اكتوبر 1964 .. مشاهدات ومحاولات للتحليل … بقلم: محمد المكي إبراهيم
مرة أخرى أكتوبر 21
Ibrahim ELMEKKI [ibrahimelmekki@hotmail.com]
تعود ذكرى ثورة الحادي والعشرين من أكتوبر فتمتلئ أوداج السودانيين بالنخوة والحماس،ومن تحت رماد الهزائم يسطع نور الأحلام الكبيرة التي حملتها أجيال السودانيين ممن عاصروا تلك الهبة الشعبية الكبرى للإطاحة بحكم عسكري مستبد ثم من جاءوا بعدهم وعاشوا انتفاضة ابريل 1985 التي أطاحت هي الأخرى بحكم عسكري فاسد. ويحلو للسودانيين النظر إلى المناسبتين كنهج ثوري متصل يعبر تمام التعبير عن شعب السودان الذي يصبر ويصابر حتى يظن مضطهدوه أنه قد استسلم واستكان، وعند ذلك يهب كالإعصار فتنهار وتتهاوى أمام طوفانه الكاسح معاقل المستبدين. وتعبر الثورتان بجلاء تام عن توق السودانيين الأبدي إلى الديمقراطية وتعلقهم بها ليس فقط كنظام عادل للحكم والتفاكر وإنما أيضا كوسيلة لتحقيق إنسانيتهم كأفراد ورثوا حرية الرأي والجهر به انطلاقا من خلفيتهم البدوية ولم يتعودوا السير قرب الحائط منكسي الهامات. ومن ينظر في تاريخ السودان يجد فيه مصداقا على وجود تلك الدورات المتعاقبة والانتقالات من السكوت على الظلم إلى الثورة عليه، فقد كان ذلك شأن السودانيين في الثورة المهدية في أعقاب استبداد دام ستين عاما وفي ثورة 1924 وفي القتال الباسل الذي خاضته قبائل الدينكا والنوير ضد الحكم البريطاني أول قدومه على البلاد كما كان ذلك شأنهم في ثورة الاستقلال وليكونن ذلك شأنهم إلى أن تنطوي صفحة المستبدين والطغاة وينتشر نور الديمقراطية في الأنحاء.
مضت عقود عديدة على ذلك التاريخ المجيد جرت خلالها مراجعات كثيرة حول هبة أكتوبر الشعبية فاعترفت الثورة ببعض ما تمتع به غرماؤها من فضائل وما وقعت فيه الثورة نفسها من خطأ أو قصور دون أن يحجب ذلك عن الثورة وهجها المؤتلق ولم يجردها من شرعيتها وتاريخيتها.وحاليا يميل السودانيون إلى الإعراب عن احترامهم للرجل الذي كان على رأس النظام الذي أطاحت به الثورة وهو الفريق إبراهيم عبود وليس ذلك فقط لفضائله الشخصية ( من نزاهة وتقوى وتواضع وروح أبوي وضعته فوق كل العسكريين الذين حكموا السودان) ولا لحسنات نظامه الذي يبدو الآن، وباستدبار المعطيات، أفضل حكم عسكري عرفته البلاد وإنما أيضا لروحه الأبوي وبعده عن ارتكاب الفظائع التي أقدم عليها من خلفوه في حكم البلاد.ويميل السودانيون إلى الاعتراف بالمظالم التي جرى ارتكابها باسم الثورة ويخصون بالذكر شعار "التطهير" الذي أطاح ببعض رجالات الخدمة المدنية في ذلك الزمان ثم صار سنة يتبعها الدكتاتوريون في الفتك بموظفي الخدمة المدنية واستبدالهم بقليلي الخبرة من المتظاهرين بالولاء.ولكن ما حرك الثوار عام 64 كان شيئا مختلفا عن كل تلك الاعتبارات فحينها لم يكن قد مضى على الاستقلال سوى ثمانية أعوام وكانت أحلامه لا زالت تملأ أفئدة الجماهير ثقة بمستقبل باهر يفتح أبواب التقدم والنماء أمام شعب ذكي وبلاد مليئة بالإمكانات.وإذا كان نظام الفريق إبراهيم عبود سريع الخطوة بالنسبة للعسكريين السلحفائيين الذين جاءوا من بعده فأنه كان بمقاييس زمانه بطيئا ومترددا وفقير الخيال.وكان الجمهور يرى إمكانية موثوقة لتحقيق المشاريع الإنمائية الكبرى في الداخل واللعب على حبال القطبية الثنائية لفترة الحرب الباردة في السياسات الخارجية بما يساعد البلاد على تحقيق أحلامها.
