“احزنوا على الملكة إليزابيث ولا تحزنوا على إمبراطوريتها!” (١) .. الإرث المظلم للإمبراطورية البريطانية

 


 

 

توطئة:
رحلت إليزابيث الثانية، ملكة بريطانيا، عن عمر عرشويّ يناهز السبعة عقود، وقد باتت أحداث تشييعها معروفة للمليارات من البشر في كل أنحاء الدنيا ذلك بفضل التغطية الإعلامية الواسعة التي صاحبت هذه الأحداث ومن ثمّة البث اللامنقطع لأفلام توثيقية فُصِّلت فيها مسار حياتها، مملكتها وشخصيتها في تلك الحقبة التي تربعت فيها عرش الإمبراطورية البريطانية، التي عُرفت يومًا ما بالإمبراطورية التي "لا تغيب عنها الشمس"، ذلك نظرًا لامتدادها في حيز الأزمنة والأمكنة في سياقها الاستعماري، في العصر الحديث. رأينا وسمعنا كيف خرجت إلى العلن ردود فعل كثيرة للتذكير بالتاريخ الكولونيالي الإنجليزي الذي لطالما اتسم بحسب ما يؤكد المختصون بالوحشية والعنصرية والاستغلال والنهب، وتلك كانت ولا تزال بمنظور اليوم، هي الأرضية المشتركة لمعظم المشاريع الاستعمارية الحديثة والقديمة على حد سواء. فيجب أن نسدل الستار عن هذا التاريخ ونرجح كفة العدل والمساواة في تناول القضايا ذات الحساسية الفائقة عند تقديس الملوك والرؤساء. والتاريخ سائر يكتب كل صغيرة أو كبيرة ولو كره أولئك الذين في أذانهم وقر، ويمكن أن نرجع لآي القرآن لنصفهم بالصم، البكم والعمي، فهل هم يعقلون؟

الملكة بين الحفاظ على الإرث ونبش التاريخ المظلم:
لقد لفت نظري مقالة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" للكاتبة الأمريكية مايا غاسانوف بعنوان: احزنوا على الملكة إليزابيث وليس على إمبراطوريتها! غاسانوف هي دون أدنى شك رائدة من رائدات علم التاريخ، تعمل بجامعة هارفارد، وقد قذفت في هذه المقالة بعبارة جاءت كالرصاصة المدويّة في مضمونها وما تحمله من رسائل ضمنية وعلنية إذ تقول فيما معناه: علينا أن نحزن على موت هذه الملكة التي بقت على عرشها أكثر من سبعين عامًا ولكن لا بد لنا أن نُذكِّر بماض أليم كانت هي أيضًا جزء لا يتجزأ منه، لذلك تقول ضمنيا، يجب أن نحزن على فراقها ولكن ليس على إمبراطوريتها التي لطخت أيديها بالدماء في كل بقاع العالم، التي كانت هي الآمرة والناهية فيها. واسترسلت قائلة في هذا السياق إن عبارة "نهاية حقبة" ستصبح لازمة عندما يقيِّم المعلقون العهد القياسي للملكة إليزابيث الثانية؛ مثل كل الملوك، سواء كانت فردا أو مؤسسة. وهذا بيت القصيد، يعني ألا نفصل الشخص أو الإنسان عما حدث أثناء ملكه أو حكمه، والاصطلاح السياسي هو المسؤولية. وأقول في يا سادتي، يجب علينا، لا سيما في الدول التي كانت مستعمرة من الدول الأوروبية، أن نمحص صفحات التاريخ، إن كان عادلًا في شؤون الملك والحكم أم كان مجحفًا في حقوق تلك الشعوب التي غُلبت على أمرها. بالرغم من أن الملكة إليزابث من الشخصيات التي يعرفها الصغير والكبير في كل أنحاء البريّة، لكن ظلت تلك الشخصية مبهمة غامضة تمامًا على الرأي العام وعلى شعبها أولًا وأخيرًا. كانت إليزابيث الثانية تكاد تكون خالية من المشاعر، وبحكم دستور إمبراطوريتها المناط أيضا خاوية وخالية من كل رأي سياسي في سياق الحكومة البريطانية العام. فلا يعلم البريطانيون حتى الآن عنها الكثير، سوى أنها كانت تحب الكلاب والخيول، وأنها، دون أدنى شك، كانت حريصة كل الحرص على تماسك مقالد ومفاتح الحكم المتعلق بأسرتها المالكة، كيف لا وقد ترعرعت على يد أبيها الملك .... الذي كان يحمل لكل تلك الصفات التي لا تراعي إلا شأن الملك: المملكة ثم المملكة ثم المملكة. ولكن هل يُسكِت هذا الدأب الملتصق بالحفاظ على إرث دام أكثر من ألف سنة تلك الأصوات التي تنادي بحل المملكة وإرساء قواعد جمهورية بريطانية عادلة حقانية تراعي حقوق كل فرد وتتساوى فيها الأنفس كأسنان المشط؟

