اقتصاديات الموانئ البحرية في السودان

 


 

 

يُعرَّف النقل البحري بأنه ضرب من ضروب النقل المائي الذي يتم عبره نقل البضائع والبشر على المياه إلى مناطق أخرى بالسفن والمراكب أو أي وسيلة أخرى. وتُعد الموانئ البحرية أحد أهم المصادر الاقتصادية للدول، بالإضافة إلى أهميتها في الأمن والعمق الاستراتيجي للدول وحدودها. وبرز دور الموانئ مع ازدياد حركة التجارة العالمية، فهي المحرك الأول للصادرات والواردات التي من شأنها أن تتحكم في مسيرة الاقتصاد العالمي بالإضافة إلى دعم النمو الاقتصادي المستمر، وضمان مستقبل أكثر استدامةً للأجيال المقبلة.
وتمثل الموانئ البحرية منافذ دولية تتنافس عليها دول العالم على المستويات الإقليمية والعالمية، سواءً من حيث تطوير الدول للموانئ عن طريق الإهتمام بالبنية التحتية أو التشغيلية أو الخدمات اللوجستية والصناعية المتكاملة، وحتى بإدخال وسائل الذكاء الاصطناعي والرقمنة، تلك التي تحسن من عمليات الشحن وعمليات الموانئ بالإضافة إلى تقليص الانبعاثات الكربونية وتكامل أنظمة الطاقة المستخدمة في المؤاني. وكان البنك الدولي ومعلومات الأسواق الصادرة عن وكالة ستاندرد أند بورز العالمية قد نشرا مؤشراً لتقييم أداء الموانئ الحاويات لعام 2021م. وهدف المؤشر والبيانات الأساسية فيه إلى تحديد الثغرات في الأداء، وتعداد فرص إدخال تحسينات من شأنها أن تحقق الفائدة لجميع الأطراف الرئيسية المعنية في مجال التجارة العالمية، بما فيها الحكومات وخطوط الشحن وشركات تشغيل الموانئ ومحطات الحاويات وشركات الشحن وشركات الخدمات اللوجستية والمستهلكين.
وأشار ذلك التقرير إلى أهمية موانئ الحاويات للتجارة والاقتصاد العالمي ككل، حيث يتم نقل نحو 80 في المائة من حجم السلع والبضائع المتداولة في التجارة العالمية عن طريق النقل البحري. ويتم كذلك شحن نحو 35 في المئة من إجمالي حجم الشحنات وأكثر من 60 في المائة من الشحنات التجارية في حاويات. ومن هذه الأرقام تتضح جلياً أهمية موانئ الحاويات حول العالم. كما أوضح التقرير أمرا مهما، ألا وهو أن عدم كفاءة الموانئ تمثل خطراً كبيراً على العديد من البلدان النامية، لأن عدم كفاءة الموانئ من شأنه أن يعرقل النمو الاقتصادي، ويلحق الضرر بالعمالة، ويزيد التكاليف التي يتحملها المستوردون والمصدرون، ومن ثم ينعكس كل ذلك على أسعار السلع للمستهلكين. لذلك يُعد الاستثمار في البنية التحتية للمؤاني وتطوير قطاع النقل البحري أحد وسائل دعم مسار التعافي الاقتصادي، بالإضافة إلى آثاره الاجتماعية والبيئية في الاقتصاد البحري.
وبالقياس على القارة الافريقية نجد أن الإتحاد الافريقي قد وضع جدول أعمال للتنمية، عبر برنامج شامل يعتمد على منهجية للتنمية محورها الإنسان. ويهدف ذلك البرنامج إلى جعل أفريقيا تستخدم مواردها الخاصة. ويعد المجال البحري لأفريقيا اقتصاداً تتجمع فيه عدد من الأنشطة ذات الصلة مترابطة إلى حد ما، ويكون لها تأثيرا محتملا على التطور من خلال مساهماتها في الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والسلامة والأمن. لذلك يعتبر صياغة إستراتيجية البحرية المتكاملة لإفريقيا للعام 2050م أحد أهداف التنمية الرئيسة، وتوفّر إطارا واسعا لحماية والاستغلال المستدام للمجال البحري الإفريقي. كما وتهدف الرؤية الشاملة التي وردت في الإستراتيجية البحرية المتكاملة لإفريقيا لعام 2050م لتعزيز زيادة خلق الثروة من محيطات وبحار أفريقيا من خلال تطوير الاقتصاد الأزرق المستدام المزدهر بطريقة آمنة ومستدامة بيئيا. حيث ورد فيها أن "الاستراتيجية هي نتاج لتعاون شامل من الخبراء الأفارقة، بمن فيهم مؤسسات الفكر والرأي والمنظمات غير الحكومية والأوساط الأكاديمية والمجموعات الاقتصادية الإقليمية ، والآليات الإقليمية ، والدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي والوكالات المتخصصة، وأهم أصحاب المصلحة الآخرين، حيث تم الإعداد للإستراتيجية لمعالجة التحديات البحرية الحالية والناشئة والمستقبلية في أفريقيا، مع الأخذ في الاعتبار مصالح البلدان غير الساحلية، مع تركيز واضح على خلق الثروة من تعزيز التسيير المستدام للمياه الداخلية لأفريقيا ومحيطاتها وبحارها." وفق التقرير المنشور في موقع الاتحاد الافريقي (www.au.int/maritime).