بعد عشرين عاما من انتصار هبة 21 أكتوبر استخدم السودانيون نفس الأساليب الكفاحية:الإضراب السياسي العام والتظاهر المستمر ليلا ونهارا إلى أن سقط نظام النميري وراح. وكان هذا الأخير قد تحسب لمثل ذلك اليوم وأخذ أهبته لمواجهة هبة شعبية من ذلك الطراز. والواقع أنه لم يأت السودان نظام دكتاتوري إلا كانت أكتوبر في طليعة هواجسه والاستعداد لها ونقضها على رأس أولوياته.ومع ذلك فشل تدبيرهم وداسته أقدام الثوار ولم يبق الآن سوى مواجهة أخيرة ينتهي بعدها عصر الدكتاتوريات والانقلابات إلى الأبد وتشرق شمس الديمقراطية من جديد.ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأنه قد تغيرت المعطيات فمنذ الستينات وإلى اليوم تبدل ميزان القوى المادية بين الشعوب والنظم الاستبدادية فاكتسبت هذه الأخيرة وسائل وتقنيات جديدة للقمع والتضليل.فقد ضم المستبدون إلى ترساناتهم الإذاعة والتلفزيون والرصاص المطاطي والغازات المسببة للشلل المؤقت والغثيان إلى جانب السيارات المصفحة وخراطيم المياه قوية الدفع وكافة علوم ووسائل السيطرة على الهياج الشعبي.وتطورت أجهزة الأمن من أيام "الصول الكتيابي" لتشمل أجهزة الأمن الأخطبوطية متداخلة الاختصاصات. أما معسكر الشعوب فلم يكسب شيئا سوى هذا الحلف العالمي ضد الدكتاتورية وهو حلف له أسنان ولكنه لا يريد أن يكشف عنها إلا في الحالات القصوى ولكنه ويل للمستبدين حين يقر النظام الدولي استخدامها لمصلحة الشعوب.فقد رأينا نظام ميلوسوفيتش يندثر تحت القصف ليقف من ثم أمام محكمة التاريخ في لاهاي وها هو النظام العراقي يفتح أبواب سجونه ومؤسساته التسليحية تحت النظرة النارية للشرعية الدولية المتوعدة وهاهم رفاق دربه القدامى يصابون بالذعر وتطيش أحلامهم وهو يرون بعين الخيال ما سيحيق برفيقهم القديم الذي ناصروا فتكه بالكويت والكويتيين في مراهنة غير ذكية على حصان خاسر يحتاج للتحذية على أحسن الفروض.
في ذات يوم تنازع الإسلاميون واليساريون على أبوة أكتوبر وعلى جثة القرشي شهيدها الأول ودارت حول ذلك المعنى مغالطات وجدل طويل فاليسار يدعي لنفسه تدبير الثورة وتحريك جماهيرها والإسلاميون يذكرون دور مرشدهم العام في مخاطبة الجماهير صبيحة الدفن وقبيل الثورة في ندوة مشهودة كانت ندوة أكتوبر التي فجرت الصدام تالية لها بأيام.ولكن الإسلاميين سكتوا عن ادعاء ذلك الفضل منذ أن تحالفوا مع الإمام النميري وبعده على مدى حكمهم الذي امتد 13 عاما حتى الآن.ويبدو أن حقهم أو نصيبهم من الحق في صنع الثورة قد سقط وراح لعدم الاستمرار في التقاضي خاصة بعد أن تحولوا إلى نظام عسكري دكتاتوري يتحسب هو الآخر للإعصار الاكتوبري الذي عودنا أن يهب فجأة ودون إنذار فيطيح بالعروش والأحلام النهارية ويضع حدا لصولة الذئب على الحملان. ولعل بعض المتأسلمين يخجل أن يكون لحزبه نصيب في أنجاح ثورة ديمقراطية مثل ثورة 21 أكتوبر وابنتها انتفاضة ابريل 1985 فيتستر على ذلك الجزء من تاريخ الحزب.ولا غرو في ذلك فإلى وقت قريب كان قائلهم يقول أن الديمقراطية كفر بواح لأنها تنصب الشعب مصدرا للتشريع والسلطات والأحرى أن تكون الحاكمية لله وحده ووضع الشعب شريكا للمولى سبحانه في السيادة والحاكمية عمل من أعمال الشرك بالله أحرى أن يتجنبه المؤمن الحقيقي.ولا يدري المرء أين يهرب المتأسلمون من قوله تعالى:"وأمرهم شورى بينهم" وغير ذلك من الآيات النيرات .ولكنهم قوم استباحوا كل شيء بما في ذلك الآيات النيرات ليعتلوا مركبة السلطة ويظلوا فيها ولو كانت تسير في الطريق المؤدي إلى جهنم وبئس المصير.
