اقْتِفاءُ المُخالِطين في عام 1903م: كيف تمكن رجل واحد من تفادي كارثة انتشار محتمل لوباء الجدري (في السودان) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
بدر الدين حامد الهاشمي
4 April, 2023
4 April, 2023
اقْتِفاءُ المُخالِطين في عام 1903م: كيف تمكن رجل واحد من تفادي كارثة انتشار محتمل لوباء الجدري (في السودان)
tracing in 1903: How one man turned around a potential smallpox disaster Contact
آن كريشتون – هاريس Ann Crichton - Harris
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال صغير عن اقْتِفاء المُخالِطين (ويقصد به ممارسة تحديد وإخطار ومراقبة الأفراد الذين قد يكونون على اتصال وثيق بشخص لديه حالة مؤكدة أو محتملة لمرض معد كوسيلة للسيطرة على انتشار العدوى) نُشِرَ في يناير 2021م بالعدد رقم 63 من المجلة البريطانية Sudan Studies for South Sudan and Sudan، ص 86 – 89.
وكاتبة المقال (آن كريشتون – هاريس، 1936 – 2022م) كاتبة بريطانية، عملت في مدينة تورنتو، وقد اشتهرت في كندا باهتماماتها البيئة والتراثية في بلادها منذ الستينات والسبعينات. ونشرت من قبل كتاباً عن جدها دكتور جون براين كريستوفيرسون، ذلك الطبيب البريطاني (1868 – 1955م) الذي عمل بالسودان بين عامي 1902 و1919م، وأنشأ أول مستشفى مدني بالخرطوم في 1909م، وأدخل لأول مرة في العالم دواء الدُّرْدِيُّ (الطرطير) المُقَيِّء tartar emetic كعلاج يعطى بالوريد ضد داءُ البلهارسيا. وتجد في هذا الرابط ترجمة لعرض لذلك الكتاب بقلم المؤرخ جبرائيل واربورج (https://tinyurl.com/2p83rbmh).
أوردت الكاتبة في مقالها صورة فتوغرافية لدكتور كريستوفيرسون وفريقه الطبي أمام مستشفاه المبني بالطين اللبن، قبل أن يتحول للمباني الجديدة في عامي 1905 -1906م، وصورة فتوغرافية أخرى له مع فريقه الطبي (الذي شمل عمال وممرضين وممرضات سودانيات) أُخِذَتْ عام 1914م.
وذكرت الكاتبة في الحاشية أن ما دفعها لكتابة هذا المقال هو أن ما قام به جدها كريستوفيرسون في السودان عام 1903م هو ذات ما قام به حديثاً العلماء والأطباء في المعاهد الوطنية الصحية NIH بأمريكا (وعلى رأسهم أنتوني فاوتشي) من إجراءات وقائية حيال وباء كوفيد 19، منعاً لانتشاره.
المترجم.
******* ******* ***** ********
سُجِّلَتْ في يوليو 1903م حالة لمرض الجدري في أمدرمان. وبعد ساعات من ذلك سُجِّلَتْ حالتان لطفلين في المدينة. وعلى الفور قام دكتور جون براين كريستوفيرسون (رئيس قسم الخدمات الصحية، وكان واحداً من أربعة أطباء بريطانيين فقط يعملون بالسودان في تلك الأيام) باستنفار الدكتور المصري حسن زكي مع عدد من العاملين في قسمه من السوريين والسودانيين لمواجهة ذلك المرض. وقام هؤلاء بتتبع مصدر العدوى، ووجدوا أنها أتت مع أشخاص قدموا لأم درمان من مدينة أخرى. وبعد ساعات قليلة من ذلك تم حظر تحركات الجنود والعاملين، وبدأوا في حملة تفتيش وتطعيم وحجر صحي لمن يُشَكُّ في اصابتهم بالمرض.
لقد كانت المرافق والوسائل الطبية في الأيام الباكرة من الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري بدائية، فقد بُنِيَ أول مستشفى بالبلاد بالطين اللبن وكان به ثلاثين سريرا فقط، ولم يكن له أبواب، حتى في غرفة العمليات الجراحية. وكانت من التحديات والصعاب اليومية التي تواجه ذلك المستشفى الصغير هي درجات الحرارة المرتفعة (التي تربو على 100 درجة فهرنهايت – نحو 38 مئوية) والهَبُوب العاتية، وعدم وجود مبردات، مع عدد لا يحصى من الأمراض المميتة أو المحدثة للإعاقة في كثير من الأحيان.
