اطلاق عملية تجديد واعادة بناء الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال .. ورقة مقدمة من/ مالك عقار اير نقانيوفا

 


 

 


مالك عقار اير نقانيوفا
رئيس الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال
سبتمبر 2017م

تجسير وربط الماضي بالحاضر
اطلاق عملية تجديد و اعادة بناء الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال

مالك عقار اير نقانيوفا
رئيس الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال
سبتمبر 2017م

"يجب امتلاك مقاربة جديدة لمشاكل السودانيين، اذا كان يراد للسودان الا يستمر في انزلاقه نحو مزيد من الاضعاف و التفتيت. هذا بالضبط ما تقاتل من أجلة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال، و الذي ستواصل في الكفاح من أجله بالرغم من الانقلابات و الانشقاقات."
الاقتباس أعلاه كان جزءً من خلاصة و خاتمة مقالي المنشور بتاريخ 30 أغسطس 2017م، تحت عنوان: " انقسامات حركات التحرر السودانية وأسئلة المستقبل: اختلاف الشخصيات وتطابق الحمض النووي." و بينما كان ذلك المقال يستهدف مخاطبة متلقين مختلفين سودانيين و غير سودانيين، تستهدف هذه الوثيقة النقاشات الداخلية بين كوادر الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال، أعضائها، شركائها و حلفائها. تأتي الوثيقة كجزء من عملية تطوير هذه المقاربة الجديدة معا للتحديات الراهنة للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال و أزمات السودان المعقدة. هذه الوثيقة تعتبر بمثابة تكملة لذلك المقال السابق، بما أنها ترتفع بالنقاش لمستوى آخر مختلف من خلال محاولتها صياغة الاطار العام لعملية تجديد و اعادة بناء الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. "تجسير و ربط الماضي بالحاضر" يعتبر تحديا رئيسيا تواجهه الحركة بعد الانقلاب الداخلي و الانقسام الذي شهدته، و الذي قمت بالقاء الضوء سابقا (في المقال المشار اليه بعاليه) على الدروس المستفادة منه و سرد مكوناته و عناصره التاريخية و المعاصرة. أحد الدروس الرئيسية التي تعلمناها هو أنه يجب أن تكون هناك جهود و مناقشات ديمقراطية و عميقة تطرح الأسئلة الصحيحة من أجل الاعداد الجيد للمستقبل. لا تدعي هذه الوثيقة قدرتها على مخاطبة و الاجابة على جميع الأسئلة الضاغطة و المستقبلية. لكنها مع ذلك، تمثل بداية لتحديد الركائز و الاطار العام الذي سيتم من خلاله تطوير وثائق أخرى و اجراء نقاشات بما يمكننا من تجسير و ربط الماضي بالمستقبل.
الوثائق التالية هي من بين الوثائق التي ستلي و تستكمل هذه الورقة:
• برنامج للحكم المستقبلي – خارطة طريق الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال للانتقال: وثيقة شاملة ظلت الحركة تعمل عليها مع بعض الخبراء السودانيين المختارين، و هي تغطي كافة القضايا الرئيسية ما بعد الانتقال للسلام و الديمقراطية. تغطي الوثيقة، والتي هي في المراحل الختامية لاكتمالها، سبع مجموعات (الحكم، الأمن، الثقافة، الدين و الدولة، الاقتصاد، القضاء و السياسة الخارجية)؛
• المسودة الشاملة المقدمة من الأمين العام للحركة حول "الميلاد الثاني للحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال"؛
• مانفيستو الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال: هو الوثيقة العليا في الحركة، التي تحدد و تفصل الرؤية، الأهداف، الوسائل،المؤسسات و الخطوط العريضة للبرنامج السياسي البديل. تم الشروع في خطوات للوصول الى وثيقة نهائية لمانفيستو الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال بالاستناد على مانيفيستو الحركة الشعبية لتحرير السودان لعام 2008م، و الذي هو نسخة مجددة لمانفيستو 1983م، و على مسودة لجنة دكتور الواثق كمير لعام 2011م و المسودة التي اعدها رئيس الحركة عام 2015م.
وبينما مسودات هذه الوثائق الرئيسية جاهزة تقريبا للشروع في نقاش منهجي داخلي، سيتم تطوير أخريات من خلال النقاشات نفسها. عملية النقاشات سوف تكون محكومة بأهداف، آليات و جدول زمني محدد لجهة الوصول الى، و في نهاية المطاف خدمة مهمة تجديد و اعادة بناء الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال. الوثيقة تستهدف لذلك رسم الاطار العام و أسس المنهج و كذلك القضايا الرئيسية التي نرمي لمخاطبتها بنهاية العملية. في هذه الوثيقة بالذات، سوف القي بعض الضوء على القضايا التالية، آملا في أن تساعد في اثراء النقاش حول تجديد و اعادة بناء الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال:
1. أهداف و رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال
2. سؤال الأديان و الهوية
3. الكفاح المسلح و الجيش الشعبي لتحرير السودان – شمال
4. المفاوضات و المحادثات السلمية
5. التحالفات السياسية
6. عملية صنع القرار
قد تتضمن عملية مخاطبة هذا القضايا الست شيئا من التكرار لبعض ما ورد في السرد الذي سبق و قدمته في المقال المنشور: "الانقسامات في حركات التحرر السودانية و أسئلة المستقبل." قصدت اعادة ايراد هذه الأجزاء هنا لخدمة أغراض اثراء الفهم و المناقشات الداخلية. لقد تعمدت بالطبع جعل المخاطبين بهذه الوثيقة أكثر قربا من الأسباب التي تقف خلف سير الأحداث التي شكلت عملية صناعة بعض القرارات و تكوين بعض المؤسسات. إستدعاء بعض من ذلك السرد سيساعد أيضا جهودنا المستقبلية لمواجهة حالات التوهان، عدم وضوح الرؤية و الضعف التي وسمت اللحظة السياسية التاريخية الراهنة على مستوى الحركة و كذلك على الصعيدين السوداني و الدولي.
أهداف و رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال
جاء الدكتور جون قرنق دي مبيور مؤسس الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان برؤية الحركة و أهدافها الاستراتيجية في مايو 1983م. حددت أهداف الحركة بجلاء مفهوم "السودان الجديد" كرؤية لكفاح الحركة. تمتد جذور رؤية السودان الجديد عميقا نحو تحقيق المواطنة المتساوية و العدالة الاجتماعية. هاتان الدعامتان الأساسيتان لرؤية الحركة يمكن تحقيقهما فقط من خلال الكفاح المستمر والقتال ضد التمييز، سواء استند على الثقافة، الاثنية، الطبقة، الجندر، العرق، الدين، درجة التطور، او الانتماء السياسي. تهدف رؤية السودان الجديد أيضا الى مخاطبة و الاجابة على السؤال التاريخي المتعلق بالعلاقة بين المركز و الهامش في السودان. هذه هي رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال كما صاغها الشهيد د. جون قرنق مؤسس الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان، و التي ستظل الأمل الوحيد لحلحلة أزمات السودان المعقدة و المتعددة. إنها الرؤية التي ظلت تكافح و تعارض رؤية السودان القديم (الرؤية العربو-اسلامية) التي انتجت التهميش و الظلم. لقد ولدت رؤية السودان الجديد واستمرت من أجل تفكيك رؤية السودان القديم.
ظلت الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان على الدوام، في فترات السلم و الحرب، تعمل على تجديد و تحقيق رؤيتها للسودان الجديد و أهدافها من خلال تبني المناهج و المقاربات الملائمة لمواجهة مختلف جوانب أزمات السودان؛ سواء فيما يتعلق بنظام الحكم، طبيعة الدولة، الاقتصاد و التطور المتكافيء، التعليم و المناهج، قضايا الأرض، الثقافة و بناء الهوية، قسمة السلطة، قسمة الثروة، العلاقة بين الدين و السياسة، اللغات، وثيقة الحقوق، قطاع الأمن و تنفيذ القانون، او الدستور والقانون. هذه القضايا التي تمثل الأسباب الجذرية لمشاكل السودان التاريخية، كانت و ماتزال تشكل مركز رؤية الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال و تفكيرها، حتى في الفترات التي كانت فيها الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان يواجهان التحدي المضاعف المتمثل في التصدي لعدوان النظام و في ذات الوقت تطوير الأسس الفكرية و السياسية للحركة. خارطة طريق الحركة للانتقال هي احدى المحاولات الرامية لمركزة و تأسيس هذه القضايا حول رؤيتنا و أهدافنا. مسودة المجموعة الخاصة بخارطة طريق الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال للانتقال سوف تكون من بين الوثائق الرئيسية المطروحة للنقاش و لاغناء هدف تجديد أهداف و رؤية الحركة.