كذلك أوردت الإستراتيجية البحرية المتكاملة لأفريقيا أن "تطوير المجال البحري الإفريقي يتطلب حلولا مبتكرة ونظم تسيير فعالة لضمان الاستدامة على المدى الطويل، فضلا عن تنفيذ القوانين والمواثيق الوطنية والدولية لمواجهة التحديات الحالية في ظل الحركية العالمية". لذلك تستضيف إدارة منطقة أفريقيا التابعة للبنك الدولي برنامج سياسات النقل في أفريقيا، والذي يمثل شراكة بين 41 بلداً أفريقياً، وثمانية تجمعات اقتصادية إقليمية، ومؤسسات قارية "مفوضية الاتحاد الأفريقي"، ووكالات للأمم المتحدة "اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة"، ومؤسسات بالقطاعين العام والخاص، ووكالات ومنظمات إنمائية دولية. ويركز برنامج عمل برنامج سياسات النقل في أفريقيا على التكامل الإقليمي، والقدرة على الانتقال بالمناطق الحضرية، والسلامة على الطرق – الركائز الثلاث التي ترسي الأساس لأنظمة نقل كُفْؤة وآمنة ومستدامة في جميع أنحاء أفريقيا، فضلاً عن إطار واسع لحماية والاستغلال المستدام للمجال البحري الإفريقي.
وتُظهر المقاييس الرئيسية لأداء الموانئ الذي أصدره البنك الدولي ومعلومات الأسواق الصادرة عن وكالة ستاندرد أند بورز العالمية أوجه تفاوت كبيرة في كفاءة الموانئ العالمية في عام 2021م. ففي القارة الإفريقية نجد مثلاً أن ميناء طنجة في المغرب يحتل المركز السادس، وهو أعلى تصنيف يحصل عليه ميناء في أوروبا وشمال أفريقيا. في حين يُعد ميناء "ماتادي" في جمهورية الكونغو الديمقراطية "الذي يحتل المركز رقم 171 على المؤشر" أفضل ميناء في أفريقيا جنوب الصحراء من حيث الأداء. ومن المتوقع أن تسهم الإستراتيجية البحرية المتكاملة لأفريقيا لعام 2050م في تحسين مستوى أداء الموانئ الافريقية.
أما السودان فهو يمتلك عدداً من الموانئ البحرية على البحر الأحمر (المنفذ البحري الوحيد للسودان) تقوم على إدارتها مؤسسة الموانئ البحرية، وهي شركة حكومية تأسست في عام 1974م، وتعتبر من أكبر هيئات وزارة النقل الاتحادية.
وتتمثل أهمية الموانئ السودانية في موقعها الذي يقع في منتصف المسافة تقريبا بين آسيا وشرق أوروبا، ما يجعلها مؤهلة لأن تكون مركزاً لصيانة وتأهيل السفن. ويعتبر ميناء بورتسودان الميناء الرئيسي في السودان، وهو مقسم إلى عدد من الموانئ المتخصصة هي: الميناء الجنوبي وهو مخصص للحاويات، والميناء الشمالي ويستخدم كمنفذ رئيسي لاستيراد السلع الاستراتيجية مثل الوقود والقمح والسكر، وميناء بشائر الخاص بعمليات تصدير نفط دولة جنوب السودان، بالإضافة إلى الميناء الأقدم في سواكن وهو مخصص لنقل المسافرين وصادرات الماشية.
وبحسب تقرير تحت عنوان" الموانئ السودانية باتت محورا للتنافس الإقليمي والدولي" تم نشره في صحيفة المال المصرية الالكترونية في أكتوبر2021 "أصبح ميناء بورتسودان في الآونة الأخيرة مكانا للتنافس الدولي والإقليمي وذلك لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية واستراتيجية. وزادت الأهمية بعد بروز ما يعرف بمكافحة الإرهاب العابر للقارات وحماية أمن البحر الأحمر الذي يعبر منه حوالي 20 % من التجارة العالمية و30 % من تجارة النفط".