وقام الفريق الطبي بحجر المصابين في فناء (حَوْش) شاغر حوله بعض البيوت، وتم تعيين حارس للحوش يمنع الدخول إليه أو الخروج منه. وعلقت في معسكر الحجر الصحي أعلام صفراء. وكان أعضاء الفريق الطبي يقومون بعمل تطعيم أولي للمصابين في أَذْرُعهم. وإن لم تكن النتيجة مقبولة، يعاد تطعيمهم ثم يحولون إلى المستشفى.
وأرسل دكتور كريستوفيرسون برقية إلى السلطات بالخرطوم طالباً مده بخيام ولقاح اللمف (vaccine lymph)، وبعث بفريق يقوم – بصورة منهجية منتظمة - بمتابعة مدى انتشار المرض. وعندما تصل سفينة لأحد الموانئ يتم تفتيشها، وإن وجد بها مصاب بالجدري يتم رفع علم أصفر عليها (للتدليل على أنها موبوءة) لاثني عشر يوما، ويؤمر طاقمها بالبقاء فيها. وكان هذا من حسن الحظ، إذ أن بحارا ثانياً أصيب بالمرض بعد مرور 12 يوم آخر.
وكان الفريق الطبي يقوم، مع ظهور كل حالة جديدة، بعزل المصابين، وتنظيف الحوش وتأمينه. وكان المصابون في ذلك الحوش يُسَجَّلُونَ بأسمائهم. وكانت تلك استراتيجية ناجحة. وسرعان ما أدرك الدكتور بإن عليه إطعام من تم احتجازهم. وتم بالفعل توزيع كميات من الذرة لهم.
وأتخذ دكتور كريستوفيرسون عدداً من الخطوات لمنع تفشي الإصابة بالجدري. فكان يقوم بفحص كل الذين كان يذهبون من الحي المصاب في أم درمان إلى الحلفايا، على الضفة الأخرى من النيل. وكانت بالحلفايا قوات ومركز للجمارك وسوق ومحطة سكة حديد. وكان بإمكان كل ذلك نقل العدوى لشمال البلاد. وكانت هناك أيضاً بواخر يمكن عن طريقها نقل العدوى عبر النهر إلى الخرطوم. ونصح دكتور كريستوفيرسون بإبقاء كل الجنود في ثكناتهم بالخرطوم، وألا يأتي أحد منهم لأمدرمان. وتجاهل أصحاب البواخر والمراكب ما كتبه دكتور كريستوفيرسون لهم من خطابات يطلب فيها منهم عدم القدوم للخرطوم، إلى أن أرسل الدكتور خطاباً للحاكم العام يطلب منه التدخل لتنفيذ ما طلبه من أصحاب البواخر والقوارب. وبالفعل تم له ما أراد.
لقد كان دكتور كريستوفيرسون طبيبا شديد الحماسة لعلم الأوبئة. غير أن الحظ كان قد أدى أيضاً دوراً في الحد من تفشي العدوى. فقد علم الدكتور قبل عشرة أيام بأن بنتاً صغيرة كانت قد جاءت إلى ورش العمل المحلية، لكنها كانت مريضة للغاية بحيث لم تتمكن من العودة إلى منزلها. وكانت تلك البنت قد نامت في منزل أحد الأشخاص الذين تم إدخاله / إدخالها للحجر الصحي في اليوم السابق. أدرك الطبيب أن هذا هو المصدر المحلي للعدوى، وأنه لم يتم جلبه إلا قبل وقت قصير من اكتشافه، وبذا لم يكن لديه الكثير من الوقت للانتشار.