النقاش حول هذه الرؤية يجب أن يضع أيضا في الاعتبار و يخاطب أولئك الذين استمروا يتعاطون مع رؤية السودان الجديد بغيرة او بعداوة على السواء. متجاهلين طبيعتها القابلة للتجدد، يزعم بعض الأفراد، القيادات، الدارسون عدم وضوح رؤية السودان الجديد. استمر هولاء في محاولاتهم لاعطاء معنى جديدا لرؤية السودان الجديد، و ابعادها عن سياقها، تاريخها و أهدافها، و ذلك لتحقيق غايات و أهداف المؤسسات و التنظيمات التي ينتمون اليها او مصالحهم الشخصية. أولئك الذين استمروا ينظرون لرؤية السودان الجديد بشيء من الغيرة و العداوة يشملون أيضا القوميين الاثنيين و الاقليميين الذين ظلوا يعملون على اضعاف هذه الرؤية. هناك سرد تفصيلي عن هذه المجموعة تضمنه مقالي المنشور: "الانقسامات في حركات التحرر السودانية و أسئلة المستقبل"، والذي ناقش بشيء من التفصيل دور هذه المجموعة في الانقلابات الداخلية والانقسامات التي شهدتها الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان. المجموعة الثالثة التي ظلت تواجه رؤية السودان الجديد بعداء مستمر تتكون بالطبع من أولئك الذين يومنون برؤية السودان القديم و يدافعون عنها.
السؤال الذي يطرح نفسه في ختام و خلاصة هذه الفصل، و كذلك لمصلحة النقاش المستقبلي هو: كيف يمكن لرؤية متجددة للسودان الجديد أن تحافظ على وجودها وستمرارها مع قدرتها على التجدد؟ و كيف يمكنها ان تمتد وتصل المجتمعات السودانية المختلفة، المجموعات والأفراد، خصوصا أولئك الذين يدعمون الرؤية و الأهداف؟ و كيف يمكن لرؤية السودان الجديد أن تجد مكانا في داخلها لأولئك الذين يواجهونها بالغيرة والعداء.
سؤال الأديان و الهوية
يشكل السودان مثالا لسجن مفتوح للقوميات، يصعب وصفة بأنه أمة. هو عبارة عن جغرافية متنوعة تحفل بالعديد من المحددات المختلفة اقتصاديا، اثنيا، دينيا، ثقافيا و لغويا. هذه الطبيعة المتنوعة ظلت تعاني من سوء الادارة و التجاهل من قبل الحكومات الوطنية المتعاقبة قبل و بعد استقلال القطر، وذلك من خلال تبني قوانين، سياسات، و ممارسات تدعم تعزيز محددات العروبة و الاسلام. مشكلة السودان تعتبر ناتجة عن تبني هوية مزيفة، وان كل المظالم الاجتماعية البادية للعيان التي حدثت هي تجليات واضحة لهذه المشكلة الأساسية. هذه المشكلة الرئيسية تم تشفيرها و تخفت خلف الأعراض الظاهرة للتهميش و التحديات التنموية الاجتماعية و الاقتصادية للحكم، وقسمة السلطة و الثروة. تعتبر أزمة الهوية من بين الأسباب الرئيسية للنزاعات في هوامش السودان و التي قادت الى التجارب المظلمة لارتكاب جرائم الابادة الجماعية ضد غير العرب، غير المسلمين من السودانين و المسلمين على السواء. كذلك تعتبر احد أهم العوامل التي قادت الى فصل الجنوب، و مع ذلك لم يحسم الانفصال سؤال الهوية و العلاقة بين الدين و الدولة في السودان. تم اخضاع السودان، في حقيقة الأمر، لاستعمار وهيمنة داخليين، نتجا عن الفصل العنصري (الأبارتيد) المزدوج القائم على الاثنية و الدين معا. لقد ثبت عمليا ان محاولات الاستيعاب و الهيمنة الثقافية وفرض الاسلام كدين للدولة و العربية كلغة رئيسية لا يمكن تحقيقها باستخدام القوة، حيث تنهض الحروب المستمرة كدليل ناصع على فشل هذا النهج و هذا المشروع. في كل حروب السودان، اذا سالت مقاتل عادي عن من يقاتل، فسوف يجيب بتلقائية: "نحن نقاتل الجلابة..العرب." عملية حلحلة هذه الورطة المزدوجة يجب أن تحفظ بعناية التوازن المطلوب ما بين تمكين المضطهد (بفتح الهاء)، ولكن في ذات الوقت تحاشي ان يتحول هو نفسه الى مضطهد (بكسر الهاء). و قد حاولت اتفاقية السلام الشاملة أن تخاطب هذه المشكلة المتعلقة بالهوية الوطنية المشوهة و المزيفة في السودان من خلال الدستور الانتقالي لسنة 2005م. وقد شمل ذلك النصوص الخاصة بوثيقة الحقوق، الخطوات الإتفاقية و السياسات و الدعم المالي، الحكم الذاتي النسبي للاقاليم المتضررة من الحرب، التراضي حول وضعية العاصمة القومية و كذلك العلاقة بين الدولة و الدين.
كل هذه الجهود كانت تجد اساسها في المقولة التاريخية للشهيد دكتور جون قرنق: " العروبة والاسلام لا يمكنهما لوحدهما توحيد السودان. الافريقانية و المسيحية المناهضان للاسلاموية و العروبة لا يمكنهما توحيدنا. السودانوية و حدها هي التي يمكنها توحيدنا." لكن بعد فشل اتفاقية السلام الشاملة في ان تجلب سلاما دائما و استقرارا للسودان، سوف تظل الاقاليم المهمشة غير العربية، المسلمين و غير المسلمين السودانيين ضحايا او ضحايا محتملين للاطار المشوه و التمييزي للهوية الوطنية الذي سوف يؤدي الى استمرار النزاعات في القطر. لهذا السبب، تظل السودانوية و سوف تستمر في أن تكون هي الحل الوحيد لمشكلة الهوية الوطنية في السودان. لكن يتوجب علينا أيضا ان نعطي بعض الوقت و الجهد لتعريف أساسيات و مكونات السودانوية. نحتاج الى اعادة التفكير في العناصر الايجابية و تلك غير العملية لاتفاقية السلام الشاملة و التي قصد منها الاجابة على سؤال الهوية الوطنية، و حقوق السودانيين غير العرب و غير المسلمين.
ما هي مكونات و عناصر المواطنة المتساوية و العدالة الاجتماعية التي كنا و ما نزال نتحدث عنها؟ ما هي الترتيبات الدستورية و التشريعية المطلوبة التي نعمل من أجلها خلال اي فترة انتقالية و وصولا الى سلام عادل و دائم و تحول ديمقراطي كامل؟ نحتاج أيضا ان نكون شجعان و نحن نجيب على سؤال العلاقة بين الدين و السياسة و/أو الدولة باعتباره مكونا مركزيا لهذه الهوية السودانوية. أهي العلمانية؟ أم الدولة المدنية؟ و ما هو الفرق بين الاثنين؟ ينادي البعض بالفصل الكامل بين مؤسسات الدولة و المؤسسات الدينية. هل يتعلق الأمر فقط بالمؤسسات؟ كيف يمكن للدولة أن تضمن عدم استغلال الدين لتحقيق أغراض سياسية، او أن يستخدم كآلية للتمييز بين المواطنين من خلال التشريعات التي تنتهك المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الانسان. هناك أيضا أسئلة محددة تحتاج لاجابات واضحة لقضايا مثل التمييز المزدوج ضد السودانيين غير المسلمين، الموقف من قضية الردة و حرية الاعتقاد و الضمير، كرامة و حريات النساء السودانيات، القضايا المتعلقة بالتطرف و الارهاب..الخ.
بالاضافة الى العوامل الخاصة بالعدالة بالاجتماعية و المواطنة المتساوية المتعلقة بالاجابة سؤال الهوية و الدين، من الأهمية أيضا النظر الى الابعاد المتعلقة بالحكم في هذه الأسئلة. على وجه الخصوص، الشيء الذي يتوجب فعله لمخاطبة رغبات و مطالب المجموعات الاثنية و الاقليمية في الحكم الذاتي، تقرير المصير و/او الاستقلال الذاتي ضد هيمنة النخبة الحاكمة المسيطرة و المتحكمة في السلطة و الموارد في المركز. هل نظام الحكم غير المركزي الذي اشرت اليه والذي تسيطر فيه الحكومة المركزية فقط على العاصمة، العلم، السيادة الدولية و الدفاع يمكن ان يشكل الخيار الصحيح؟ السودان ظل ينظر اليه من ناحية نظرية كدولة لا مركزية او كنظام حكم فدرالي، لكن التجربة العملية ظلت تثبت العكس. ما هو النظام الفدرالي و/أو النظام اللامركزي الذي يمكن ان يجيب بطريقة بناءة و ايجابية على سؤال الهوية و مكوناته المتعددة؟ و لقد خبرت بنفسي وهم هذه اللامركزية المدعاة عندما كنت حاكما على اقليم النيل الأزرق و ادركت الصورة الزائفة لسلطة صفارات الموكب و العلم، من دون أي سلطات و صلاحيات حقيقية. لذلك يجب مناقشة و الاجابة على كل هذه الأسئلة الخاصة بالهوية و الدين بطريقة تراعي خصوصياتها و النظر اليها كجزء من السؤال الأكبر المتعلق بكيف يحكم السودان؟