* *
بعد نجاح الثورة تسيد اليسار السوداني بصورة بدت منفرة للكثيرين مما ألب على الثورة عناصر الوسط واليمين، وبعد قريب من الأشهر الثلاث كان الحكم الديمقراطي الجديد ينكر على الثورة كونها ثورة إعمالا لمنطق شكلاني سقيم ويندد بمنجزاتها وينازع الطلاب واليسار وشرفاء العسكر شرف القيام بإشعال فتيلها وإنجاحها.ولم تمض أربع سنوات حتى كان العسكر يجثمون على صدر الشعب من جديد وللمفارقة كانوا يفعلون ذلك باسم الثورة الاكتوبرية التي قيل أنه كان لهم في أنجاحها دور مشهود إلا أن نصيبهم سرعان ما تمدد ليصبحوا آبائها الوحيدين ثم باخ بنظرهم كل ذلك فحكموا على ثورة أكتوبر بالنقض والبطلان وصار انقلابهم هو الثورة الحقيقية وظل الحال على ذلك المنوال إلى أن جاءت أكتوبر الثانية عام 1985 فأطاحت بحكم العسكر ولكن إلى حين ففي يونيو 1989 تسللت عصابة من الانقلابيين مرة أخرى لتطيح بالدستور والرئيس المنتخب وتفرض حكما ظلاميا هد قوي البلاد وألبسها لباس الخوف والجوع والذل والمسكنة ووضعها في مؤخرة دول العالم فقرا وجهلا وأوبئة وتصحرا فصارت عبرة لمن اعتبر.والآن تجنح شمس المتأسلمين إلى الأفول وذلك على مرحلتين: مرحلة التخلص من المرشد العام لجماعتهم وما يمثله من مبادئ والمرحلة الثانية هي مرحلة التخلي النهائي عن المبادئ والسير في ركاب العسكريين على نحو من الذل الفاجع والانهيار.ويخشى عقلاء السودانيين عقابيل هذه المرحلة الأخيرة حيث يسيطر على أقدار البلاد نفر من الخائفين المروعين في مرحلة حاسمة قد تنتهي بتقسيم السودان إلى دويلات.وليس أدل على ذلك الوجل من المناحة الرسمية التي حفت بصدور قانون سلام السودان في أمريكا والذي هو من أضعف ما صدر عن الإدارة الأمريكية من قرارات وهو أيضا لا يؤذي ولا يضر وليس له من قيمة سوى قيمته الزجرية ضد دولة أصبحت من طلائع الدول الناشزة وليس مستبعدا أن يقوموا بضمها إلى" محور الشر" في يوم قريب.
وختام القول إن ثورة أكتوبر قد دخلت التاريخ السوداني لتبقى وتعيش وتفرخ وإذا تأخرت في العودة لتخليص الشعب من آلامه فأن ذلك أمر متوقع في ظل التوازنات الجديدة بين الشعب وجلاديه.وحتم من الحتم أن يبزغ نورها مرة أخرى فتضيء سهوب السودان مرة أخرى بنور الديمقراطية الثاقب الوضاء وتترعرع في رحابها الأحلام القديمة بسودان جديد يتوثب لأخذ مقعده في طليعة الشعوب العارفة المدربة ولا نرى أن ذلك يوم بعيد.
من وقائع الثورة
أيام تدير الرأس(1)
في البدء كانت هنالك كلية غردون التذكارية التي طورها كفاح الخريجين السياسي إلى كلية جامعية وقفز بها الاستقلال إلى جامعة كاملة ثم أعطاها الاستقلال نفسه فرصتها الذهبية لتزيد أعداد منسوبيها وتتحول من جامعة صغيرة لبضع مئات من الطلاب إلى جامعة رحبة تضم الألوف.ويعود معظم الفضل في ذلك إلى جلاء الجيش البريطاني عن البلاد وأيلولة ثكناته إلى الجامعة الوليدة لتحولها إلى داخليات لطلابها .ولكنها لم تكتف بالثكنات الموروثة عن الاستعمار وإنما مضت تقيم المباني الجديدة في الميادين والملاعب والمساحات الخضراء التي آلت إليها لتزيد طاقتها الاستيعابية لطلابها المتزايدين.وبحلول عام 1964 كان العدد الأكبر من طلاب الجامعة يقيم في منطقة الثكنات السابقة بينما أخذت مباني غردون التذكارية تتحول إلى كليات ومعامل وقاعات للدرس والامتحانات.
