اسكات المدافع، هل هو نصر مؤقت أم تحول حقيقي؟
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
13 March, 2025
13 March, 2025
في زمن تلاشت فيه الحدود بين العقل والجنون، وسقطت فيه المعايير التي تفصل اليقين عن الوهم، كان هناك رجل أنهكته الحمى، يمشي عاري الجسد، عاد إلى لحظة الميلاد الأولى، بلا ثوب يستره ولا جلابية تقيه نظرات العابرين. وبينما هو على حاله تلك، دخل إلى السوق بخطوات واثقة، فتلقفته ضوضاء الحياة المتدفقة من كل زاوية. المكان نابض بالصخب، حيث تعالت أصوات الباعة وهم يزاوجون بين النداء والإلحاح، بينما تتشابك أصوات الزبائن بين مساومة وتردد. تحاول أن تلتهم الرتابة وتبعث في الأشياء روحاً متجددة. الهواء محمّل بروائح مختلطة، عطر التوابل ورائحة الخبز الطازج هناك، وقف المجنون عند بائع الطواقي، راح يقلبها بين يديه، ببطء العارف الذي ينقّب عن شيء مفقود، أو ربما عن إجابة ضلت طريقها في سراديب الزمن. لم يمر المشهد دون أن يلفت انتباه البائع، الذي ألقى نظرة جانبية على وجهه، داير شنو يا زول؟ بصوت هادئ كأنما يأتي من بُعد سحيق: تقدّم نحو البائع ومدّ يده ليلتقط الطاقية، ثم سأل بصوت خافض، فيه من الجدية ما يكفي لإثارة الفضول: (بكم هذه الطاقية؟) لم يأتِه الجواب على الفور، بل سبقه نوع من الابتسامة التي تحمل أكثر مما تبوح به الكلمات، قال بصوت متمهل، (سيبك من ثمن الطاقية… بس وريني، قروشك داسيها وين؟)
كشعب، نقف أحياناً أمام الأسئلة البسيطة التي تخفي وراءها عُمقاً لا يُستهان به، تماماً كما تساءل ذلك البائع الماكر: فالسؤال لم يكن عن المال فقط، بل عن مكان وجوده. واليوم، نحن بدورنا نردد السؤال ذاته، ولكن بصيغة أخرى: (نحن الحكمة داسنيها وين؟) أين خبأنا ذلك العقل الذي كان يُضيء دروبنا في أحلك اللحظات؟ كيف سمحنا للتخبط أن يحل محل البصيرة، وللفوضى أن تطغى على صوت الحكمة الهادئ؟، كيف فقدنا الاتزان بين الفطرة والوعي، بين العفوية والتدبر، بين الطيبة والذكاء؟
في رحلتي إلى المناطق التي تحررت من قبضة الميليشيا، ترسخت في ذهني قناعة عميقة بأن اختزال المشهد في ميزان النصر والهزيمة العسكرية لا يفي بحقيقة المأساة. فالوطن اليوم ليس مجرد ساحة معركة تحددها خطوط النار والمدافع، بل هو جرح غائر في جسد أمةٍ أرهقتها الحروب، وفتكت بها دوائر الفوضى والاستبداد المتكررة. إن الحروب ليست لحظات عابرة تنتهي بوقف إطلاق النار، بل هي كائنات متجددة، تتغذى على إرث القهر والتهميش، وتعيد إنتاج نفسها من رحم غياب العدالة وانعدام التوافق الوطني. وإذا كان انهيار الدعم السريع يوحي للبعض بقرب انبلاج فجر جديد، فإن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، إذ لا يمكن بناء الاستقرار على أنقاض أزمة لم تُجتث جذورها، ولا يمكن للسلم أن يكون وليد الغلبة وحدها، بل هو ثمرة تصالح وطني عميق، ومشروع يعيد صياغة مفهوم السلطة لا بوصفها مغنماً، بل مسؤولية تُمارس بعدل وإنصاف، في وطن لا يُقصى فيها أحد، ولا يُدار شأنها بمنطق القهر والإكراه. فإن لم تكن المرحلة القادمة ولادة لوعي جديد، فإن ما يُرى اليوم انتصاراً قد لا يكون سوى هدنة لصراع قادم، ويبقى الوطن معلقاً بين ذاكرة الجراح وأشباح الغد، منتظراً يقظة لم تحن بعد.