الكفاح المسلح والجيش الشعبي لتحري السودان - شمال
هل الجيش الشعبي لتحرير السودان - شمال حقيقة واقعة أم هو مجرد سراب؟ وللاجابة على هذا السؤال بشكل صحيح من المهم ابراز وتوضيح الاسباب التي أدت إلى ظهور الجيش الشعبي وتكوينه منذ نشأته في العام 1983. وليس الهدف من وراء هذا الجزء من هذه الدراسة هو مناقشة فلسفة التحرير ولا حتى لماذا كان الكفاح المسلح وما يزال يمثل إحدى الوسائل لتحقيق رؤية السودان الجديد. فبالفعل قدم التاريخ القديم والمعاصر للحركة الشعبية إجابات حول فلسفة التحرير بما في ذلك رؤية السودان الجديد. يؤرخ شهر مايو من العام 1983 لميلاد الجيش الشعبي لتحرير السودان على اثر تمرد الكتيبتين 104 و105 في كل من بور وأيوت في جنوب السودان. وبعيداً عن البرنامج السياسي والأهداف، والتي تم تطويرها في وقت لاحق، إلا أن هنالك أسباب مختلفة أدت إلى تمرد تلك الكتيبتين. وتشمل هذه الأسباب، من بين أسباب أخرى، ممارسات وآداء القيادات العسكرية على المستويات المحلية، ودمج قوات الأنانيا، ونشر وإعادة نشر القوات في جنوب السودان.
بعد تمرد الكتيبتين 104 و105 تبع ذلك تطوير الأجندة السياسية للحركة الشعبية وهيكلتها بشكل تنظيمي كما تم توجيه الدعوة للمجتمعات المحلية في جنوب السودان للانضمام إلى الحركة. ولقد استجابت المجتمعات المحلية في جنوب السودان إلى ذلك النداء من الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، غير أن كل مجموعة كانت مدفوعة باسباب مختلفة للحصول على السلاح وحمله والانخراط في النضال المسلح. إلا أن الجميع كانوا قد اتفقوا على سبب واحد وهو الحصول على سلاح الجيش الشعبي لتحرير السودان للتصدي للمهددات الأمنية التي تواجه قبائلهم. ولقد تجلى ذلك في عدة نماذج من بينها مثلاً أن دينكا بور رأوا في الدعوة إلى حمل السلاح فرصة ستمكنهم من توفير الحماية لمواشيهم واعادة أطفالهم من غزاة قبيلة المورلي. لكن وعندما وصل مقاتلو دينكا بور إلى معسكرات التدريب وجدوا مقاتلي المورلي قد وصلوا قبلهم يبحثون عن السلاح أيضاً لتعزيز غزواتهم ضد الدينكا والنوير. كما جاء شباب النوير أيضاً للحصول على السلاح لحماية أنفسهم من المورلي ولتعزيز قدراتهم لمداهمة مواشي الدينكا. أما دينكا بحر الغزال من جانبهم فقد استجابوا لنداء الجيش الشعبي وجاؤوا إلى التدريب العسكري للحصول على السلاح لحماية أنفسهم ضد قبائل المراحيل (العرب الرٌّحل من المسيرية والحمر والرزيقات، إلخ). ولقد وجدوا في مراكز التدريب، ولسوء حظهم رحمة رحومة والمئات من مقاتلي المسيرية قد وصلوا فعلاً اليها قبلهم. وقد انضمت أيضاً قبيلة تبوسا من شرق الاستوائية إلى التدريب العسكري حتى يتمكنوا من مهاجمة قبائل التوركانا والكورمونجوانج في كل من يوغندا وكينيا وللتصدي لقبائل الديدينغا واللوتهو في مناطق توريت وكذلك لقبائل اللوتو واللوكورو والمنداري.
إذن، لقد جاء المقاتلون من المناطق الثلاث في بحر الغزال وأعالي النيل وشرق الاستوائية والتحقوا بالجيش الشعبي لأسباب مماثلة، على الرغم من أن كل مجموعة كانت تسعى لتحقيق مصالح مختلفة لكل مجموعة على حدا. فمن جانبهم استجاب المقاتلون من شرق الاستوائية للتعبئة السياسية لنخبهم الذين كانوا يفكرون في مستقبل منطقتهم في ظل الصراع السياسي في جنوب السودان وتخوفهم من سيطرة القبائل الأخرى والتي من الممكن أن تعمل على تهميشهم. انضمت منطقتا النيل الأزرق وجبال النوبة إلى الكفاح المسلح ومضتا إلى التدريب العسكري مدفوعتين بدوافع التهميش وحرمان الحكومات في الخرطوم لهم من حقوقهم. ولقد تم الحشد السياسي للمقاتلين من جبال النوبة بواسطة تنظيم الكومولو والذي كان يقود مقاومة سياسية طويلة ضد الانظمة المختلفة في المركز. جاء المقاتلون من النيل الأزرق والتحقوا بالجيش الشعبي على ذات الأساس، أي التهميش بواسطة المركز، لكنهم كانوا أيضاً مدفوعين بالاستيلاء على الأراضي واستغلالها بواسطة الحكومات المركزية وبعض المستثمرين من القطاع الخاص. أما أولئك الذين ينتمون إلى الجزء الجنوبي للنيل الأزرق فقد جاءوا مدفوعين بانتماءاتهم الدينية والتمييز الذي تمارسه عليهم الأنظمة في الخرطوم.
تلك كانت هي الصورة عندما بدأ الجيش الشعبي لتحرير السودان في التشكل، فكل مجموعة كانت تنضم إلى الكفاح المسلح من أجل الدفاع عن مصالحها الخاصة ولأسباب خاصة بها. وتعكس هذه الصورة إلى أي مدىً كان مقاتلو الجيش الشعبي غير متجانسين ومتنوعين، دون رؤية سياسية موحدة أو هدف سياسي موحد، وتعكس أيضاً كيف ظل هذا الزخم البنيوي والتأسيسي يشكل الحركة طوال تجربة الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان.
كان الزعيم المؤسس، الراحل الدكتور جون قرنق دي مابيور على دراية كاملة بهذه الخلفية، لذلك فانه جعل تأسيس الجيش الشعبي وتطوره مشروطاً بان تخضع المجموعات والأفراد التي تلتحق بالجيش الشعبي إلى تدريب عسكري موحد وأن تتقيد بالقانون العسكري والانضباط والتسلسل الهرمي، وذلك بغض النظر عن الخلفيات السياسية والجغرافية والقبلية. فقد كان بوسعك أن تجد في وحدة عسكرية واحدة مسئول تنفيذي رفيع المستوى سابق ومزارع وطالب وسياسي وأحد أفراد البدو الرحل ومعلم وجندي سابق وزعيم قبلي، الخ. فقد جاءوا من جميع الأركان موحدين مع بعضهم في تشكيل عسكري منضبطين برتب عسكرية والأقدمية في الجيش، ولعل تلك هي الكيفية التي ولدت بها الشرعية العسكرية داخل الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان.
في مقالتي المنشورة تحت عنوان "الانقاسمات في حركات التحرر السودانية وأسئلة المستقبل" قمت بابراز هذه التحديات التي تواجه الشرعية المسلحة والإثنية كدرس رئيسي ينبغي علينا أن نتعلمه. أنا أقول:
"بناء شرعية عسكرية في حركة تحرير يمثل طريقاً وعراً للمضي للأمام. في حالات عديدة، انبت و تطورت هذه الشرعية العسكرية، كنتيجة لذلك، حول تشكيلات ذات طبيعة أحادية، تعتمد ايضاً و في حالات كثيرة على الولاء الاثني للمقاتلين والقادة. لهذا السبب، تصبح الاثنية و الولاء هي النظام. يتم عادةً حشد و تجنيد هولاء المقاتلين من مناطق جغرافية بعينها وهي تلك التي تأثرت بشكل مباشر بالاضرار والمعاناة التي اعطت قوة الدفع لانطلاق حرب التحرير. في مثل هذه البيئة، و بالرغم من التضحيات الجسام التي يقدمها هولاء المقاتلون، فانهم يمثلون تهديداً لرؤية و أهداف التحرير ما لم يتم خلق نوع من التوازن بين دورهم و بين المكون السياسي للحركة. ذلك لأنه و بينما هم القوة البشرية التي تناضل من أجل تحقيق رؤية التحرير، هم أيضاً أول من يناهض ذات الرؤية في الأوقات التي تبرز فيها الانقسامات الداخلية. يحدث ذلك عادة عندما يؤدي خلق شرعية عسكرية داخل حركات التحرير ايضاً الى خلق شرعية اثنية للتحرير."
الجيش الثوري الموحد ليس تجربة سهلة ولم يحدث أن كان كذلك في يوم من الأيام سواءً في التاريخ القديم أو المعاصر للجيش الشعبي لتحرير السودان. وتعزى الصعوبات الى الانقلابات الداخلية الكثيرة والانقاسامات والانشقاقات العديدة داخل الحركة الشعبية. وهنالك العديد من الأمثلة على انشقاق عدد من الوحدات والمجموعات العسكرية بعد التخرج من التدريب العسكري وبعد نشرها في مناطقها وبكامل عتادها العسكري والتدريب. على سبيل المثال فإن المقاتلين من منطقة معينة ينشقون مع قبائلهم وقراهم ومجتمعاتهم بمجرد وصولهم الى مناطقهم. ففي بيان غاضب من الرائد أحمد قرنق في بور، لخص موقفه قائلاً: "هذا ليس جيشاً ثورياً بل هم مدنيين على درجة عالية من الخطورة مدربين على القتل".
يعد تحقيق التوازن بين العناصر السياسية والعسكرية للحركات أمراً حاسماً في النهوض بالرؤية والأهداف الوطنية. بل هو أيضاً درس مستفاد لحركتنا في مواجهة الانقلابات والانقسامات الداخلية. فطبيعة تكوين حركات التحرر التي تضع المكون العسكري في المقدمة بحيث يصبح العنصر المهيمن، الامر الذي يخلق شرعية تراتبية داخلية أعلى-عسكرياً واثنياً- على حساب المكونات الاخرى داخل حركات التحرر. ولذلك، فإن تجربتي في المقاومة المسلحة تخبرنا بأننا بحاجة إلى تطوير الآلية السياسية المناسبة للتجنيد والتعبئة التي تعالج اهتمامات واحتياجات المجتمع والقبيلة واستيعابها ضمن الوحدة الوطنية الشاملة للتدريب العسكري لشن حرب التحرر. ولعل هذا ليس تمريناً سياسياً وفكرياً، بل هي عملية صعبة وطويلة لتحويل الأفراد والجماعات إلى مؤسسة متناغمة لأداء وتحقيق الهدف والرؤية الوطنية للحركة. وينبغي، وبصورة منهجية اعتماد وتشجيع محاولات خلق قنوات ووسائل للتجنيد خارج النهج الاجتماعي التقليدي القائم للحركة بما في ذلك حتى الدخول في شراكة مع حلفائنا والأحزاب ذات التفكير المماثل. وقد حاول الراحل الدكتور جون قرنق إجراء عملية التحولات الصعبة هذه في الجيش الشعبي لتحرير السودان من خلال إنشاء وتطوير لواء السودان الجديد، وأيضاُ من خلال الابقاء جانباً على مجموعة أو دفعة معينة في كل مرة من التدريب لكي تحضع إلى تدريب وتوجيه سياسي مكثف. خلال سنوات عديدة، كان بإمكان الحركة أن تنشئ لواءين من المقاتلين المدربين تدريبا جيدا والموجهين توجيهاُ سياسياُ عالياُ، و كان من الممكن أن يعملوا من أجل تحقيق رؤية السودان الجديد.
في الواقع، فإن هذا النهج هو أكثر قابلية للتطبيق وأكثر سهولة للتطوير إذا كنا سنبدأ كفاحاً مسلحاً من الصفر. ولكن ومع الوضع الحالي للجيش الشعبي لتحرير السودان - شمال، ومع كل المشاكل الموروثة وأيضاً المساهمات العظيمة على حد سواء، تظل هنالك حاجة إلى بذل المزيد من الجهود وإلى التفكير الجديد قبل الشروع في حربنا للتحرر بواسطة جيش ثوري مهني. ذلك الجيش الثوري المهني، الذي تم تحويله من مجموعة من المقاتلين غير المتجانسين إلى مجموعة متناغمة، الملتزم والمخلص لأهداف الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال وليس الذي يقوم على الانتماء للأفراد أو القبائل أو الانتماء الجغرافي.
وأخيرا، وفي الوقت الذي أفكر فيه بصوت عال، في هذا الجزء من هذه الدراسة، بشأن مستقبل الجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال وبشأن الكفاح المسلح بشكل عام، أود أيضا أن أثير المزيد من الأسئلة لإثراء نقاشنا وتَلَمُس الطريق إلى الأمام لحركتنا. وبعيداٌ عن التفكير الرومانسي حول حربنا للتحرر، فإننا بحاجة إلى التأكيد على أن المقاومة المسلحة هي مجرد وسيلة من بين وسائلنا الأخرى للنضال. والسؤال هنا هو كيفية تحقيق التوازن بين هذه الأساليب، لا سيما بين المقاومة المسلحة والنضال السياسي؟ كيف نعد ونضع التصوِر لملامح الجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال عندما يأتي السلام؟ ومن المؤكد أنها ليست الصورة التي قدمها الرفيق عبد العزيز الحلو في تخندقه خلال انقلابه وانقسامه الأخير وهو يقول أننا نقوم ببيع الجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال للنظام في الخرطوم. لقد كنا ولا نزال مخلصين وحريصين على إبقاء الجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال إلى أن تُنَفَّذ عملية السلام بالكامل، وإذا تم التوصل إلى انتقال سلمي. قد يستغرق ذلك وقتاً الى أن يتم التوصل إلى اتفاق بشأن الجيش الوطني بين جميع أصحاب المصلحة السودانيين الرئيسيين، وتتم مراقبته ورعايته دولياَ من خلال عملية نموذجية لنزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج. ونحن أيضا بحاجة إلى أن نفكر ونناقش الاتجاهات والتصورات العالمية القائمة بشأن الكفاح المسلح وحركاته. نحن بحاجة إلى التفكير ووضع نهج قوي ومقنع يميز بين معركتنا من أجل الحرية والجماعات المتطرفة والإرهابية الأخرى المتزايدة التي تقاتل من أجل أغراض دينية أو عرقية. كل هذه الأسئلة وغيرها هي التي يمكن أن تنقل الجيش الشعبي لتحرير السودان شمال إلى جيش ثوري مهني يمضي جنباً إلى جنب برنامج سياسي لتحقيق رؤية السودان الجديد.