في اكتوبر1964 تداعى طلاب الجامعة إلى ندوة سياسية قرروا عقدها في منطقة الثكنات السابقة أي في الداخليات التي تأوي القسط الأكبر من طلاب الجامعة وكان في ذلك رسالة غاب فهمها على السلطات الأمنية لذلك الزمان فقد كانت الندوة تقام في السكن الرسمي لغالبية طلاب الجامعة أي في الموئل الذي يفزع إليه أولئك الطلاب إذا اصطدموا بالسلطات في شوارع الخرطوم أو في الحرم الجامعي حول الكليات .أما إذا أقيمت الندوة في المنطقة التي يسكنها الطلاب فذلك يعني أنه لم يعد لأولئك الطلاب من خيار سوى المقاومة المستميتة دفاعا عن ملاذهم الأخير. وفي ذلك وجه شبه بالقطة الأسطورية التي تلجأ للهجوم متى أغلقت بوجهها الأبواب وأظلمت الغرف وهو بالضبط ما حدث في تلك الليلة التاريخية.فبعد افتتاح الندوة بدقيقة أو دقيقتين انطلقت مكبرات الصوت بأيدي قوات الشرطة تطلب من الطلاب فض الندوة والتفرق ولم تفكر الشرطة إلى أين يكون ذلك التفرق فالطلاب في منطقة سكنهم وليس لهم من مأوى ولا سكن سواها وليس لهم من ملاذ غيرها.ويبدو أن تلك المعاني كانت واضحة في ذهن ممثل اتحاد الطلاب المكلف بإدارة الندوة فقد رد على تلم النداءات بهدوء طالبا من الحضور التشبث بأماكنهم والاستمرار في الندوة.وعند ذلك أنقطع التيار الكهربائي عن المنطقة وانهمرت عليها الغازات المسيلة للدموع . وفي الظلام الذي ساد المكان فقدت قوات الأمن تفوقها النوعي (ميزتها النسبية بلغة الاقتصاديين) وانهالت عليها حجارة الطلاب فلم تعد تعرف ماذا تتقي ومم تروغ وبدلا من الهرب من وجه قوات الأمن وجد الطلاب أنفسهم ملتحمين بتلك القوات في صراع رجل لرجلMan to man وحين لجأت الشرطة إلى إطلاق الرصاص كان ذلك بمثابة صيحة اليأس الأخيرة فلم يعد أمام الطلاب من مناص سوى الاستبسال في المقاومة حتى النهاية وما بعد النهاية.
بعد قريب من الساعتين انجلت المعركة عن طلاب جرحى وعن أول شهيد لحركة الطلاب السودانيين - الشهيد القرشي الذي أردته رصاصة غادرة وهو يقف مع رفاقه في الصفوف الأمامية بمواجهة الشرطة.وحين نقول الصفوف الأمامية أعني الداخلية التي كانت تعرف باسم داخلية بحر الزراف فمن ناحيتها(من جهة الشمال)جاء الهجوم على الندوة وبحر الزراف هي الخط الأمامي واقرب الداخليات إلى المهاجمين.وهنالك حديث سخيف عن أن الشهيد العظيم كان متوجها إلى الحمام أو خارجا منه فأصابته رصاصة طائشة فذلك نفسه حديث طائش إذ كان مستحيلا في تلك الظروف أن يفكر أحد- مجرد تفكير – في أخذ دش بارد وقوات الشرطة تصوب نحوه غازاتها ثم طلقاتها القاتلة. وشخصيا لم أعرف الشهيد ولست معنيا بنوعية انتمائه السياسي ولكنني مهتم بأن تأخذ شهادته ملابساتها الحقيقية وبالتالي جلالها وتقديرها عند الأجيال فهو لم يكن فارا أو هاربا أو ساعيا للاختباء وقد لقي ربه في طليعة رفاقه وعلى الخطوط الأمامية- على خطوط النار والخطر.
