ديني (ولاية الفقيه) لا يسأل عما يفعل لأنه معصوم ومقدس، ولأنه مندوب الإرادة الإلهية إلى الأرض، ومن ينتقده يقتل ويصلب. فأصبحت الدولة مهووسة بالسطوة الأمنية وبالشوكة العسكرية، وأنشأت "الحرس الثوري" على نسق الSS النازي الألماني، وسخرت موارد الدولة لتسليح وتضخيم القوات المسلحة، تماماً كما فعل الشاه الذى كان يتمتع بثالث أكبر جيش فى العالم الثالث – (ليحارب به من، الله ورسوله أعلم!). وعندما اندلقت الجماهير لشوارع طهران في ثورة 1979 تبخر جيشه وحرسه الملكي والسافاك كأنها فقاقيع صابون، وتفرقت بطانته كالفئران المذعورة.

​واستمراراً لسياسات الشاه التوسعية المستوحاة من العهود الفارسية الساسانية، لم يصحح أو يشجب الحكام الجدد احتلال إيران للجزر الإماراتية الثلاث، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى التي احتلها جيش الشاه عام 1971، بل ظلت إيران ماكثة بهذه الجزر حتى يومنا هذا، رافضه لأي مفاوضات دبلوماسية بشأنها، ولأي وساطة اقليمية أو دولية،  ولأي تحكيم تقضي به المؤسسات المعنية، مثل محكمة العدل الدولية.

​وبما أن حكومة الملالي حسبت نفسها الممثل الشرعي الأوحد لطائفة الشيعة في العالم، فلقد شرعت في تحريض و تجنيد الأقليات الشيعية ببعض أطراف الشرق الأوسط، علّها تستطيع بالتعاون معها ان تبني إمبراطورية فارسية جديدة ظاهرها المدّ الشيعي  وباطنها النوايا التوسعية الإمبريالية المحضة، في القرن الحادي والعشرين. وبالمناسبة، تجمع دوائر المعارف على أن الشيعة يعادلون 7% سبعة بالمائة فقط من المسلمين في العالم، وربما يكتشف الساسة الإيرانيون في يوم من الأيام أن تمترسهم داخل المحارة الشيعية قد عزلهم عن باقي المسلمين في الشرق الأوسط (باستثناء جيبين في العراق  وسوريا وجنوب اليمن)، وفي إفريقيا التي لم تسمع بالشيعة، وفي كيانات مسلمة ضخمة  ومعافاة بإندونيسيا وماليزيا والهند وأواساط آسيا، وبخمس جمهوريات إسلامية خرجت من عباءة الإتحاد السوفيتي بعد تصدعه، أوزبكستان و كازخستان و طجيكستان....إلخ.

​ولقد مدّ النظام الإيراني الإسلامي يد العون لجماعات الإخوان المسلمين هنا وهناك، وقاموا بتدريب كوادرها في معسكرات الحرس الثوري ( مثل نافع علي نافع وقطبي المهدي ومجموعة الإسلامويين السودانيين )، ودعموا نظام الإخوان المسلمين الذي سطا على السلطة في السودان عن طريق انقلاب عسكري، وأجزلوا له المال والسلاح والعتاد وشيّدوا له صناعات التسليح الحربي، وشاركوا في مغامراته الجهادية بالجنوب بطائراتهم بأطقمها  وأسلحتها الفتاكة مثل الخردل والقنابل العنقودية. ولقد انكشف المغطّى في الأيام القليلة الماضية عندما طالبت الحكومة الإيرانية بنصيبها في شركة النفط السودانية الأساسية بتروناس، وبتعويضها عن استثماراتها الهائلة في مصانع الأسلحة التي شيدتها بالسودان؛ كما فجرت قنبلة أخرى مدوية عندما كشفت أن حكومة السودان تحتفظ بأهم وأكبر المعسكرات لتدريب متطوعي داعش. والسؤال هو: منذ متى ظلت الحكومة الإيرانية تمتلك هذه المعلومات؟ ولماذا انطوت عليها، بينما تدعّى في العراق أنها على استعداد لدعم الجهود العراقية والدولية لمحاربة تنظيم داعش ودولته فى شمال غرب العراق؟ هل حاميها هو حراميها؟