يتطلب اقْتِفاءُ المُخالِطين للذين أصيبوا بعدوى معينة طرح العديد من الأسئلة على الناس من أجل معرفة الأماكن التي زاروها أو أقاموا فيها، ومع من، وفي أي أوقات كانوا في الأيام السابقة. وكان يتم عزل كل من يُشَكُّ في تعرضه للإصابة لفترة 12 يوما على الأقل. ومع انخفاض معدلات الإصابة وعدد الحالات، كان دكتور كريستوفيرسون يسجل يوميا في دفتر ملاحظاته أسماء من أبَلّوا من مرضهم، ومن تعدوا مرحلة الخطر، ومن غادروا المستشفى. وأخيرا سمح الدكتور للقوارب المحتجزة بالتحرك.
وفي أغسطس من ذلك العام (1903م) أمر دكتور كريستوفيرسون أحد الرقباء برسم خريطة توضح باللون الأحمر أعداد الحالات والأبنية الموبوءة. وباعتباره طبيبا بريطانيا، لا بد أن يكون كريستوفيرسون على دراية بالعمل الطبي الوبائي وبالخرط التي أنجزها جون اسنو،1813- 1858م (طبيب التوليد الذي يُعتبر من مؤسسي علم الأوبئة الحديث. المترجم) الذي كان قد أجرى عددا كبير من المقابلات والكتابات التوثيقية، وتتبع مصدر داء الكوليرا في منطقة سوهو بلندن، الذي ثبت في عام 1854م أنه من الأمراض التي تنقل عن طريق المياه.
ومرض الجدري ليس مرضا جديدا على السودان. فقد انتشر فيه بين عامي 1885 و1899م ذلك الوباء خمس مرات بصورة كبيرة، ومرتين بصور أخف. وكان مما سهل انتشار الوباء في تلك السنوات الحركة التجارية عبر الصحراء، وطرق الحج إلى مكة.
ولم تُحْدَث الإصابة بالجدري في عام 1903م سوى 21 حالة (كانت بعضها حالات حرجة، إلا أنها لم تسبب أي وفيات). وبلا ريب فقد كان السبب في قلة عدد الإصابات يعود إلى طرق اقْتِفاء المُخالِطين التي تم انتهاجها في عام 1903م، والتي شابهت تلك التي اُتُّخِذَتْ في ووهان بالصين قبل أعوام قليلة. لقد أفلح دكتور كريستوفيرسون لأنه كان يمتلك السلطة، ويفهم في العلم، ويطبقه. لقد كان تعامله مع ذلك الوباء في السودان عام 1903م إنجازا يستحق الاعتراف.
alibadreldin@hotmail.com
//////////////////////
tracing in 1903: How one man turned around a potential smallpox disaster Contact
آن كريشتون – هاريس Ann Crichton - Harris
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذه ترجمة لمقال صغير عن اقْتِفاء المُخالِطين (ويقصد به ممارسة تحديد وإخطار ومراقبة الأفراد الذين قد يكونون على اتصال وثيق بشخص لديه حالة مؤكدة أو محتملة لمرض معد كوسيلة للسيطرة على انتشار العدوى) نُشِرَ في يناير 2021م بالعدد رقم 63 من المجلة البريطانية Sudan Studies for South Sudan and Sudan، ص 86 – 89.
وكاتبة المقال (آن كريشتون – هاريس، 1936 – 2022م) كاتبة بريطانية، عملت في مدينة تورنتو، وقد اشتهرت في كندا باهتماماتها البيئة والتراثية في بلادها منذ الستينات والسبعينات. ونشرت من قبل كتاباً عن جدها دكتور جون براين كريستوفيرسون، ذلك الطبيب البريطاني (1868 – 1955م) الذي عمل بالسودان بين عامي 1902 و1919م، وأنشأ أول مستشفى مدني بالخرطوم في 1909م، وأدخل لأول مرة في العالم دواء الدُّرْدِيُّ (الطرطير) المُقَيِّء tartar emetic كعلاج يعطى بالوريد ضد داءُ البلهارسيا. وتجد في هذا الرابط ترجمة لعرض لذلك الكتاب بقلم المؤرخ جبرائيل واربورج (https://tinyurl.com/2p83rbmh).
أوردت الكاتبة في مقالها صورة فتوغرافية لدكتور كريستوفيرسون وفريقه الطبي أمام مستشفاه المبني بالطين اللبن، قبل أن يتحول للمباني الجديدة في عامي 1905 -1906م، وصورة فتوغرافية أخرى له مع فريقه الطبي (الذي شمل عمال وممرضين وممرضات سودانيات) أُخِذَتْ عام 1914م.