لقد مات معه وبعده كثير من شهداء ذلك المساء وما بعد ذلك المساء ولكنه أخذ الاسم بتعبيرنا السوداني فقد كان أول رعيل الشهداء وقائدهم إلى جنات الخلود وتحت صورته المأخوذة عن الكارنيه الجامعي سارت مواكب الثورة إلى نصرها النهائي. إلا أنه وبسبب من شهادته المجيدة لم يطرف لنا جفن بقية ذلك المساء فقد كان مطلوبا منا التوجه إلى مشرحة مستشفى الخرطوم الملكي وحماية جثمانه الذي كانت القيادة الطلابية تخشى أن تحاول سلطات الأمن سرقته وإخفاءه عن العيون تسترا على جريمتها في اغتياله على ذلك النحو المنكر.وفي مكان كئيب مفروش بالحصى قضينا ليلتنا الدامعة منتظرين أن يأتي لصوص الجثث ويقع الاشتباك الكبير.ولكن أحدا لم يأت ليحاول ذلك الفعل القبيح ويبدو أن ترتيبا ما قد تم مع أطباء المستشفى فقد جرى تأمين الجثمان بصورة من الصور وصار مسموحا لنا العودة إلى داخلياتنا لنغتسل ومن ثم نتوجه إلى ميدان عبد المنعم (ذلك المحسن حياه الغمام) لتشييع الجثمان وإكمال ما بدأ من فعل الثورة المجيد.
أيام تدير الرأس(2)
بعد إفطار سريع مبكر عن مواعيده خرجت جامعة الخرطوم متجهة إلى ميدان عبد المنعم لتشييع الشهيد القرشي.وكان الحزن هو السمة الغالبة على ذلك المشوار الطويل ولكنه كان يتحول رويدا رويدا إلى غضب حارق مدمر.وكان مثيرا لأقصى درجة لقاء تلك المظاهرة الصامتة بمواكب من مختلف المدارس والنقابات والهيئات تتخذ هي الأخرى طريقها إلى ميدان ذلك المحسن حياه الغمام. ووقتها كان اكبر ميادين المدينة ولم تكن قد نشأت فيه أيا من تلك المباني التي شيدها فيه –فيما بعد – النظام المايوي البائد ولم يكن اسمه قد تغير إلى ميدان الأسرة بدلا عن اسمه القديم. وكان مؤثرا جدا منظر الموكب الصامت لطلاب المدرسة الإنجيلية الذين حملوا في مقدمة موكبهم قماشة سوداء دلالة على الحزن. ومع أن الوقت كان مبكرا إلا أن الكثيرين وجدوا الوقت لاستنساخ صور الشهيد ورفعها شعارات لتلك المواكب.
في الميدان الكبير وقفت شاحنة كبيرة عليها الجثمان وكان في قمتها الدكتور الترابي والدكتور حسن عمر. وقد تولى الدكتور الترابي الجانب الديني في مقتل القرشي منهيا حديثه برجاء للحضور بالتزام الهدوء بينما تناول الدكتور حسن عمر منه الميكرفون وقال كلاما مناقضا لفكرة التزام الهدوء.وبالفعل لم تكد تنتهي تلك المراسيم حتى قام الجمهور بقلب سيارتين من سيارات الشرطة وإشعال النار فيهما.وعلى اثر ذلك انطلقت من نفس الميدان أولى المظاهرات الاكتوبرية التي كان مقدرا لها أن تسقط النظام العسكري في اقل من أسبوع.
• *
بدا لي مهما جدا التعبير لعائلة القرشي عن تقديرنا لفقدها الجليل وللتضحية البطولية التي أقدم عليها ابنها المقدام ورأيت من المناسب المشاركة في التشييع والدفن في القراصة قرية الفقيد. وفي قرابة الخمسين من الزملاء ركبنا الشاحنات المتوفرة إلى تلك القرية التي دخلت التاريخ الكفاحي للسودان من أوسع أبوابه. وبعد الفواتح الأولى مع عائلة الشهيد تحرك جمعنا إلى مدافن القرية حيث رأيت للمرة الأولى في حياتي كيف يقوم أهلنا في الجزيرة بمراسم الدفن.فعلى تلك الأيام كان الدفن في كردفان يتم بطريقة مغايرة إذ كان هنالك دائما قرميد في استراحة المقبرة وكان من واجباتنا في الطفولة أن ننقله إلى حيث يحفر القبر الجديد ليتم رصفه فوق "ود اللحد" بقوة وإحكام ومتى تم ذلك شرعنا في إهالة التراب على المقبرة بالواسوق ثم تقبيبه(جعله على هيئة القبة) فوقها للضمان.أما أهل الجزيرة فكانوا يصنعون اللبن من تراب الجزيرة الأسود الكثيف ويضيفون إليه ما توافر من القشوش ويصنعونه بحجم اللحد ويرصونه فوقه إلى أن يتساوى ببقية القبر ومن ثم يهيلون التراب بالواسوق أيضا.