​لقد ثبت للقاصي والداني أن إيران تدعم الأقلية الحوثية في اليمن من أجل إقامة دولة شيعية بذلك البلد المسكين، على الرغم من أنهم لا يزيدون عن 10% من السكان. كما تدعم إيران الأحزاب الدينية والشيعية المتطرّفة بالبحرين علّها تتمكن من إيجاد رأس جسر بالضفة الغربية للخليج تستطيع أن تنطلق منه، وتلتئم بالأقليات الشيعية بالمنطقة، متوجهة إلى باقي الخليج ومن ثمّ كافة أرجاء الجزيرة العربية. وموقف إيران التخريبي بسوريا منذ خمس سنوات يشهد به العالم كله. أما في العراق، فلقد كان من نتيجة تدخلهم أن صديقهم المالكي الشيعي ظل رئيساً للوزراء لعقد من الزمان، و في أول التحام لجيشه مع جماعة داعش في الموصل، هرب ضباطه وجنودهمن ميدان المعركة كحمر مستنفرة فرّت من قسورة، تاركين سلاحهم وعتادهم وحتى أحذيتهم للدواعش، كأنها مسرحية ركيكة وسيئة الإخراج تهدف لدعم الدولة الإسلامية وزرعها قي ذلك الصقع النائي الغني بالنفط، كحصان طروادة، أو كوفد مقدمة للشيعة الإيرانيين الذين سيلتئمون معه في الوقت المناسب.