وذكرت الكاتبة في الحاشية أن ما دفعها لكتابة هذا المقال هو أن ما قام به جدها كريستوفيرسون في السودان عام 1903م هو ذات ما قام به حديثاً العلماء والأطباء في المعاهد الوطنية الصحية NIH بأمريكا (وعلى رأسهم أنتوني فاوتشي) من إجراءات وقائية حيال وباء كوفيد 19، منعاً لانتشاره.
المترجم.
******* ******* ***** ********
سُجِّلَتْ في يوليو 1903م حالة لمرض الجدري في أمدرمان. وبعد ساعات من ذلك سُجِّلَتْ حالتان لطفلين في المدينة. وعلى الفور قام دكتور جون براين كريستوفيرسون (رئيس قسم الخدمات الصحية، وكان واحداً من أربعة أطباء بريطانيين فقط يعملون بالسودان في تلك الأيام) باستنفار الدكتور المصري حسن زكي مع عدد من العاملين في قسمه من السوريين والسودانيين لمواجهة ذلك المرض. وقام هؤلاء بتتبع مصدر العدوى، ووجدوا أنها أتت مع أشخاص قدموا لأم درمان من مدينة أخرى. وبعد ساعات قليلة من ذلك تم حظر تحركات الجنود والعاملين، وبدأوا في حملة تفتيش وتطعيم وحجر صحي لمن يُشَكُّ في اصابتهم بالمرض.
لقد كانت المرافق والوسائل الطبية في الأيام الباكرة من الحكم الثنائي الإنجليزي – المصري بدائية، فقد بُنِيَ أول مستشفى بالبلاد بالطين اللبن وكان به ثلاثين سريرا فقط، ولم يكن له أبواب، حتى في غرفة العمليات الجراحية. وكانت من التحديات والصعاب اليومية التي تواجه ذلك المستشفى الصغير هي درجات الحرارة المرتفعة (التي تربو على 100 درجة فهرنهايت – نحو 38 مئوية) والهَبُوب العاتية، وعدم وجود مبردات، مع عدد لا يحصى من الأمراض المميتة أو المحدثة للإعاقة في كثير من الأحيان.
وقام الفريق الطبي بحجر المصابين في فناء (حَوْش) شاغر حوله بعض البيوت، وتم تعيين حارس للحوش يمنع الدخول إليه أو الخروج منه. وعلقت في معسكر الحجر الصحي أعلام صفراء. وكان أعضاء الفريق الطبي يقومون بعمل تطعيم أولي للمصابين في أَذْرُعهم. وإن لم تكن النتيجة مقبولة، يعاد تطعيمهم ثم يحولون إلى المستشفى.
وأرسل دكتور كريستوفيرسون برقية إلى السلطات بالخرطوم طالباً مده بخيام ولقاح اللمف (vaccine lymph)، وبعث بفريق يقوم – بصورة منهجية منتظمة - بمتابعة مدى انتشار المرض. وعندما تصل سفينة لأحد الموانئ يتم تفتيشها، وإن وجد بها مصاب بالجدري يتم رفع علم أصفر عليها (للتدليل على أنها موبوءة) لاثني عشر يوما، ويؤمر طاقمها بالبقاء فيها. وكان هذا من حسن الحظ، إذ أن بحارا ثانياً أصيب بالمرض بعد مرور 12 يوم آخر.
وكان الفريق الطبي يقوم، مع ظهور كل حالة جديدة، بعزل المصابين، وتنظيف الحوش وتأمينه. وكان المصابون في ذلك الحوش يُسَجَّلُونَ بأسمائهم. وكانت تلك استراتيجية ناجحة. وسرعان ما أدرك الدكتور بإن عليه إطعام من تم احتجازهم. وتم بالفعل توزيع كميات من الذرة لهم.