بكينا وهتفنا في المقبرة وردد الزملاء ورائي كلاما بسيطا من نوع:"هبي هبي يا نسمات الجنة..هبي هبي للشهداء"وذهب البعض إلى أنني ارتجلت قصيدة عند دفن الشهيد وذلك لم يحدث فقد كان الشعر يعتمل في خاطري طيلة الوقت وفي أول خلوة لي مع الورق أفرغت ما اختزنه قلبي من الحزن والفخار:
كان في قريته الذرة
مثقلة الأعواد بالثمار،
والقطن في حقولها منور، ولوزه نضار
وكان في العشرين لم ير
ألفا من الشموس مقبلة
ولم يعش هناءة الزفاف.
ولم يكن في فمه أكثر من هتاف
ولم يكن في يده أكثر من حجر
وكان في المقدمة
على خطوط النار والخطر
فجندلوه بالرصاص داميا منتفضا
وفي أكف صحبه قضى.
**
تعطر الثرى بدمه واختلج التراب
أجفل صبح قادم وشاب
وقف شعر النجم والأجنة
هب عليه بالرضا نسيم الجنة
ثم تصاهلت خيول المركبة
واصطففت أجنحها المرحبة
وهكذا على وسادة من الريش الوثير
تصاعدت إلى السماء روحه الزكية
إلى النعيم بطلا وثائرا
وقائدا رعيل الشهدا
ورمز إيمان جديد بالفدا
وبالوطن.
كان مفروضا أن يجد اسم القرشي مكانه في أسماء الشوارع والميادين وفي طوابع البريد التذكارية وقاعات الجامعات ولا اعرف من هو ذلك الذي حال دون تلك المظاهر للتكريم هل هي النظم السياسية المشغولة بنفسها عن الآخرين أم هو ذلك النزاع الأول حول الاتجاه السياسي للفقيد أم هو حرد عائلي نأى بنفسه عن الشهرة والهيلمانات.وفي كل الأحوال اعتبر ذلك نوعا من الظلم للشهيد الجليل سواء كان سببه النظم السياسية أو الرغبات العائلية . وما عدا تلك الحديقة في الخرطوم ثلاثة وذلك التمثال الذي صنعه له الفنان محمد عبد الله الريح ونصبه في مدخل الجامعة فليس هنالك ما يخلد تضحيته الكبرى وجوده بالروح من اجل ثورة الشعب فسلام عليه في الخالدين.
أيام تدير الرأس(3)
في أوائل الستينات بدا العالم صلصالا مطاوعا سهل التشكيل – كل شيء بدا ممكنا وكل العناقيد في متناول اليد..فلم يكن مستحيلا أن تتحول صحارينا إلى الخضرة اليانعة وتمتلئ سماواتنا بأبراج المداخن وتتحرر الكونغو وارتريا وموزامبيق وتقوم الوحدة القارية بين دول القارة الإفريقية تماما كما حلم بها نكروما ورفاقه. .وكان نكروما يحلم بالمستقبل الأفريقي الزاهر حيث تضيء الأمكنة النجمة السوداء التي نصبها في ميدان شهير بالعاصمة الغانية أكرا. وكنا أيضا نحلم ولكن دون أن نفرق بين الحلم والحقيقة والممكن والمستحيل فقد كان العالم يولد أمام أعيننا حارا وطازجا وكنا نعيش تلك الأيام التي تدير الرأس- أيام الاستقلالات الأفريقية والعالم-ثالثية.
في تلك الأيام وفد علينا محمد أبو القاسم، الفتى الاتحادي المتفلسف الذي رفض الانضمام إلى الجامعة مكتفيا بقدراته الشخصية على الاطلاع والنظر المستقل.وأيامها كان مساندا لحزب الشعب وزعيمه التاريخي الشيخ على عبد الرحمن الممثل الأكثر نصوعا للتيار التقدمي بين علماء الإسلام فقد كان بجبته وعمامته الأزهرية يتصدر جموع الناصريين يوم كانت الناصرية تعني التقدم والنهضة تحت النموذج اللاديمقراطي للتيار الناصري.وكانت رأس أبو القاسم تمور بألوان من القراءات الفلسفية والسياسية وأشكال من الرغبات والأماني الجيفارية هي التي دفعته إلى ارتريا وصحوتها السياسية الناهضة بقيادة عثمان سبي وبتمثلات بطولية للمقاتل الأسطوري إدريس عواتي.وهكذا ونحن في أول دراستنا الجامعية أتانا محمد أبو القاسم بالسيد عثمان سبي وأجلسه معنا في صالات الطعام الجامعية وتركه يثقفنا عن الدولة الإفريقية الصغيرة التي عهدت بها الأمم المتحدة إلى النجاشي ليتدرج بها نحو الاستقلال فاختار النجاشي أن يعقد استفتاء مزورا ويضمها إلى إمبراطوريته. وفي أول خطوة نحو التحشيد السياسي من اجل ارتريا دعانا محمد إلى السفارة الصومالية التي كان يزورها وفد وزاري صومالي لنعلن فيها قيام جمعية الصداقة مع ارتريا الثائرة.