​هذا هو محور الشرالذي تتزعمه إيران والذي أخذ في الزحف شيئاً فشيئاً للتوسع بالشرق الأوسط. و لقد برز محور بديل بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، مستبسلاً في التصدي للمخططات الإيرانية وفي إحباط مؤامراتها التي تجلت حتى الآن في البحرين واليمن وسوريا وشمال وغرب العراق. وتحمل السعودية مؤهلات باهرة لقيادة هذا المحور الوطني الإيجابي، وللسير به نحو الدفاع عن الدول العربية واحترام سيادتها واستقلالها، ونحو القضاء على السرطان المذهبي المنطلق من إيران، الساعي للدمار والخراب والفتنة وابتلاع أراضي الآخرين:-
1) كانت السعودية هي الملاذ الذي لم يجد غيره جمال عبد الناصر بعد نكسة حزيران 1967، بعد أن كان يحاربها في اليمن لأكثر من خمس سنوات، إذ تم الصلح بينه وبين الملك فيصل رحمهما الله في الخرطوم إبان مؤتمر اللاءات الثلاثة الذي انعقد في شتاء ذلك العام، وعلى الفور ضخّت السعودية مائة مليون دولار للمجهود الحربي المصري، و ضخت مثلها تقريباً كل من الكويت  وأبوظبي ( التي مثلها الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، عندما كانت إمارة، فيما قبل الاتحاد ).
2) وكانت السعودية هي القوة التي أجبرت مجلس الأمن الدولي على التدخل في لبنان لوقف الغزو الإسرائيلي لها عام 1982 والذي أوشك أن يقضي على ياسر عرفات ومنظمة تحريره عن بكرة أبيها؛ وبفضل الوساطة السعودية بالدرجة الأولى توقف الجيش الإسرائيلي عند مشارف بيروت الغربية، معقل "فتح"، و تمكن الوسطاء من إخراج المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين البالغ عددهم خمسة عشر ألفاً ومن توزيعهم بين تونس والسودان وسوريا والأردن.
3) وكانت الوساطة السعودية هي التي جمعت ألأطراف اللبنانية المتحاربة من المسيحيين الموارنة والمسلمين السنة والشيعة والدروز منذ عام 1975، جمعتهم في الطائف عام 1989 وألّفت بين قلوبهم، فخرجوا باتفاقية سلام لا زالت سارية المفعول، (غير أن حزب الله والتدخل الإيراني أوشكا هذه الأيام أن يعودا بلبنان للحرب الأهلية.)
4) وبادرت السعودية برفض الغزو العراقي للكويت فى أغسطس 1990 وتزعمت  الجيوش العربية التي حاربت كتفاً بكتف من القوات الأمريكية والأوروبية حتى تم طرد جيش صدام حسين من الكويت عام 1991م.
5) وظلت السعودية دولة وارفة للاستقرار والسلام مما جعل حركة الحجيج مستمرة منذ الأزل وحتى اليوم، بلا أي مخاطر أمنية تهدد ملايين الحجاج الذين يأتون من كل فج عميق كل عام، بالإضافة للمعتمرين، ولم تحدث أي تفرقة أو عرقلة للقادمين لأداء هذه المناسك. ولك أن تتصور ما كان يحدث لو كان الحج إلى إيران أو إلى العراق أو سوريا أو السودان تحت حكم الإخوان! كما ظلت السعودية تستقطب المهنيين والفنيين والعمال من كل أرجاء الوطن العربي، بغض النظر عن خلفياتهم الإيديلوجية والسياسية، وكذا الحال في باقي الدول العربية الخليجية وعلى رأسها الإمارات العربية المتحدة، حيثوجد السودانيون الفارّون من دكتاتورية البشير وقبلها دكتاتورية النميري، وجدوا ملاذاً آمناً احترم آدميتهم وحفظ لهم كرامتهم ومكنّهم من كسب رزق شريف ومن تنشئة أطفالهم في بيئات عربية مسلمة ومسالمة وبدوية النكهة والسمت.
6) وتصدت السعودية ومعها الإمارات والكويت لدعم الثورة المصرية التي أطاحت بالإخوان المسلمين في 30 يونيو 2013، وضخت هذه الدول الثلاث عشرين مليار دولار للحكومة المصرية خلال العامين المنصرمين، وهذه أريحية لا مثيل لها منذ قديم الزمن؛ وليست المسألة كرم حاتمي ونخوة عربية، ولكن ثمة حسابات سياسية دقيقة وذكاء استراتيجي يهدف لتدعيم المركز المناوئ للمحور الشيعي الإيراني المتحالف مع تنظيم الإخوان المسلمين الدولي؛ ولقد وضح من خلال التحقيقات الأخيرة في البحرين أن إيران ما انفكت تعمل لزعزعة الأنظمة الخليجية، وأنها تعتمد في هذا المسعى على الخلايا الإخوانية والإرهابية النائمة ليس فى البحرين وحدها، إنما بكل دول المنطقة.
7) ولقد ضربت السعودية مثلاً للدول النفطية العربية الأخرى في الوعي واليقظة وفي التمسك بحصتها العادلة والمشروعة من عائدات النفط، وفي الإنضمام لمنظمة أوبك التي كانت ولازالت ترياقاً للأخوات السبع The Seven Sisters، وهي الشركات النفطية الاحتكارية العابرة للحدود التي كانت تتحكم في إنتاج وكوتات وأسعار النفط، وتستحوز على النصيب الأكبر من عائداته. وكانت النتيجة أن الدول النفطية العربية - السعودية والإمارات والكويت والبحرين وقطر وعمان، حققت طفرات تنموية خرافية في زمن قياسي، وأنجزت التوزيع العادل لثرواتها، وفاض خيرها وعم الجيران وأبناء العقيدة والملة، وأصبحت جناناً متلألئة تتوسطها ناطحات سحاب وبنيات تحتية مثالية ومجتمعات رفاهية ورخاء وسؤدد وسعادة، على مرأى من إيران التي  تدفق النفط فيها منذ قرن كامل، ومازالت دولة متخلفة كأفقر بلدان العالم الثالث، ولقد ذهبت مقدّراتها إلى الشركات البريطانية حتى عام 1953، ثم إلى رصيفاتها الأمريكية حتى 1979، وفيما بعد الثورة الإسلامية إلى تدعيم الجيش والحرس الثوري وتوسيع صناعات التسليح وتمويل المشروعات والحملات الرسالية  التي اضطلع بها النظام لنشر الفكر والتآمر الشيعي خارج الحدود، ولتثبيت الأنظمة والمنظمات الأصولية الحليفة، مثل نظام الترابي/ البشير السوداني.