إن التاريخ لا يرحم أولئك الذين يظنون أن البندقية وحدها تصوغ مصير الأمم، فالنصر الحقيقي ليس في اندحار قوة عسكرية، بل في انكسار الفكر الذي يُنتج الطغيان ويعيد تشكيله بأوجه جديدة. الوطن ليس مجرد ساحة صراع على الحكم، بل مسرحٌ لصراع أعمق على معنى الدولة نفسها، هل تكون وطناً يحتضن الجميع، أم غنيمةً يتنازعها الأقوياء؟ إن الخراب لا يبدأ حين تسقط القذائف، بل حين تسقط الأخلاق والقيم التي تحمي الإنسان من أن يكون وقوداً في أتون الأطماع. وكل حربٍ لا تنجب عدلاً، ستولد صراعاً جديداً، وكل سلطةٍ تُبنى على الغلبة، لا على التوافق، ستظل قلعةً محاصرة، مهما علت أسوارها. لذلك، فإن هزيمة الدعم السريع، مهما بدت فاصلة في المشهد، لن تكون نقطة النهاية، ما لم تتبعها يقظةٌ وطنية تعيد تعريف السلطة باعتبارها مسؤولية لا امتيازاً، وتؤسس لدولةٍ لا تُبنى على أنقاض المغلوبين، بل على مصالحةٍ حقيقية تُطهر الأرض من ميراث القهر والتمييز. وإلا، فإن التاريخ لن يتردد في إعادة المشهد، بوجوه جديدة، وسلاح مختلف، لكن بجراحٍ قد تكون أعمق وأشد خطراً.
إن الاستقرار ليس ظلاً تلقائياً يسقط بمجرد إنتهاء الحرب، بل هو شجرة تحتاج إلى تربة من العدالة، ويسقي بماء التوافق الوطني، ويتنسم هواء الحرية، فإن لم يتوفر لها ذلك، ستبقى حرب اليوم مولود صراع الغد، ، وكأنه يعيد نسج ذاته بأقنعة جديدة، تخفي المأساة ذاتها في ثوب مختلف، بينما يبقى الجوهر عالقاً في دوامة لا تنتهي تتغير الأسماء، وتتلون الشعارات، لكن الدائرة تظل مغلقة، كرقصة أزلية على إيقاع التكرار. يعيد التاريخ تشكيل ملامحه بأقنعة جديدة، تخدع البصر للحظة، لكن جوهر المأساة يبقى ثابتاً، كقدر يأبى أن ينكسر، وكأن الزمن يدور لا ليمضي، بل ليعود إلى النقطة ذاتها في مسرح بلا نهاية.
إن الأوطان لا تُبنى على ركام الحروب، ولا تُصاغ هويتها في ساحات الوغى، بل تنبع من وعي أبنائها بأن الدم لا يكون أبداً ثمناً مشروعاً للسلطة، وأن الاستقرار لا يولد من انتصار القوة، بل من انتصار العدالة. فالمرحلة القادمة لا ينبغي أن تكون فصلاً جديداً في كتاب الصراع، بل بداية لكتابة تاريخ مختلف، حيث يكون السودان وطناً يسع الكل، لا ساحةً يتنازعها المتغلبون. إن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُحقق على جبهات الوعي، حين يدرك الجميع أن الوطن ليس كياناً يُختزل في راية فصيل أو في حدود سلطة، بل هو عقدٌ اجتماعي، أخلاقي وسياسي يُبنى على شراكة عادلة، لا يُقصى فيها أحد، ولا يُستبد فيها بفئة على حساب أخرى. فإن لم يخرج السودان من هذا المخاض برؤية تنبذ منطق الغلبة وتؤسس لدولة العدل، فسيظل أسيراً لدورة أزماته، يتقدم خطوة ليتراجع خطوتين، يقترب من النور، ثم يسقط مجدداً في ظلال الفوضى، متأرجحاً على حافة التاريخ، بلا يقينٍ ولا أمان.
abudafair@hotmail.com.
كشعب، نقف أحياناً أمام الأسئلة البسيطة التي تخفي وراءها عُمقاً لا يُستهان به، تماماً كما تساءل ذلك البائع الماكر: فالسؤال لم يكن عن المال فقط، بل عن مكان وجوده. واليوم، نحن بدورنا نردد السؤال ذاته، ولكن بصيغة أخرى: (نحن الحكمة داسنيها وين؟) أين خبأنا ذلك العقل الذي كان يُضيء دروبنا في أحلك اللحظات؟ كيف سمحنا للتخبط أن يحل محل البصيرة، وللفوضى أن تطغى على صوت الحكمة الهادئ؟، كيف فقدنا الاتزان بين الفطرة والوعي، بين العفوية والتدبر، بين الطيبة والذكاء؟
في رحلتي إلى المناطق التي تحررت من قبضة الميليشيا، ترسخت في ذهني قناعة عميقة بأن اختزال المشهد في ميزان النصر والهزيمة العسكرية لا يفي بحقيقة المأساة. فالوطن اليوم ليس مجرد ساحة معركة تحددها خطوط النار والمدافع، بل هو جرح غائر في جسد أمةٍ أرهقتها الحروب، وفتكت بها دوائر الفوضى والاستبداد المتكررة. إن الحروب ليست لحظات عابرة تنتهي بوقف إطلاق النار، بل هي كائنات متجددة، تتغذى على إرث القهر والتهميش، وتعيد إنتاج نفسها من رحم غياب العدالة وانعدام التوافق الوطني. وإذا كان انهيار الدعم السريع يوحي للبعض بقرب انبلاج فجر جديد، فإن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك، إذ لا يمكن بناء الاستقرار على أنقاض أزمة لم تُجتث جذورها، ولا يمكن للسلم أن يكون وليد الغلبة وحدها، بل هو ثمرة تصالح وطني عميق، ومشروع يعيد صياغة مفهوم السلطة لا بوصفها مغنماً، بل مسؤولية تُمارس بعدل وإنصاف، في وطن لا يُقصى فيها أحد، ولا يُدار شأنها بمنطق القهر والإكراه. فإن لم تكن المرحلة القادمة ولادة لوعي جديد، فإن ما يُرى اليوم انتصاراً قد لا يكون سوى هدنة لصراع قادم، ويبقى الوطن معلقاً بين ذاكرة الجراح وأشباح الغد، منتظراً يقظة لم تحن بعد.