كان عثمان سبي رحمة الله عليه ناظرا لمدرسة في ارتريا قبل أن يتفرغ لقيادة الثورة وكان رجلا بشوشا متواضعا ولكن فارق العمر بيننا وبينه لم يكن يفتح مجالا كبيرا للصداقة الشخصية.وفيما بعد وجدت رغبة الصداقة إشباعها الكامل في الثائر الشاب محمد نور(سفير ارتريا المستقلة إلى بكين وفي وقت من الأوقات رئيس الإدارة الآسيوية فيها) وفي المثقف الممتاز عمر جعفر الثوري(وأحيانا السوري).وكان محمد نور بشلوخه الشبيهة بفصدات البني عامر سهل المرور كمواطن سوداني وبسبب من غضارة سنه يمكن أن يكون طالبا في الجامعة. وربما لذلك نشأت بيني وبينه تلك الصداقة الشخصية التي عبرت عن نفسها يوم سرت إشاعة عن اعتقاله وربما إبعاده عن السودان في الأيام الأولى لحكم ثورة أكتوبر .فقد كتبت بوحي تلك الصداقة مقالة عن شخصه الودود ومناقبه الثورية وطالبت بالإفراج عنه وإطلاق كامل حريته في الحركة والدعاية لقضيته الارترية.وبعد أشهر من ذلك المقال ظهر محمد نور وأكد أنه لم يكن معتقلا وعلى العكس كان في مهمة ثورية لم يبح عن تفاصيلها وكان العزاء أن مقالتي ربما ساعدته على انجاز مهمته بتوفيرها نوعا من الغطاء لتحركاته بزعمها أنه رهين المعتقل.
دار الزمن دورته ومضت ثلاثة عقود على تلك الأحداث فقدنا فيها الاتصال وآثار أقدامنا على رمال الزمن ثم فجأة وفي حفل استقبال أقامه لنا الرئيس اسياس افورقي باسمرا لمحت وجه محمد نور بين الوجوه ولم يكن قد تغير فيه شيء عدا الشعرات البيض التي حفت بالوجه من مقدمة الرأس إلى الفودين.
غادرنا قاعة الحفل إلى الفناء الخارجي وتحت نجوم اسمرا الجبلية روينا لبعضنا باختصار ما فعلت بنا الدنيا وما حاولنا فعله فيها.وكان الوفد السوداني يقوم بمهمة عسيرة في العاصمة الارترية في ظل علاقات متوترة ورغبة مبيتة لإفشال مهمته وكان الدكتور الارتري الذي تفاوضت معه حول بيان الزيارة الختامي يرفض الإقرار بأن وفدنا قد جاء بناء على سابق دعوة واتفاق وكان محمد ملما بالتفاصيل ولكنه كان قلقا من تبني السودان للحركات الإسلامية الارترية وكان يؤكد لي أن بقاء ارتريا وسلامها رهن بتوازن القوى داخلها بين الإسلام والمسيحية فمتي فقد ذلك التوازن ضاعت البلاد. وكان يمثل على ذلك بصعود الإسلام في خمسينات القرن الماضي الذي روع المسيحيين وجعلهم يصوتون للوحدة مع إثيوبيا استقواء بها على الإسلام.وحاليا من الممكن أن يقود أي خلل في توازن القوى إلى حرب أهلية تمزق البلاد.
عدنا إلى قاعة الاحتفال وقدمني محمد للرئيس افورقي بصفتي صديقا قديما للثورة الارترية وربما كان في ذلك بعض العون للمهمة التي جئنا من اجلها ففي صباح اليوم التالي كان المفاوض الارتري ينقر على شباكي(وليس بابي) بفندق السلام الشديد التواضع ويدعوني للاستمرار في كتابة البيان الختامي للزيارة.