وهنا نأتي لنظام الإخوان المسلمين السوداني الذي أعلن التوبة، وانضم للحلف الذي تقوده السعودية لمكافحة الإرهاب الدولي وتجلياته أينما كانت، بدءاً باليمن. ولانملك إلا أن نتأمل مجدداً فى ما قاله أبو الطيب المتنبي:

      (ومن نكد الدنيا على الحرّ أن يرى​​عدواً له ما من صداقته بد).

وفيما يبدو أن تحولاً ما قد طرأ على الرئيس بشير، ربما تأسياً بالزعيم الراحل إسماعيل الأزهري الذي تحول فجأة بنهاية 1955 من داعية للإتحاد مع مصر إلى مطالب باستقلال السودان، بعد كل تلك الملايين من الجنيهات المصرية التي خاض بها الانتخابات. ويقول مثل أولاد الريف (ألف نطّة ولا واحد بعبوص). وفي السياسة ليست هناك مواقف دائمة، إنما هنالك مصالح تملي الانعطاف يمنة أو يسرة. ولكن السؤال الخطير هو: هل هذا التحول خاص بالرئيس البشير وحده، أم شامل لمجمل تنظيم الإخوان المسلمين السودانيين؟

يقول البعض إن الآخرين لا يساوون شيئاً، فالسلطة الفعلية في يد البشير منفرداً، يعاونه أهله الأقربون وأبناء دفعته بسلاح المظلات مثل بكري نائبه وغيرهم من المدجنين المضمونين وأصحاب المصلحة في بقاء البشير بالسلطة. وهذا قول مرسل على عواهنه وفيه تقليل من حصافة وخبرة تنظيم ظل ممسكاً بجميع مفاصل السلطة لربع قرن من الزمان؛ إن الإخوان المسلمين موجودون، بل محتكرون للمواقع التنفيذية بكل الوزارات والدوائر والمؤسسات، ولن تجد وكيلاً أو مديراً إلا من كوادرهم المعروفة منذ عهد الصبا والدراسة؛ ولم يتبق من ضباط الجيش والأمن إلا منسوبوهم؛ والأجهزة الإعلامية والصحف والمساجد والمعاهد والجامعات ومراكز البحث تعج بالإخوان المسلمين، لحمة وسدى نظام البشير. كل هذه الإعتبارات تشير إلى شيء واحد: لا مفر من انفجار الوضع داخل تنظيم الإخوان السوداني، كما حدث لنظام النميري في يوليو 1971 عندما فتك القوميون العرب بالشيوعيين، وكما حدث بين جماعة عبد الفتاح اسماعيل وعلي ناصر محمد في عدن عام 1986 عندما تقاتل الشيوعيون العدنيون، وسقط الآلاف قتلى وسقط النظام نفسه. وهنالك نذر كثيرة تشير لقرب المواجهة بين فصائل الإخوان المسلمين: الصفوة الإقتصادية المستفيدة من النظام،من جانب، وباقي الإخوان الجالسين على الحواف ومعهم مجمل الشارع السوداني المكتوي بنيران الدكتاتورية  منذ ست وعشرين سنة، من الجانب الآخر.

