استقالة مولانا الزمراوى ودعوة لإصلاح التشريع قبل القضاء

 


 

 

"الصادقون لا يعرفون التصنع، كلما هموا بالتلون فضحهم بياض قلوبهم" فيكتور هوغو

مولانا عبدالإله الزمراوي زميل مهنة جمعتنا منافى الغربة بمحطة الدوحة قبل أن يغادرنا الي كندا ملتحقاً بأسرته المقيمة هناك.

بعد ثورة ديسمبر عاد الي رحاب الوطن والمهنة قاضياً بالمحكمة العليا وهو الذي أحاله الإنقاذ للصالح العام رفقة ثلة من أشرف وأطهر القضاة وذلك قبل أكثر من ثلاثين عاماً عند بداية عهد التمكين والتوجه الحضارى.

قبل أسبوعين تفاجأنا بإستقالته التي عللها بإستحالة العمل في ظل "دمار شامل للهيئة القضائية" حسب قوله، مقترحاً "الهدم الكامل وإنشاء قضاء جديد علي غرار ما حدث في شيلي بعيد خلع الدكتاتور بيونشيه"

أتفهم جيداً مشاعره المفعمة باليأس ولكن قد لا أشاطره وصف "الدمار الشامل" ولا اقتراح "الهدم الكامل" إذ أن ذلك قد لا يطرح أفقاً عملياً للحل ثم أن الهيئة القضائية ما لا زالت – فى تقديرى - زاخرة بالعديد من القضاة الوطنيين والشرفاء الذين يمكن التعويل عليهم والعمل معاً لإصلاح الحال وما إشادة مولانا الزمرواى بعد استقالته بنزاهة وكفاءة رئيس القضاء الحالي (زميل دراسته) إلا تعزيزاً لذلك.

نعم الهيئة القضائية اليوم – شأنها شأن بقية منظومتنا الحقوقية – طائر كسيح وتعيش ضعفاً فنياً وتدهوراً إدارياً وهو تدهور يصعب النظر إليه بمعزل عن الحالة العامة لمهنة القانون وهذا ما يبنبغى أن نقلق من أجله وأن نسعى لإصلاحه.

على أن هناك جانباً آخر من جوانب القانون يعيش ضموراً مماثلاً إن لم يكن اعمق ولكنه لم يجد بعد الاهتمام الكافي من قبل الزملاء وأعنى تحديداً جانب التشريع أو ما يشار إليه أحياناً بصناعة القانون وإخراج القاعدة القانونية الى حيز الوجود.

لسنا في حاجة لتأكيد أهمية وجود آلية مؤسسية واضحة وموحدة وذات كفاءة مهنية لصياغة التشريعات وذلك لضمان إنتاج قواعد قانونية متناغمة ومنسجمة على امتداد الوطن. هذا تقليد قانوني ثابت في أي دولة محترمة وبديهة لا ينكرها حتى التوم هجو ومجموعتة التي لا تتميز فى شئ سوى التآمر على القانون.

تاريخيا ومن باب النستولوجيا يلزمنا الإشارة الى العهد الذهبي للتشريع في السودان عندما كان يحتفظ كل قانوني في مكتبته بمجلدات قوانين السودان ذات الطباعة الفاخرة والتي تحتوي على كافة القوانين السارية والمصاغة بلغة فنية رفيعة وحين تقرأها يخال إليك أنك أمام عمل من روائع شارلس ديكنز أو فيودور دوستوفسكى.

وراء هذه الثروة التشريعية يأتي ذكر المستر تيرنبل ، أول من تراس قسم التشريع بديوان النائب العام بعد الإستقلال في عهد مولانا أحمد العتبانى ومن بعده مولانا محمد أحمد التجانى والدرديرى الفيل وإدوارد رياض ومولانا عبدالحافظ ولا ننسى أيضاً مولانا مهدى الشريف، عمر أبوبكر، عبدالمنعم النحاس وزكى عبدالرحمن وغيرهم من الرعيل الأول.