إذا الشعب يومًا أراد الحياة ...!
على أيّة حال، فإن صمت البعض، فلن يصمت صوت الشعب الذي أراد الحياة ونشد الحريّة، ذلك مهما كلفه ومهما طالت الدهور أو قصرت. لذلك فقد رأينا كيف ازداد ضغط الشعب البريطاني، لا سيما في الآونة الأخيرة، على مملكته وحتى على مؤسساتها في العديد من الشؤون الدولية، وما يخصنا في سياق هذا المقال، هو الضغط الذي انصب عليها، بعد مقتل جورج فلويد ومن ثمّة حيثيات زواج الأمير هاري من السيدة ميغان، ذات الأصول الأفريقية وخروجهما من العش إلى حرية لا تعرف العنصرة أو النظرة الدونية. لقد انطوت هذه الحملات الشعبية والضغوطات الضارية، المبررة، على شحنات ما فتئت أن تزداد يومًا تلو الآخر تهدف لأن تعترف الإمبراطورية جملة وتفصيلًا بتاريخها المظلم في مستعمراتها ولا سيما في القارة الأم "أفريقيا". وذهبت هذه الحملات إلى أبعد من ذلك لتنبش في ماضي العبودية وترحيل الملايين من الأفارقة عبر الممرات المائية، فمنهم من صمد ومنهم من قضى نحبه، وهل من مدكر؟
وقد يجد الباحث الفاحص منّا في هذا التاريخ سلوى فيما ألفته الروائية الأمريكية توني موريسون. فالأدب مرآة للمجتمعات وسيموغراف يرصد كل التحركات الدفينة والتي ربما اغبرّت على مرّ العصور، يسجلها ويرصدها حتى تستوعبها الذاكرة الجمعية للشعوب. كلنا يعلم أن توني موريسون من رائدات الأدب ببلاد العم سام (أو كما يطلق عليها الألمان: بلاد الإمكانيات اللامحدودة، ويطلق عليها الأديب الطيب صالح: بلاد تموت من البرد حيتانها. موريسون أديبة وباحثة من أصول إفريقية حيث أُحضر أجدادها إلى القارة الأمريكية مرغمين عن أنوفهم. ولدت الأديبة في مقاطعة أوهايو في عام 1931 وتعتبر موريسون الكاتبة الأمريكية الوحيدة ذات الأصول الأفريقية التي حازت على جائزة نوبل في الأدب، ذلك في سنة 1993 عن مُجمل أعمالها الخالدة وكما حصلت على جائزة بوليتزر المرموقة عن روايتها "محبوبة" التي تُعد في نظر الكثيرين من النقاد أعظم أعمالها الروائية على الإطلاق. ووصفت بأنها أهم روائية أفريقية في أمريكا كما تعد أول سمراء تحصل على كرسي تدريس في جامعة برينستون، والذي كان حتى بدايتها فيه، محصورًا على الرجال من ذوي البشرة البيضاء. لقد قامت بإصدارات عديدة تزيد على الإحدى عشرة عملًا بين الرواية والقصة من بينها "أكثر العيون زرقة" التي عرّت فيه نظام العبودية وعواقبه الاقتصادية والنفسية الوخيمة في القرن التاسع عشر وما بعده؛ إضافة إلى روايات نشيد سليمان، صولا، وطفل القطران والتي تعتبر في مجملها رصدا لهذا التاريخ المؤلم الذي شاركت فيه الإمبراطورية البريطانية دون أدنى شك. لذلك فنحن على يقين تام بأن الحقيقة ستظهر للعالم، ولن تحجبها أمواج البهرجة والاحتفالات، ولابد لنا أن نتعلم من الاحتفالات، لا سيما في موت الملكة، وأن نقف وقفة صريحة مع النفس وعلى أعتاب التاريخ، وأن نرجع البصر لنرى هل من فطور فيما علمنا إيّاه الاستعمار عن أنفسنا وعن بلادنا وحتى عن حيواتنا. ولذلك يجب أن يكتب التاريخ في نظري من جديد.
والأحداث تعيد نفسها لا التاريخ، فمقتل الشهيد جورج فلويد كان نقطة تحول في الوعي الجمعي للشعوب التي استعمرت واستعبدت على مرّ القرون، ويمكن أن نذكر في هذين السياقين (تظاهرات مقتل جورج فلويد – واحتفالات الملكة وارتفاع الأصوات المنادية بالعدالة) بخطاب الرئيس الأسبق براك أوباما على حسابه وقتئذ بموقع تويتر، حيث قال: "قُتل جورج فلويد منذ عام واحد، ومنذ ذلك الحين، لقى مئات الأمريكيين حتفهم في مواجهات مع الشرطة - آباء وأبناء وبنات وأصدقاء أُخذوا منا في وقت قريب جدًا. بيد أنّ العام الماضي منحنا أيضًا أسبابًا للأمل (والتفاؤل)". وأضاف أوباما قائلاً: "أصبح المزيد من الناس وفي أماكن متعددة بالعالم يرون الأشياء أكثر وضوحًا مما كانوا عليه قبل عام. إنّه (دون أدنى شكّ) تقدير لجميع أولئك الذين قرروا أن تكون هذه المرّة مختلفة عن سابقاتها، وأنهم بطريقتهم الخاصة سيساعدون حتمًا في جعلها مختلفة". وتابع مستطردًا: "عندما يتعمق الظلم، يستغرق التقدم وقتًا. ولكن إذا تمكنا من تحويل الأقوال إلى أفعال والأفعال إلى إصلاح ذي مغزى، فسنتوقف، على حد تعبير جيمس بالدوين، عن الهروب من الواقع ونبدأ في تغييره". وهذه المقولة تنطبق على ما حدث في السودان، وفي بلدان أخرى لا سيما بجنوب أفريقيا العنصرية حيث كانت السلطة حصرية في يد نخبة من بيض البشرة في كيب تاون، وكان التمييز يقوم على أساس عرقي راسخ الجذور.
وأيضًا نجد نفس المنهجية العنصرية في المستعمرات البريطانية في كل أنحاء العالم لا سيما في استراليا لدى سكان أستراليا الأصليين ‏ كما يُعرفون باسم الأبورجيون ‏ وهم الشعوب التي انحدرت من المجموعات التي عاشت في أستراليا وعلى الجزر المحيطة بها قبل حِقبة الاستعمار البريطاني للبلاد. يشمل المصطلح الشعوب الأسترالية الأصلية وسكان جزر مضيق توريس ويُفضل كثير من الناس استعمال مصطلح الشعب الأصلي والجُزُري، أو الأمم الأسترالية الأولى، أو الشعوب الأسترالية الأولى، أو الأستراليون الأولون.