المفاوضات و محادثات السلام

قصة مفاوضات و محادثات سلام الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان –شمال مع النظام هي عبارة عن كتاب مفتوح يحكي عن اصرار الحركة على اعلاء الرؤية، المباديء و الأهداف التي تم تطويرها منذ 1983م. لأكثر من ستة عشر جولة تفاوضية، لم يفرط ممثلو الحركة في الأهداف و الاستراتيجيات التي تم تحديدها و اصدار التوجيهات بشانها بواسطة القيادة و الأجسام العليا الأخرى في الحركة. بالطبع، المفاوضات ظلت تشكل جزءً لا يتجزأ من الاستراتيجيات الأربعة التي يبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال في كفاحها من أجل تحقيق رؤية السودان الجديد. تشمل هذه الاستراتيجيات الأربع، بالاضافة الى مفاوضات و مباحثات السلام، المقاومة المسلحة، الانتفاضة الشعبية، و الضغط الدبلوماسي و التضامن الدولي. تندرج العملية التفاوضية ضمن هذه الوسائل التي تم تبنيها كاستراتيجيات بواسطة الحركة الشعبية لتحرير السودان -شمال و تتحمل الحركة المسؤلية عنها جماعيا قيادة و كوادر. وفقا لهذه المسؤليات، يصارع الممثلون على طاولة المفاوضات نيابة عن كل الحركة، وفقا للأهداف والموجهات التي اعطيت لهم. على سبيل المثال، اعتمدت الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال أثناء العملية التفاوضية استراتيجية تبني مقاربة شمولية لأزمات السودان المتعددة و في ذات الوقت مقاربة تفاعلية تراعي خصوصية (المنطقتين) جبال النوبة/جنوب كردفان و النيل الأزرق. هذ المقاربة التي تراعي خصوصية المنطقتين تتبنى المطالبة بنظام لامركزي خاص بالمنطقتين دون غيرهما (حكم ذاتي)، بالاضافة الى تبني التفاوض حول قضايا خاصة بهذين الاقليمين. تتضمن لستة هذه القضايا الخاصة، من بين أشياء أخرى، الدين، الثقافات، اللغات، الحدود، الأراضي، قسمة السلطة و الثروة، المواطنة المتساوية، التنوع داخل المنطقتين، الترتيبات الأمنية الخاصة بالحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان –شمال، و كذلك الترتيبات الأمنية الأخرى المتعلقة بجبال النوبة/جنوب كردفان و النيل الأزرق. طوال جولات المفاوضات، ظل عدة فاعلين من جهة النظام، القوى الاقليمية و الدولية، و مجموعات القوميين الاثنيين و الاقليميين يدفعون بقوة لجهة محاصرة الحركة الشعبية في زاوية ضيقة و تصويرها كحركة اثنية اقليمية. شمل ذلك تصاعد الاتجاهات التي تريد اضعاف و التحكم قسريا في استراتيجية الحركة التفاوضية من خلال فرض المطالبة بتقرير المصير كمصلحة اثنية و اقليمية. و بالرغم من أن تقرير المصير يشكل قضية استراتيجية شديدة الأهمية تتطلب نقاشا ديمقراطيا واسعا و شاملا، الا انها وجدت طريقها لطاولة المفاوضات. التجارب الأخرى الأكثر تعقيدا و صعوبة التي واجهت و ماتزال تواجه الحركة فيما يتعلق بالمفاوضات و جبهة محادثات السلام هي كيفية صياغة طريقة للانخراط بطريقة تفاعلية و جدلية تربط ما بين المنهجية الكلية التي تنظر لأزمات السودان المتعددة ككل متحد، و بين قضايا النزاع في المنطقتين، في نفس الوقت. هذا تحدي قائم و سيستمر يواجه الحركة. و هو يحتاج لحوار استراتيجي، خاصة مع أصدقاء الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال، شركائها، و حلفائها و كذلك دور هولاء الفاعليين في عملية التفاوض. في هذا السياق، نحتاج ان نتعلم من تجربة اتفاقية السلام الشاملة و كيف أن تلك المفاوضات الثنائية المغلقة لم تحقق رؤية السودان الجديد، او تحافظ على وحدة السودان. نحن في حاجة أيضا للتفكير في و تطوير وسائل و تكتيكات للتعاطي و التعامل مع أجندة و مصالح الوكالات الدولية والاقليمية التي تشكل تحديا، و في كيفية حماية و المحافظة على أهداف الحركة في الوقت الذي نقوم فيه بمناورة الأجندة و المصالح المناوئة للفاعلين الدوليين و الاقليميين.