منئذ وحتى نهاية التسعينات من القرن الماضي كانت التشريعات تتسم بالوضوح والدقة في الصياغة، متناغمة مع المبادئ القانونية والتشريعات الأخرى مع سلامة فى اللغة وثبات فى المصطلح حتى غدت الجريدة الرسمية – الغازيتة - وثيقة فنية تحرص أرقى كليات القانون في العالم إقتنائها.

من المؤكد أن الضعف الذى حاق جانب التشريع لا يقل باي حال من الأحوال عما لحق بالقضائية ولعل أبرز تجل هي الوثيقة الدستورية التي أدخلتنا هذا النفق المظلم بسبب ضعف صياغتها والمفارقة أن ذات النخب السياسية تفكر حالياً إصدار وثيقة بديلة بذات الأدوات والآليات والمفاهيم وربما الأشخاص.

يكفى أن تنظر للمراسيم والقرارات التي صدرت خلال الفترة الانتقالية لترى بأم عينيك كولاج التشريعات المليئة بأخطاء الصياغة التي تثير من الإشكالات أكثر مما تقدم من معالجات قانونية.

وانا اضطلع بمحض الصدفة علي خطاب صادر من الأمانة العامة لمجلس الوزراء تستوضح فيه من الأمانة العامة لمجلس السيادة تفسيراً لقرارات صادرة من المجلس الأخير بإقالة بعض كبار المسئولين على خليفة إنقلاب 25 نوفمبر.

حزنت أولاً، لأن مجلساً يمثل سيادة الدولة السودانية يقوم بصياغة قرارات مرتبكة وعشوائية وثانياً لأن الأمانة العامة لمجلس الوزراء وهي أعلى سلطة في الخدمة المدنية تجهل الجهة التي ينبغي عليها إصدار مثل هذه الفتاوى.

الطامة الكبرى أن تقرا مذكرة معنونة "لمن يهمهم الأمر" يتضمن قراراً من حاكم إقليم يخول فيها صلاحياته الدستورية لأحد الولاة علماً بأن المذكرة ذاتها تحتاج لمذكرة تفسيرية أو إيضاحية حتى تفهمها.

وبالأمس قرأتم قراراً لوكيل وزارة الثقافة والأعلام يقضى بسحب ترخيص قناة الجزيرة مباشر وشاهدتم مستوى القرار لغة ومضموناً.

حتى النظار والعمد بدأوا فى إصدار توجيهاتم تحت ختم الأدارة الأهلية وباسم مراسيم وقرارات لأن الوالى أو الوزير الذى يشرف عليه لا يعرف معنى هرمية التشريعات ولا الفرق بين المرسوم والأمر والقرار والمنشور والتعميم.

بيت القصيد أن من يقف على أوضاعنا التشريعية منذ بداية الفترة الانتقالية يلحظ بوضوح الفوضى العارمة حيث الخلط بين الأحكام العامة والخاصة وفيما بين النصوص الموضوعية والشكلية بل وحتى مخالفة المعايير المستقرة في صياغة التشريعات لجهة العبارات والكلمات وهيكل التشريع نفسه الى درجة لا يستطيع المتابع التمييز بين الفعل القانوني محل القاعدة والحالة التي ينطبق عليها هذا الفعل أو المخاطب بهذه القاعدة.

اجتر مع زميلي مولانا الزمراوى ألم ومرارة واقعنا القانوني التي هي محصلة خيبات جيلنا وأنتهز هذه المناسبة كى أناشد زملاء المهنة العمل على رفع كفاءة الجانب التشريعي من منظموتنا الحقوقية وإلا ستكون معركتنا مع الإصلاح.خاسرة.خاصة وأن وثيقتنا الدستورية تنتهك فى كل يوم من قبل عسكر ومليشيات وحركات ونخب أقسموا زوراً على أنهم الحماة.

عبدالرحمن حسين دوسة
مستشار قانونى

hatemgader@yahoo.com
//////////////////////////

 

آراء