​بيد أن بعض المراقبين يؤكدون أن البشير لا يستطيع أن يتراجع عن موقفه الجديد الرافض لتنظيم الإخوان والداعي للتعاون الكامل مع المعسكر العربي المعادي لهم، بقيادة السعودية والإمارات ومصر، وإذا بدا منه أي تردد أو خيانة أو اتصال سري مع أصدقائه الإيرانيين، فإن عقوبته في غاية السهولة والمنطقية، وهي تسليمه لمحكمة الجنايات الدولية. فلا مفر أمامه والحالة هذه من التماهي بالتمام والكمال مع هذا الموقف التقدمي الذى وجد نفسه فيه، ومن التخلص من فلول الإخوان الممسكين بدولاب الحكم قبل أن ينقلبوا عليه كما فعل الشهيد هاشم العطا مع النميري في 19 يوليو 1971م. ويعني ذلك بالطبع تغيير التحالفات على جناح السرعة والانفتاح على الأحزاب والقوى الوطنية التي ظلت على الهامش عندما كان الإخوان هم الآمرون والناهون.

آخر الكلم:

​المشكلة الأساسية بالشرق الأوسط هي نظام الملالي الحاكم بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولا مفر من مواجهته (حتى نسدد طعنة للفيل نفسه وليس لظله المبثوث في اليمن وسوريا والعراق والسودان)؛ غير أن ذلك الطعن لا يتم بالطائرات المقاتلة أو بالجيوش العرمرم مهما بلغت من قوة. هنالك "قوة ناعمة" سوف تؤتى أكلها على جناح السرعة، وهي البرامج الإذاعية والتلفازية، وآليات التواصل الاجتماعي، التي تخاطب الكادحين الإيرانيين المغلوبين على أمرهم، بقايا الجبهة الوطنية وحزب تودة والنقابات العمالية التي كانت تزحم الآفاق في أربعينات وخمسينات القرن العشرين. وتقول الحكمة السودانية (إن السفينة إذا غرقت، لا بد أن تطفو منها بعض سلال-قفف)؛ وهنالك ما يشير إلى أن الروح الوطنية للشعب الإيراني ما زالت (تفرفر)، أي بها بقية من نفس، وكثيراً ما تشهد الساحات والجامعات والشوارع الإيرانية حراكات تطالب بالإصلاح وبحقوق المرأة وحرية التعبير. ولقد ظلت إيران بيئة طاردة، مثل السودان خلال ربع القرن الأخير، وقد لاذ الملايين من الفقراء والشغيلة لدول الخليج التي ما برحوا يتسللون إليها عبر الشواطئ المهجورة والسلاسل الجبلية النائية والوعرة؛ وكل هؤلاء يجدون أفضل معاملة من شعوب الخليج باعتبارهم جيران ومسلمين وموضع شفقة ومودة ورحمة؛ وجميع هؤلاء، بالإضافة للسواد الأعظم من الشعب المنتظر بإيران، يشكلون بيئة صالحة وأذناً صاغية لحملة تثقيفية وتعبوية معاكسة لفكر الملالي، تخاطب القضايا الأساسية التي تهم الجماهير، قضايا التقدم الإقتصادي والتحول الإجتماعي، ولقمة العيش وتعليم الأبناء وفرص العمل والطمأنينة والاستقرار، مثل ذلك الذي تنعم به دول الخليج العربية، بعيداً عن التهريج والخطاب المذهبي الملتهب والروح الإسبارتية الشرسة والمشاكسة والعدوانية، وبعيداً عن مماحكة الجيران الذين وصى بهم النبي خيراً، عليه أفضل الصلاة والسلام.والكلمة الطيبة هي التى تبقى فى هذه الفانية، أو كما قال أبو الطيب:

             أبني أبينا نحن أهل منازل                 أبداً غراب البين فيها ينعق

             أين الأكاسرة الجبابرة الألى          كنزوا الكنوز فما بقين وما بقوا

             من كل من ضاق الفضاء بجيشه          حتى ثوى فحواه لحد ضيق

والسلام.


fdil.abbas@gmail.com

 

آراء