التحالفات السياسية

كان مانفستو الحركة الشعبية و الجيش لتحرير السودان لعام 1983م يحتوي نصوصا واضحة تبين بجلاء من هم أصدقاء الحركة ومن هم أعداءها. في الحقبة الدولية التي اُعتُمد فيها المنافستو كان هناك تمييز صارم بين آيديولوجيتين مهيمنتين: المعسكر الغربي والذي يمثله النظام الرأسمالي، و الكتلة الشرقية و التي يمثلها النظام الاشتراكي. لم يكن المشهد الآيديولوجي ضبابيا، كما هو حال الحقبة المشوشة و الفوضوية الحالية. السياق العام، المباديء، أهداف و تاريخ الكفاح في السودان قادت كلها مجتمعة لميلاد الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان كضرورة تاريخية و التي تحالفت مع و اصبحت جزءً من المعسكر الاشتراكي. استمرت الحركة تشكل و تنخرط في التحالفات السياسية، رافضة أن تكون حركة دوغمائية منغلقة على خلفيتها الآيديولوجية، بل حركة براغماتية عندما يتعلق الأمر بتبني الخيارات التي تخدم مصالحها على المديين الطويل و القصير، و كذلك باستجابتها للتغيرات التي شهدتها الساحة الدولية عقب انهيار المعسكر الشرقي. إن انخراط الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان التاريخي في التحالفات محكوم تقليديا و مدفوع بعدة اعتبارات؛ سياسية، آيديولوجية، اعتبارات تتعلق بالسياق العام او الضرورات السياسية. كانت تلك هي التجربة التاريخية للانخراط في التحالفات و بنائها خلال فترة الميلاد الأول للحركة (كوكادام مع الحزب الاتحادي الديمقراطي 1988، اتفاقية شقدوم مع حزب الامة، منتدى أمبو مع مثقفيين يساريين، و مع قوى التجمع الوطني الديمقراطي). حقبة اتفاقية السلام الشاملة شكلت تحديا مختلفا و تجربة أكثر دقة في ادارة التحالفات السياسية؛ فمن جانب، كانت الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان ملزمة بشراكة دستورية مع الحزب الحاكم – حزب المؤتمر الوطني، وفي ذات الوقت، كان علينا أن نحافظ على التحالفات السياسية و الآيديولوجية مع قوى المعارضة التي نشترك معها في قيم و مباديء التغيير.
بعد ندلاع حرب النظام ضد المنطقتين، كان على الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال ان يتطلعا لبناء تحالفات جديدة تخدم أهداف و احتياجات السياق و الواقع الجديدين. كانت الضرورة هي المحرك الرئيسي المتحكم في تقديرات هذه الحقبة. و قد جاء تكوين الجبهة الثورية السودانية باعتباره التحالف الاقرب و الاكثر احتمالا مبتدئا بحركة و جيش تحرير السودان – عبد الواحد، حركة و جيش تحرير السودان – مناوي و حركة العدل و المساواة. كان من المنطقي الانطلاق من الضرورات السياسية كدافع للتحالف: تشترك الحركات الثلاثة في ذات الجغرافيا، نشأت في أقاليم مهمشة، و تشترك في تعرضها للاذلال و الاستغلال و الهجمات العسكرية من قبل نظام الخرطوم. كان الهدف هو توحيد الهامش قبل المركز، ليس بالضرورة على أسس آيديولوجية. كان الدافع لذلك هو التشابه الكبير في أساليب الكفاح، تحديدا المقاومة المسلحة. كانت الحوجة لشن و تنسيق العمليات العسكرية، و الحصول على العتاد العسكري اللوجستي اللازم و التدريب المشترك من بين المهام التي تنتظر ذلك التحالف. و قد تضافرت عدة عوامل دفعت لانشاء ذلك التحالف، والتي شملت خصوصيات المناطق المهمشة، و امكانات تطوير برنامج سياسي و كتلة سياسية في المستقبل، على غرار نموذج المؤتمر الوطني الافريقي، لتشكيل و قيادة الأجندة الوطنية للقطر. لم تعمل الجبهة الثورية السودانية بشكل جيد كما كان متوقعا. لذلك، وفي هذا المنعطف التاريخي، نحتاج لسؤال أنفسنا؛ ما هي الجوانب الناجحة و تلك الفاشلة في تحالف الجبهة الثورية السودانية؟ وهل كان هو المركبة المناسبة للعبور بنا من محطة التحالف الذي املته الضرورات السياسية الى التحالف الاستراتيجي؟
و قد استمرت الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال في جهودها القيادية في بناء التحالفات. و ذلك من خلال جمعها هذه المرة معا القوى السياسية المسلحة و غير المسلحة، من الهامش و المركز، لتتوحد تحت ميثاق الفجر الجديد. فقد اجتمعت أطراف الجبهة الثورية السودانية، و قوى الاجماع الوطني، و ممثلون عن المجتمع المدني و اتفقوا جميعا على اعلان سياسي تاريخي متميز و هو الفجر الجديد. خاطبت الوثيقة السياسية بالتفصيل أغلب القضايا الخلافية في تاريخ السودان السياسي: على سبيل المثال نظام الحكم، الترتيبات الدستورية، الهوية، الاقتصاد و التنمية، الدين و الدولة، الوحدة على أسس جديد، الترتيبات الأمنية، الخ. شكل الفجر الجديد اختراقا حقيقيا في تاريخ المواثيق السياسية في السودان. لكنه مع ذلك لم يصمد طويلا و انفرط عقده في مواجهة حملة الاعتقالات والاكراه الحكومية، و تردد و مخاوف قوى المعارضة الناشطة في الخرطوم. هل كان الفجر الجديد بمثابة قفزة في افق المستقبل من غير تبصر و اعداد لكيفية الهبوط؟ كيف يمكن استعادة محتوياته المميزة للمستقبل؟
و قد استمرت رحلة بناء التحالفات المعارضة بقيام الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال باعادة الارتباط بين حزب الأمة و الجبهة الثورية السودانية تحت راية اعلان باريس. لم يكن ذلك أمرا سهلا بسبب أن أعضاء الجبهة الثورية المنتمين الى اقليم دارفور كانت لديهم مرارات تاريخية – سواء كانت حقيقية أم متخيلة لا فرق – ضد حزب الأمة و شخص الامام الصادق المهدي، ابتداءً من حمولته التاريخية الدينية الطائفية وصولا الى دوره القريب في المساهمة في تفتيت تحالف الفجر الجديد. لم تكن الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال بعيدة عن الاشتراك في ذلك النقد، بما في ذلك افتقاد الامام القدرة على الالتزام بالاستمرارية المطلوبة لادامة التحالفات. في نهاية المطاف، مدفوعين بالحوجة للوصول الى اتفاق حول برنامج حد أدنى، تم التوقيع على اعلان باريس و الذي فتح الباب لميلاد تحالف جديد. كانت للتحالف أهمية كبيرة و هو يجمع حزبا رئيسيا من المركز مع الحركات المسلحة من الهامش في لحظة سياسية تميزت بالعداء، و الركود، و انعدام المبادرة. اتفقت أحزاب اعلان باريس على ان تترك جانبا القضايا الخلافية مثل العلاقة بين الدين والسياسية/الدولة.
وقد مهد التحالف الجديد الطريق، بالطبع، لنمو تحالف أوسع وأكثر شمولا، ابتداءً من البرنامج السياسي بين الجبهة الثورية السودانية و قوى الاجماع الوطني و انتهاءً بالتوقيع على و تكوين تحالف نداء السودان بين الجبهة الثورية السودانية و قوى الاجماع الوطني و حزب الأمة و مبادرة المجتمع المدني، و الذي يؤرخ بذلك للحظة سياسية تاريخية و ناضجة أخرى لكل المعارضين من خلال اجتماعهم معا تحت مظلة واحدة. بالرغم من انها لم تكن مصدر الهام بالنظر لمحتواها مقارنة بالفجر الجديد، إلا أن وثيقة نداء السودان كانت واقعية و هي تعكس القدرات الحقيقة للأطراف الموقعة. كانت فرصة جيدة للسودانين المعنين ليوحدوا جهودهم و استعادة برنامج عمل سياسي متفق عليه و سياسات بديلة لمستقبل السودان. و بالرغم من أن التحالف قد واجه تحديات عديدة مثل انقسام الجبهة الثورية السودانية، الخلافات حول وسائل الكفاح، المواقف من خارطة طريق الاتحاد الافريقي، الاتهامات بالرغبة في المشاركة في الحوار الوطني الخاص بالحكومة ..الخ، فان نداء السودان مازال يمثل الجبهة العريضة التي تتوفر لديها إمكانية تحدى النظام و المضي بالبلاد قدما نحو تحول ديمقراطي سلمي عبر طرح السياسات البديلة.
و بالاضافة لتحالفاتها الداخلية، استمرت الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال في تمددها اقليميا و دوليا و بناء شراكات مع حلفاء سياسين. استطاعت ان تنشيء و تحافظ على روابط قوية و شراكة مع أحزاب سياسية غير سودانية ذات تكوين فكري مماثل و كذلك حركات ذات خلفية آيديولوجية مختلفة، وهي علاقات ما تزال مستمرة و مزدهرة.