كيف نحزن عليها:
من جهة جسدت الملكة التزاما عميقا وصادقا بواجباتها ونذكر بأن آخر مهمة علنية قامت بها كانت تعيين رئيس وزرائها الخامس عشر - ولأدائها الذي لا يعرف الكلل، ومبرر أن يحزن عليها شعبها إذ كانت عنصرا أساسيا في الاستقرار ببلدها، لا سيما في غضون سنيّ الاقتتال والصراعات في أوروبا النازية، وموتها في هذا الوقت بفترة اتسمت بالحرب الروسية على أوكرانيا وحروب تصدعت بسببها بلدان العرب، جعلتها سندًا لشعبها، ولنذكر الشعب البريطاني أن العالم صار قرية صغيرة فلابد أن نذكر في هذا السياق أيضا تجاهل المملكة للحروب الضارية في اليمن، والسودان، والعراق، وسوريا والتي تظل صور ماثلة أمام وجه الحقيقة المنسية في بلاد العالم المتحضر. نعم، حزن شعبها عليها في هذه الظروف الضارية لا سيما بعد الخروج من المجموعة الأوروبية (بريكست) وبعد أن تدهورت الحالة الاقتصادية بالبلاد، لكن هل يضيرنا ويضيرهم هذا الحزن أن نقف وقفة تأمل مع تاريخيها المظلم من جهة أخرى؟ لذلك لا ينبغي علينا أن نضفي على سيرتها وعصرها المنصرم طابعًا رومانسيًا أو خياليًا لا يمت للحقائق التاريخية بصلة. فالملكة إليزابيث الثانية كانت تمثال لأمة شهدت خلال حكم الإمبراطورية البريطانية تصدع ما يقارب الخمسين دولة، استقلت عن الإمبراطورية الأم مما أثر بشكل سلبي على تأثيرها كقوى ضاربة حول العالم. والكثير من دول الكومنويلث بقوا في هذه المجموعة مرغمين لاستقبال الإعانات المادية والسند السياسي في عالم أصحب فيها الأسياد قلّة، يحكمون البقية الباقية. بينما رفض السودان الانخراط في مجموعة الكومنويلث. وهذا حديث آخر نرجئه للحلقة القادمة من السلسلة. لكن
وبحسب الحسابات البريطانية لجأت فيه الملكة لاسترجاع نوستالجيا عهد المستعمرات وعهد الإمبراطورية الشروع في جمع وضم هذه الأخيرة في بوتقة الكومنويلث، وكان وجودها كرأس للمملكة وبطبيعة الحال كحاكمة وآمرة بنفوذها في دول الكومنولث، وضع غطاء تقليديا جامدا على عقود من الاضطرابات العنيفة والتاريخ الغامض والبائس لها ولمملكتها.
(يتبع)
--

Mohamed@Badawi.de
////////////////////////////

 

آراء