وأتخذ دكتور كريستوفيرسون عدداً من الخطوات لمنع تفشي الإصابة بالجدري. فكان يقوم بفحص كل الذين كان يذهبون من الحي المصاب في أم درمان إلى الحلفايا، على الضفة الأخرى من النيل. وكانت بالحلفايا قوات ومركز للجمارك وسوق ومحطة سكة حديد. وكان بإمكان كل ذلك نقل العدوى لشمال البلاد. وكانت هناك أيضاً بواخر يمكن عن طريقها نقل العدوى عبر النهر إلى الخرطوم. ونصح دكتور كريستوفيرسون بإبقاء كل الجنود في ثكناتهم بالخرطوم، وألا يأتي أحد منهم لأمدرمان. وتجاهل أصحاب البواخر والمراكب ما كتبه دكتور كريستوفيرسون لهم من خطابات يطلب فيها منهم عدم القدوم للخرطوم، إلى أن أرسل الدكتور خطاباً للحاكم العام يطلب منه التدخل لتنفيذ ما طلبه من أصحاب البواخر والقوارب. وبالفعل تم له ما أراد.
لقد كان دكتور كريستوفيرسون طبيبا شديد الحماسة لعلم الأوبئة. غير أن الحظ كان قد أدى أيضاً دوراً في الحد من تفشي العدوى. فقد علم الدكتور قبل عشرة أيام بأن بنتاً صغيرة كانت قد جاءت إلى ورش العمل المحلية، لكنها كانت مريضة للغاية بحيث لم تتمكن من العودة إلى منزلها. وكانت تلك البنت قد نامت في منزل أحد الأشخاص الذين تم إدخاله / إدخالها للحجر الصحي في اليوم السابق. أدرك الطبيب أن هذا هو المصدر المحلي للعدوى، وأنه لم يتم جلبه إلا قبل وقت قصير من اكتشافه، وبذا لم يكن لديه الكثير من الوقت للانتشار.
يتطلب اقْتِفاءُ المُخالِطين للذين أصيبوا بعدوى معينة طرح العديد من الأسئلة على الناس من أجل معرفة الأماكن التي زاروها أو أقاموا فيها، ومع من، وفي أي أوقات كانوا في الأيام السابقة. وكان يتم عزل كل من يُشَكُّ في تعرضه للإصابة لفترة 12 يوما على الأقل. ومع انخفاض معدلات الإصابة وعدد الحالات، كان دكتور كريستوفيرسون يسجل يوميا في دفتر ملاحظاته أسماء من أبَلّوا من مرضهم، ومن تعدوا مرحلة الخطر، ومن غادروا المستشفى. وأخيرا سمح الدكتور للقوارب المحتجزة بالتحرك.
وفي أغسطس من ذلك العام (1903م) أمر دكتور كريستوفيرسون أحد الرقباء برسم خريطة توضح باللون الأحمر أعداد الحالات والأبنية الموبوءة. وباعتباره طبيبا بريطانيا، لا بد أن يكون كريستوفيرسون على دراية بالعمل الطبي الوبائي وبالخرط التي أنجزها جون اسنو،1813- 1858م (طبيب التوليد الذي يُعتبر من مؤسسي علم الأوبئة الحديث. المترجم) الذي كان قد أجرى عددا كبير من المقابلات والكتابات التوثيقية، وتتبع مصدر داء الكوليرا في منطقة سوهو بلندن، الذي ثبت في عام 1854م أنه من الأمراض التي تنقل عن طريق المياه.
ومرض الجدري ليس مرضا جديدا على السودان. فقد انتشر فيه بين عامي 1885 و1899م ذلك الوباء خمس مرات بصورة كبيرة، ومرتين بصور أخف. وكان مما سهل انتشار الوباء في تلك السنوات الحركة التجارية عبر الصحراء، وطرق الحج إلى مكة.
ولم تُحْدَث الإصابة بالجدري في عام 1903م سوى 21 حالة (كانت بعضها حالات حرجة، إلا أنها لم تسبب أي وفيات). وبلا ريب فقد كان السبب في قلة عدد الإصابات يعود إلى طرق اقْتِفاء المُخالِطين التي تم انتهاجها في عام 1903م، والتي شابهت تلك التي اُتُّخِذَتْ في ووهان بالصين قبل أعوام قليلة. لقد أفلح دكتور كريستوفيرسون لأنه كان يمتلك السلطة، ويفهم في العلم، ويطبقه. لقد كان تعامله مع ذلك الوباء في السودان عام 1903م إنجازا يستحق الاعتراف.
alibadreldin@hotmail.com
//////////////////////