الخلاصة فيما يتعلق بالتحالفات السياسية، ليس هناك حزب سياسي او حركة يمكنه أن يستمر وهو يعمل منفردا في عزلة عن الأحزاب الأخرى. تاريخيا، ظلت الحركة تعمل مع عدة قوى و أحزاب، بعضها يتبنى آيديولوجية على الطرف النقيض كلية. الائتلافات و التحالفات السياسية تعتبر من بين نقاط القوة التي تسمح للمنظمات السياسية لتنمو و تختبر تطورها. تعتبر كل التحالفات، سواء كانت تكتيكية ام استراتيجية، ذات قيمة، إنها قصة ربح مقابل ربح. الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال ليست استثناءً في التعامل مع هذه الحقيقة السياسية. مع ذلك، فان تجارب بناء و الانخراط في التحالفات السياسية يجب أن تعلمنا الربط بين ماضي وحاضر التحالفات. نحتاج لأن نفكر باستمرار و نناقش الأسئلة الجوهرية المتعلقة بالتحالفات السياسية. نحتاج لتبيان ما هي الأهداف المرجوة من الانخراط في التحالفات؟ هل يصل الأمر الوحدة التامة و/أو درجة من الاندماج مع أعضاء التحالف؟ أم يقتصر الأمر على مستوى التنسيق؟ كيف أن خدمة الأهداف المشتركة للتحالف يمكن أن تكون بالضد من الأهداف الفردية للحركة؟ كيف يمكننا قياس و تقدير وزن حلفائنا؟ هل يتم ذلك على أسس سياسية؟ آيديولوجية؟ القاعدة الجماهيرية؟ ام علاقاتهم الخارجية؟ كيف يمكننا مقاربة و ايجاد حلول لمشاكل التحالفات السياسية فيما يتعلق بالهيكلة؟ اتخاذ القرارات؟ ماذا عن وحدة قوى نداء السودان؟ ما هي هذه القوى؟ و ماهي الآلية؟

الهياكل و عملية اتخاذ القرارات

حتى يتثنى فهم آليات و هياكل اتخاذ القرار في الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال التي كانت موجودة قبل انقسام نائب الرئيس، من الضروري الرجوع و مراجعة أصول هياكل و آليات اتخاذ القرار في تاريخ الحركة. شهد شهر يوليو 1983م، تكوين الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان، بعد شهرين من تمرد الكتيبتين 104 و 105 في مدينتي بور و أيوت في جنوب السودان. وقد بدأ قادة التمرد التفكير مباشرة في الهيكلة و آلية الادارة و اتخاذ القرار. كان أول جسم قيادي تم تكوينه كلجنة تنفيذية مكون من خمسة أشخاص؛ يرأسه القاضي مارتن ميجور و المحارب القديم جوزيف اودهو. تم اسناد مسؤلية الجناح العسكري للحركة للعقيد د. جون قرنق دي مبيور. لكن الجسم الأعلى، اللجنة التفيذية، لم يكن قادرا على العمل بسبب الخلافات الداخلية، بدءً من تحديد رئيس اللجنة. بعد خلافات ممتدة، اتفق الجسم الخماسي على رئاسة تبادلية دورية، ولكن لم يتم حل المشكلة، و قامت اللجنة التنفيذية العليا بحل نفسها عمليا دون قرار مكتوب بذلك. فشل الجسم التنفيذي الأعلى دفع د. جون قرنق للمضي قدما و تأسيس القيادة السياسية – العسكرية الجديدة للحركة من خمسة أعضاء.
تكونت القيادة العليا الجديدة من العقيد د. جون قرنق رئيسا، اللواء كاربينو كوانين نائبا للرئيس، اللواء وليم نيون باني رئيسا لهيئة الأركان، الرائد سلفاكير ميارديت قائدا للأمن، و الرائد أروك تون أروك نائبا لرئيس هيئة الأركان. كانت هذه القيادة السياسية –العسكرية العليا هي الجسم الأعلى في الحركة، وكانت لها صلاحيات تشريعية و تنفيذية معا. و كان المستوى الثاني في التسلسل الهرمي هو قائد الكتيبة كقائد تنفيذي بصلاحيات سلطة تنفيذية كاملة و مسؤلية قضائية في نطاق منطقة عمله، والتي تمت الاشارة اليها في قانون الجيش الشعبي لتحرير السودان للمحاسبة و العقوبات لسنة 1983م. بموجب هذا القانون منحت السلطات للتشكيلات العسكرية الأصغر و الأدني والتي يمارس قادتها ذات السلطات المطلقة و المسؤليات. فهم هذه الخلفية يمكن أن يدلنا على الأصل التكويني للمشروعية و العلوية العسكرية في هيكل بنية الحركة و عملية اتخاذ القرار داخلها. لم تكن هناك أُطر واضحة لآلية رفع التقارير، وكل و حدة يتوفر لديها راديو للاتصال كان يمكنها أن ترفع تقاريرها مباشرة للرئيس، د. جون قرنق. لم يكن رفع التقارير مباشرة للرئيس موضوع تساؤل طالما كان هو الشخص الذي يرعي و يتحكم في كل الشؤون العسكرية، بما في ذلك الامدادات والتي تمثل شريان الحياة بالنسبة للحركة.
لكن اصبحت عملية صنع القرار، والهيكلة، و نظام رفع التقارير موضوع تساؤلات مع نمو الحركة حيث اصبح القادة يطالبون بمزيد من الصلاحيات. استجابت القيادة لذلك بتوسيع القيادة السياسية و العسكرية العليا باضافة 12 ضابط كأعضاء غير دائميين. د. جون قرنق باسلوبه الساخر ارسل عبر الراديو رسالة لكل الوحدات تقول: "القيادةُ العليا اصبحت أكثر علويةً و ارتفاعاً." تبع توسيع القيادة العليا أيضا تأسيس محاور إدارية؛ واحد للجنوب تحت قيادة د. جون قرنق، و محور شمال السودان تحت قيادة كاربينو كوانين. و قسمت المحاور الى مناطق حربية و تم نشر الأعضاء الاثني عشرة غير الدائميين في هذه المستويات قصدا بغرض توسيع آلية صنع القرار و هياكل ممارسة الصلاحيات و السلطات. لكن و بالرغم من توسيع آليات صنع القرار و بنية الهيكل القيادي، فقد قوبل ذلك بأصوات مشككة و مرتابة: على سبيل المثال القائد مارتن مانييل ايول تحدث مرة قائلا: "الحركة تتم ادارتها كمسرح الرجل الواحد." ازدادت الأصوات المرتابة وقد شكلوا مجموعة سرية سمت نفسها الضباط التقدميين. و قام آخرون مثل كاربينو كوانين، نائب الرئيس، العقيد أروك تون، و مجموعة الناصر بالانضمام للمحتجين مما قاد للانقسام الداخلي.