ويتطلب وضع الموانئ حاليا في السودان بالضرورة حزمةً من الخطط والأعمال سعيا لتطويرها بسبب قدم بناها التحتية ومعداتها مما يعيق أداءها لدورها بالشكل الأمثل والمطلوب. ومن اللازم وضع الخطط العاجلة والمستقبلية المطلوبة لتطويرها لدعم دورها الاقتصادي الذي يتضمن مجالات عدة بالبلاد بوصفها المنفذ الحدودي الأهم لاستقبال الواردات وشحن الصادرات، ولما يمثله دورها كمحرك رئيسي لحركة التجارة الخارجية مع بقية بلدان العالم. لذلك هناك الكثير مما ينبغي على السلطات في بلادنا أن تقوم به لجعل الموانئ السودانية جاذبةً للدول الأفريقية والعالمية. كما يمكن أن تسهم الموانئ في بلادنا (وفي غيرها بالطبع) في زيادة تدفق المواد الأولية والمعدات اللازمة للعمليات الإنتاجية المختلفة بأسعار مناسبة بما يؤدي إلى زيادة الإنتاج المحلي في مختلف المجالات الصناعية والخدمية والزراعية بما يخدم تطوير المنتج المحلي وزيادة انتاجيته من أجل الوصول الى الاكتفاء الذاتي وتطوير الصناعة المحلية. ومعلوم أن للموانئ البحرية أهمية اقتصادية كبرى تتمثل في منافع عديدة للاقتصاد القومي لتحقيق ايرادات من العملات الاجنبية تقود إلى تحسين ميزان المدفوعات، وتشكل مورداً من موارد الدولة عن طريق تحصيل الرسوم الجمركية والعوائد والأجور. وتعتبر الموانئ البحرية من مشروعات المنافع العامة التي تمثل مركز الحلقة في سلسلة النقل المتكامل وربط البلاد بالعالم الخارجي وتساعد على دعم وتاكيد الاستقلال الاقتصادي والسياسي للدولة.
من أهم الاصلاحات التي يمكن أن تقوم بها الدولة في مجال الموانئ البحرية وهو الدخول في تحالفات بين الخطوط الملاحية ومشغلي محطات الحاويات بالموانئ سعياً لتشغيل الموانئ بشكل مشترك واحترافي، من أجل التوسع في الربط مع الموانئ الإقليمية خاصة دول القرن الإفريقي الواقعة على البحر الأحمر لتفعيل حركة سفن الروافد.
كذلك ينبغي العمل على إنشاء إستراتيجية وطنية سودانية خالصة تمشيا مع الإستراتيجية البحرية المتكاملة لإفريقيا لعام 2050م، وللمساهمة - كدولة أفريقية - في معالجة تحديات القارة الأفريقية البحرية من أجل التنمية المستدامة والقدرة على المنافسة، والعمل على المستوى الوطني بهدف تطوير اقتصاد بحري مزدهر وتحقيق الإمكانات الكاملة للأنشطة المتصلة بالبحر بصفة مستدامة وباحترام للبيئة. ووفقا لذلك فإنه من اللازم وضع خطة عمل تحدد الأهداف المطلوبة للأنشطة البحرية المطلوبة، وتحديد الأطر الزمنية والجهات المنفذة. ويمكن أن تشمل الأهداف قيام مؤسسات وهياكل جديدة تدير هذه الثروة (البحرية)، وتنمية الموارد البشرية بها، فضلا عن بناء القدرات في مجال الإدارة البحرية. ويمكن أن تتضمن الاتفاقات الاستراتيجية إعادة تأهيل البنى التحتية والفوقية للميناء وإنشاء أرصفة جديدة للسفن، وتأمين معدات حديثة مع زيادة حجم المناولة، على أن تلتزم وزارة النقل السودانية بربط الميناء بخطوط سكك حديدية حديثة.
إن النقل البحري في السودان يحتاج إلى مواجهة عدد كبير من التحديات أهمها والتنظيم والحوكمة، ورأس المال البشري والمهارات الابتكار والتكنولوجيا الحديثة، وجودة البنية التحتية فضلاً عن الأعمال والاستثمار. ويمكن القول بأنه قد حان الوقت للسودان كي يلتفت إلى الاستراتيجيات التي وضعها الإتحاد الافريقي في هذا الجانب، والتي تمثل ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لجميع الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي، خاصةً فيما يتعلق بمكافحة الفقر والبطالة. كذلك حان الوقت للسودان لإعادة النظر في كيفية إدارة ممرات مياهه الداخلية وبحره. فهي قد أصبحت مواقع للمنافسة اللإقليمية والعالمية في ظل تناقص مصادر المياه والحرب على الموارد الطبيعية. ولمراكز الممرات المياه دور مهم في وضع البنية الاساسية لمبادرات "الاقتصاد الأزرق" المستدامة التي من شأنها أن تكون النسخة البحرية للاقتصاد الأخضر، التي من شأنها تحسين معيشة المواطنين، مع الحد بشكل كبير من المخاطر البيئية البحرية ومحاربة الجرائم الناقلة عبر المؤاني .

nazikelhashmi@hotmail.com
//////////////////////////

 

آراء