إن التاريخ لا يرحم أولئك الذين يظنون أن البندقية وحدها تصوغ مصير الأمم، فالنصر الحقيقي ليس في اندحار قوة عسكرية، بل في انكسار الفكر الذي يُنتج الطغيان ويعيد تشكيله بأوجه جديدة. الوطن ليس مجرد ساحة صراع على الحكم، بل مسرحٌ لصراع أعمق على معنى الدولة نفسها، هل تكون وطناً يحتضن الجميع، أم غنيمةً يتنازعها الأقوياء؟ إن الخراب لا يبدأ حين تسقط القذائف، بل حين تسقط الأخلاق والقيم التي تحمي الإنسان من أن يكون وقوداً في أتون الأطماع. وكل حربٍ لا تنجب عدلاً، ستولد صراعاً جديداً، وكل سلطةٍ تُبنى على الغلبة، لا على التوافق، ستظل قلعةً محاصرة، مهما علت أسوارها. لذلك، فإن هزيمة الدعم السريع، مهما بدت فاصلة في المشهد، لن تكون نقطة النهاية، ما لم تتبعها يقظةٌ وطنية تعيد تعريف السلطة باعتبارها مسؤولية لا امتيازاً، وتؤسس لدولةٍ لا تُبنى على أنقاض المغلوبين، بل على مصالحةٍ حقيقية تُطهر الأرض من ميراث القهر والتمييز. وإلا، فإن التاريخ لن يتردد في إعادة المشهد، بوجوه جديدة، وسلاح مختلف، لكن بجراحٍ قد تكون أعمق وأشد خطراً.
إن الاستقرار ليس ظلاً تلقائياً يسقط بمجرد إنتهاء الحرب، بل هو شجرة تحتاج إلى تربة من العدالة، ويسقي بماء التوافق الوطني، ويتنسم هواء الحرية، فإن لم يتوفر لها ذلك، ستبقى حرب اليوم مولود صراع الغد، ، وكأنه يعيد نسج ذاته بأقنعة جديدة، تخفي المأساة ذاتها في ثوب مختلف، بينما يبقى الجوهر عالقاً في دوامة لا تنتهي تتغير الأسماء، وتتلون الشعارات، لكن الدائرة تظل مغلقة، كرقصة أزلية على إيقاع التكرار. يعيد التاريخ تشكيل ملامحه بأقنعة جديدة، تخدع البصر للحظة، لكن جوهر المأساة يبقى ثابتاً، كقدر يأبى أن ينكسر، وكأن الزمن يدور لا ليمضي، بل ليعود إلى النقطة ذاتها في مسرح بلا نهاية.
إن الأوطان لا تُبنى على ركام الحروب، ولا تُصاغ هويتها في ساحات الوغى، بل تنبع من وعي أبنائها بأن الدم لا يكون أبداً ثمناً مشروعاً للسلطة، وأن الاستقرار لا يولد من انتصار القوة، بل من انتصار العدالة. فالمرحلة القادمة لا ينبغي أن تكون فصلاً جديداً في كتاب الصراع، بل بداية لكتابة تاريخ مختلف، حيث يكون السودان وطناً يسع الكل، لا ساحةً يتنازعها المتغلبون. إن أعظم الانتصارات هي تلك التي تُحقق على جبهات الوعي، حين يدرك الجميع أن الوطن ليس كياناً يُختزل في راية فصيل أو في حدود سلطة، بل هو عقدٌ اجتماعي، أخلاقي وسياسي يُبنى على شراكة عادلة، لا يُقصى فيها أحد، ولا يُستبد فيها بفئة على حساب أخرى. فإن لم يخرج السودان من هذا المخاض برؤية تنبذ منطق الغلبة وتؤسس لدولة العدل، فسيظل أسيراً لدورة أزماته، يتقدم خطوة ليتراجع خطوتين، يقترب من النور، ثم يسقط مجدداً في ظلال الفوضى، متأرجحاً على حافة التاريخ، بلا يقينٍ ولا أمان.
abudafair@hotmail.com.