اعادة النظر و استعراض تلك التجارب الأولى الخاصة بالهيكلة وآليات صنع القرارات في الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان يطرح السؤال: هل كان هناك قصور بنيوي في تلك الهياكل؟ اجابتي القاطعة هي لا. كانت القيادة السياسية – العسكرية العليا خماسية الأعضاء تعمل في منطقة صغيرة نسبيا. وبالرغم من العقبات و المصاعب الخاصة بالامداد و المواصلات كانوا قادرين على الاجتماع بطريقة منتظمة، مناقشة القضايا، و اتخاذ قرارات رئيسية. و عندما قامت الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان بتحرير مزيد من المناطق اصبح هناك تباعد بين القيادات و صارت الاتصالات في نقاط كثيرة أكثر صعوبة، لذلك كان توسيع القيادة هو أحد الحلول. بدأ التشويه و فقدان الثقة في هذه اللحظة التي حدث فيها التوسع، مدفوعا بالاشاعات التي يصوغها الرفاق و المطبلون الذين يحيطون بالقادة. و كانت الاشاعات هي سيدة الموقف. لم يكن هنالك دور أو أي شكل من أشكال الحضور للمدنيين في المناطق المحررة خلال هذه التجارب المتعلقة بآليات الهيكلة واتخاذ القرار. فقد كان يغلب الطابع العسكري على الحركة بصورة كثيفة للغاية وشمل ذلك حتى زعماء القبائل الذي كانوا يخضعون للتدريب العسكري ويتقلدون الرتب العسكرية في الجيش الشعبي (وحقق البعض منهم نجاحات في رتبهم وأصبحوا ضباط رفيعي المستوى مثل السلطان جاتويك دي وال). وعندما توسعت المناطق المحررة تتطلب ذلك نهجاً جديداً للإدارة واتخاذ القرار، وبناءً على ذلك تم خلق مواقع تنظيمية للاداريين المدنيين-العسكريين (CMA) لتلبية الاحتياجات الإدارية للعدد الكبير من السكان المدنيين.

عقدت الحركة الشعبية لتحرير السودان أول مؤتمر قومي لها في العام 1994م، أي بعد ثلاثة سنوات من انقلاب مجموعة الناصر الذي رفع شعارات الاصلاح والديمقراطية وتغيير القيادة والهيكل التنظيمي. وفي المؤتمر اعتمدت الحركة الشعبية هياكل تنظيمية متقدمة جداً لاتخاذ القرار والتسلسل الهرمي للهيئات التنفيذية. وقد اوكلت المسؤوليات التنفيذية للمجلس القيادي بالاشتراك مع السلطة المدنية للسودان الجديد(CANS) . وقد تم تكليف مجلس التحرير القومي (NLC) بمهام السلطة التشريعية بينما تم فصل السلطة القضائية عن الجيش الشعبي الذي تمت هيكلته بحيث اصبح كلية جسماً موازياً. وصدرت تعليمات إلى أعضاء السلطة التنفيذية بأن يظلوا متواجدين في منطقة واحدة هي المقر الرئيسي في نيو كوش بشرق الاستوائية، وذلك باستثناء الحكام الخمسة لأقاليم جبال النوبة والنيل الأزرق وبحر الغزال والاستوائية وأعالي النيل. وكانت اجتماعات السلطة التنفيذية منتظمة نسبيا، واستطاعت الحركة الشعبية الاحتفاظ بأكثر من أربعين (40) عضوا في مكان واحد. وقد لخص هذا الهيكل 11 عاما من تجارب الحوكمة الداخلية للحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان، إلى جانب هياكل وآليات صنع القرار المتغيرة والديناميكية. وظل الهيكل الأخير لأكثر من 40 عضوا متماسكا ويعمل بشكل كامل حتى توقيع اتفاق السلام الشامل في عام 2005.

بتوقيع اتفاقة السلام الشاملة انتقلت الحركة الشعبيةوالجيش الشعبي لتحرير السودان لوضعية جديدة كلياً من الحوكمة الداخلية وآليات إعادة الهيكلة واتخاذ القرار. واستمرت تلك الوضعية لست سنوات هي فترة السلام الانتقالية، حيث تم تقسيم الحركة الشعبية إلى قطاع شمالي مسؤول عن ثلاث عشرة ولاية في الشمال، وإلى قطاع جنوبي يشتمل على ولايات الجنوب العشر بالاضافة إلى ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. واستمر هذا الوضع إلى أن صوّت جنوب السودان لصالح الانفصال في العام 2011م، حيث اصبحت الحركة الشعبية الحزب الحاكم في دولة جنوب السودان.

وهكذا وُلدت الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان-شمال في العام 2011م، كتطور منطقي لانفصال جنوب السودان. وقد تم اتخاذ القرار ببدء عملية فك الارتباط بين الحركة في الجنوب والشمال، بدءً باعادة هيكلة الحركة وإعادة تنظيمها في شمال السودان. وتم تشكيل الهيئة القيادية العليا على الفور من سبعة من أعضاء المكتب السياسي المتبقين. وقد تم تشكيل العديد من اللجان المتخصصة لتسيير العمل ولمعالجة مهام الانتقال، بدءً من تطوير رؤية متجددة للسودان الجديد وإلى إيجاد برنامج سياسي جديد، والاتفاق على وضع الجيش الشعبي في المنطقتين. لكن توقف العمل السياسي السلمي لبناء الحركة في السودان وذلك عندما قرر النظام في الخرطوم شن حربه مرة أخرى في المنطقتين في عام 2011م. و بذلك تضاعف التحدي: فمن الناحية السياسية كانت هناك مهمة بناء حركة جديدة (الحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال)، وعسكريا كانت هنالك حاجة ملحة للتصدي لهجمات النظام. وعلى الرغم من توقف عمل اللجان المتخصصة، الا انه حدث بعض التقدم. واستمرت الجهود المبذولة لتوحيد وتنظيم أعضاء الحركة في ثلاث مناطق مختلفة هي المناطق المحررة والمناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة ودول المهجر، فضلا عن ربط الأقسام الثلاثة للحركة مع بعضها البعض(جبال النوبة/ جنوب كردفان والنيل الأزرق والقطاع الشمالي) دون توقف، وإن شابها بعض البطء. استطاع الجيش الشعبي لتحرير السودان-شمال، طوال السنوات السبع التي شهدتها حرب التحرير الجديدة، الوقوف ضد هجمات النظام المتواصلة وحماية المدنيين الأبرياء في المنطقتين.

جاء قرار التصدي لهجمات النظام والبدء في الكفاح المسلح بعد اجتماع الضباط التنفيذيين الثلاثة الذين يمثلون الهيئة الأعلى في الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال في ذلك الوقت إلى جانب بعض الأعضاء القدامى في الحركة. واتخذت هذه المجموعة القرار الاستراتيجي بالشروع في الكفاح المسلح مرة أخرى بعد مناقشات مطولة وتقييم عام للسياق وذلك لعدة أسباب هي: 1) التصدي لهجمات الحكومة 2) استمرار النضال من أجل تحقيق رؤية السودان الجديد 3) اعادة تشكيل الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال بطريقة تستجتيب وتتفاعل مع الوقائع الجديدة.

بدأت عملية إعادة الهيكلة بتكليف كبار الضباط التنفيذيين الثلاثة بمهام ومسؤليات محددة. فقد تم تكليف الرئيس بالجوانب اللوجيستية والعتاد العسكري بالاضافة إلى مسؤولياته في تسيير المهام االروتينية اليومية للحركة بما في ذلك الاشراف على السلطة التنفيذية بالنيل الأزرق. بينما كُلِّف نائب الرئيس برئاسة هيئة أركان الجيش الشعبي لتحرير السودان-شمال وبمهام بناء الجيش والمؤسسات العسكرية والتدريب بالاضافة إلى الاشراف على السلطة التنفيذية لجنوب كردفان/جبال النوبة. وقد تم تكليف الأمين العام ببناء الأمانة السياسية للحركة وقيادة العملية التفاوضية بوصفه كبير المفاوضين إلى جانب العلاقات الدبلوماسية وقيادة العمل في التحالفات السياسية، بالاضافة إلى الاشراف على فروع ومكاتب الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال في دول المهجر. وعندما قرر نائب الرئيس التنحي عن منصبه كرئيس لهيئة الأركان وقام بتسليم المنصب إلى نائب رئيس هيئة الأركان، اعيد تكليفه بمسؤوليات العمليات الانسانية والادارة المدنية للحركة. وعلى الرغم من التقسيم الواضح للعمل بين الأعضاء التنفيذيين الثلاثة، إلا أنهم شددوا على العمل كفريق كأسلوب للعمل، واعتمدوا بصرامة مبدأ الاجماع كآلية لصنع القرار.

قام الضباط التنفيذيون الثلاثة بتسليم دورهم كهيئة عليا لمجلس قيادي نسبة للواقع الجديد الذي فرضته الحرب. و اصبح المجلس القيادي للحركة الشعبية والجيش لشعبي لتحرير السودان- شمال (LC) الهيئة العليا في هيكل صنع القرار، ويتحمل مسؤوليات، من بين أمور أخرى، الاشراف على تنفيذ قراراته بواسطة المسؤولين التنفيذيين، بما في ذلك المهام التي يُكلٍّف بها الضباط التنفيذيون الثلاثة. وفي عام 2013م، تم اعتماد دستور انتقالي للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، الأمر الذي اضفى طابعاً من الشرعية على مختلف المؤسسات والمواقع داخل الحركة، وعلى تنفيذ تلك المهام بتفويض في المنطقتين والأمانة العامة على مختلف المستويات.

وقد تم تفصيل الصلاحيات والوصف الوظيفي لمجالس التحرير على المستويات المختلفة في دستور عام 2013م. وفي حين تمكنت الحركة من تشكيل مجالس تحرير في منطقتي جنوب كردفان/ جبال النوبة والنيل الأزرق، لم يتم تشكيل مجلس التحرير القومي ولا مجالس تحرير في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة. إن تشكيل مجلس التحرير القومي يقع ضمن المسؤولية الحصرية للمؤتمر العام القومي للحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، الذي لم يتسنى عقده لأسباب مختلفة، يعتبر من بينها الأمن والجوانب اللوجيستية عاملان محوريان لعقد مؤتمر يشارك فيه الجميع مشاركة حقيقية.
ومع انقضاء فترة السبع سنوات، والتي تعتبر قصيرة نسبيا من عمر الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان-شمال، لم تكن الهياكل التنظيمية وعملية صنع القرار أشد سوءً بالمقارنة مع التجربة القديمة للحركة والمنظمات السياسية الأخرى في السودان. فقد كان الضباط التنفيذيون الثلاث ممسكين بملفاتهم وكانت اجتماعاتهم متواصلة وراتبة. كما عقد المجلس القيادي (13) اجتماعاً وحقق تقدماً جيداً في أدواره العليا. إن الإنجازات العسكرية والسياسية، بما في ذلك أدوار الإدارة المدنية، هي دليل واضح على الأداء الفعال للهياكل وآليات صنع القرار على مدى السنوات السبع الماضية من الصراع.
وعندما نعيد النظر في هياكل وآليات صنع القرار في الحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان- شمال فإنه يمكننا القول، وبكل ثقة، بأن المسائل التي اثيرت في الاستقالات الثلاث التي تقدم بها نائب رئيس الحركة ليست صحيحة. لقد علمتني أكثر من ثلاثة عقود من الخبرة كمقاتل وقائد في حركة تحرر أن الديمقراطية التقليدية في الكفاح المسلح تكاد تكون مستحيلة. لقد قمت باستعراض وتقييم حوالي 170 ممارسة وأداء لحركات التحرر، لكنني لم اتمكن من العثور على تجربة واحدة للديمقراطية التقليدية. وفي الواقع نجد أن النماذج ال 170 شهدت تجاربا من الانقلابات والانقسامات الداخلية، والتي زعمت في جميع الحالات أن الاصلاح وارساء الديمقراطية هي الأسباب وراء ترك الحركة الرئيسية. ولعل الأمر القابل للتطبيق من تجربتي ومن الممارسات الناجحة الأخرى هي الديمقراطية الوظيفية. بوسع الديمقراطية الوظيفية أن تعمل بشكل جيد جداً في اتخاذ القرارات الاستراتيجية، ولكن ليس في القرارات التكتيكية. ويمكن للقيادة أن تتخذ قراراً ديمقراطياً يتعلق بوضع الأهداف والاستراتيجيات لتحقيق رؤية الحركة وأهدافها. ولكن إدارة العمل اليومي لحركة التحرر وعملية صنع القرار حول شن الكفاح المسلح من المستحيل تطبيق إجراءات الديمقراطية.

بالاستناد إلى هذه الخلفية عن التركيبة التنظيمية وآليات صنع القرار، ولأغراض تجديد الحركة في المستقبل، اود أن أقول إن هياكلنا وآلياتنا لم تكن ناقصة ولم تكن غير فاعلة. ولكن من المؤكد أنها بحاجة إلى اعادة تكييفها لتمكينها من استيعاب تجديد الحركة في مجالات أخرى مثل الرؤية والجيش الشعبي لتحرير السودان والتنظيم والتعبئة والمفاوضات والتحالفات والإدارة المدنية وما إلى ذلك. ويمكن لهذه الهياكل أن تكون أكثر مرونة وكفاءة في اتخاذ القرارات وفي تنفيذ الاستراتيجيات.

نحن بحاجة إلى التفكير في، و دراسة المكونات والمؤسسات الاضافية التي كانت غائبة عن هياكلنا وتجاربنا السابقة لصنع القرار. ويمكن أن يكون مركز الدراسات المكتمل الكفاءة أحد المؤسسات لاستكشاف امكانياته في دعم تفكيرنا وقراراتنا الاستراتيجية. وهناك أيضا عدد من الرفاق القدامى الذين ساهموا بقوة ونحتوا أسماءهم خلال حرب التحرير الأولى، ولسبب أو لآخر لم يتمكنوا من مواصلة الطريق عند نشوب الصراع الجديد. فهنالك حاجة ماسة إلى خبرة هؤلاء المحاربين القدامى ومعرفتهم بأوضاع الحركة، وينبغي استيعابهم في هياكل الميلاد الجديد للحركة.

الأدوار المتزايدة للمجتمع المدني المستقل، في أوقات السلم والحرب، تتطلب منا إعادة التفكير في دوره، وكيف يتعين علينا الاعتراف به وادماجه كرافد من روافد عملية التحرر عن طريق اعتماد أساليب عمله الحديثة. وهناك أيضا عدد كبير من الأعضاء والمتعاطفين والشركاء والحلفاء الذين يعيشون خارج مناطق المقاومة المسلحة وقد اختاروا عدم رفع السلاح كوسيلة للنضال. لقد كنا نغيب دور هؤلاء المقاتلين العزل ونعمد إلى التقليل من شأنه. وهؤلاء يعتبرون أصولاً قيمة ومساهمين أصيلين في الحركة، ويجب علينا أن نحدد الآليات المستدامة في الهيكل وآليات صنع القرار لاستيعاب مساهماتهم القيمة وإضافاتهم.

إن التجربة الحالية للانقلاب والانقسام الداخلي على مستوى القيادة في الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال يجب أن تكون لحظة صادقة بالنسبة لنا جميعاً في الوقت الذي نتجه فيه نحو المستقبل. وينبغي ألا نسمح بأي مجال للتفسيرات الخبيثة. يجب أن تكون الهياكل والمؤسسات، والحدود بين الهيئات، والوضوح الدستوري والانضباط، وغيرها من التدابير الادارية في وضعها الصحيح والسليم في كل الأوقات. وقد اصبح هذا ضرورة قصوى الآن للتأكد من أن التجربة المؤلمة في الماضي لن تكرر نفسها مرة أخرى. ربما كان خطأنا الأساسي هو الثقة العمياء التي كانت بيننا في المكاتب التنفيذية العليا الثلاث. ربما روح الرفقة في العمل معا لمدة 34 عاما في تناغم وثقة والتزام، لم تكن كافية للوقوف ضد العواصف عندما تتداعى الأحداث من حولنا.

خاتـــــــــــــــــــــــــــــــــــــمة

يمكن لأزمات في الحركة أن تعلمنا كيفية الاستفادة منها كفرصة لتجديد التزامنا بقيم السودان الجديد وأهدافه ورؤيته. والدرس الرئيسي الذي تعلمناه من الأزمة الأخيرة للانقلاب والانقسام الداخلي في الحركة الشعبية لتحرير السودان هو أنه يجب أن تكون هناك جهود عملية ديمقراطية وبناءة أكثر عمقاً، ومناقشة لطرح الأسئلة الصحيحة من أجل التحضير بشكل أفضل للمستقبل.

تتكامل هذه الوثيقة "تجسير وربط الماضي بالحاضر" مع الوثيقة التي أعدها الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، بالإضافة إلى مقالتي العامة السابقة "الانقسامات في حركات التحرر وأسئلة المستقبل". ومن المأمول أن تدشن هذه الوثائق معا مناقشة منهجية يمكن أن تعالج وتتصدى للتحديات الملحة والمستقبلية للحركة. وتأتي عملية النقاش هذه كجزء من عملية تجديد رؤية وتنظيم الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال. وفي حين أن هذه المناقشة ستنطلق من هذه الوثائق، فإنها تستند بشكل أساسي إلى مشاركة أوسع من قبل كوادر الحركة وأعضائها، و تنفتح على قوى التنوير والتقدم والقوى الديمقراطية في السودان.

نحن بحاجة إلى عملية سياسية ديمقراطية شاملة، عملية تعالج الفكر بدلاً من العواطف في الاجابة على عدد من الأسئلة مثل: لماذا ارتكبنا أخطاء؟ لماذا حدثت هذه الأزمات؟ وكيف يمكننا ضمان ألا يحدث ذلك مرة أخرى في المستقبل؟ وقد خرجت هذه الوثيقة، "تجسير وربط الماضي بالحاضر"، من رحم هذه الأسئلة، واستهدفت رسم اطار عام ودعائم لبعض القضايا الأساسية التي نستهدفها بنهاية عملية المناقشة.

ونأمل أن تقدم هذه المساهمة، "تجسير وربط الماضي بالحاضر"، دعماً ايجابياً لانطلاقة عملية تجديد واعادة هيكلة الحركة الشعبية و الجيش الشعبي لتحرير السودان-شمال.

 

آراء