أيام تدير الرأس(4)
كان محمد أبو القاسم فتي اخضر اللون صافيه يتوج رأسه شعر ناعم أثيث.وكان على هيئة من الامتلاء وحسن البناء تميل به إلى القصر.وعندما يتحدث لغة المثقفين كان يغمض عينيه ويسترسل كأنما يقرأ من كتاب.ولكنه كان يحذق تماما كلام البلد وكلام السوق ولا أنسي يوم جاء إلى مجلسنا في نادي أساتذة جامعة الخرطوم في ذلك اليوم الدامي من أيام الثورة في أكتوبر وصاح فينا: قاعدين في الضللة يا أفندية والشعب محاصر القصر.ولم يكن ذلك خبرا صحيحا مائة بالمائة فقد كان حصار القصر في بواكير بداياته وقد قطعنا المشوار من الجامعة إلى القصر سيرا على الأقدام لنجد أن الناس اخذوا لتوهم بالتوافد على المكان ومضى وقت غير قصير قبل أن تتكامل عدتهم ويمثلوا حصارا حقيقيا للقصر.
وقفنا في الركن الأقصى للميدان من ناحيته الشرقية أي ناصية وزارة التجارة وكنا حائرين ولا ندري لماذا جئنا وما هو المطلوب منا إذ لم تكن هنالك شعارات محددة مطلوب منا ترديدها تعبيرا عن تلك الوقفة وقد تبادر لذهني ساعتها أنه كان علينا أن نبقى حيث نحن كنواة لكتلة بشرية ستظل تكبر وتكبر إلى أن يختنق القصر تحت وطأتها ويخرج منه بيرق الاستسلام.ولكن الأحداث حفرت مسارها الخاص وفرضت منطقها في النهاية فقد جاءت مدرعة صغيرة واطل منها وجه شديد الشبه بأحد أركان النظام العسكري الحاكم وذلك بقرينة سواد البشرة الفاحم والشلوخ القبلية المستعرضة. ويبدو أن الناس الذين كانوا في مسار المدرعة اسمعوها كلاما أو اعترضوا طريقها بصورة من الصور فبدأت بإطلاق النار. وكانت نارا اتوماتيكية كثيفة ولكنها متقطعة ومتعددة الاتجاهات.ورأيت الولد الشاب الذي يقف جواري يرفع يده إلى خاصرته حيث كان دم احمر فاقع الحمرة قد أخذ بالانبثاق.ولم يكن ذلك اندفاعا وئيدا من خلال الفتحة التي أحدثتها الرصاصة وإنما كان انبهالا للدم كأنك أخذت مدية وأحدثت بها فتقا عرضيا (أو طوليا) في قربة مملوءة فاندلقت محتوياتها كلها في وقت واحد.
تبعثر الناس في أرجاء المكان ودخل بعضهم في مياه النوافير المقامة وسط الميدان أما مجموعتنا أمام وزارة التجارة فلم يكن أمامها من مهرب سوى التقهقر إلى الخلف عن طريق شارع الجامعة ونحو الجامعة نفسها.ولكننا فوجئنا بأرتال طويلة من العساكر والضباط مصطفين على جانبي الطريق –على جانبيه وليس في وسطه فقد تركوا لنا ثغرة مفتوحة نتراجع عبرها إلى حيث جئنا.
كنا نحمل على وجوهنا سيماء هزيمتنا وغبارها وكان بعضنا حفاة ففي تلك المعارك غير المتكافئة يفقد المدنيون أحذيتهم وعمائمهم ووقارهم.وفي أحيان كثيرة أرواحهم. وخلال مرورنا بين صفين من المسلحين كان ممكنا إبادتنا بصورة كاملة ولكن ما حدث كان يدير الرأس حقا فبدلا من ضربنا ونحن مطوقون بذلك الشكل كان الضباط يلقون علينا كلمات التشجيع وينثرونها علينا كما تنثر الرياحين وباقات الورد على طابور انتصار .
غمغم في أذني احد الضباط: لا تركضوا ولا تهرولوا ..امشوا على مهلكم ..ليس هنالك ما تخشونه. وزعم احد الناس أن الضباط قالوا له أن يدلف الجمع إلى شارع الجمهورية ليواصل التظاهر.وقد عملنا بنصيحتهم وفي شارع الجمهورية الخالي من البشر رأيت أناسا يرشقون العمارات بالحجارة ورأيت السيدة زكية مكي ازرق (والدة الشاعر المبدع المعز عمر بخيت) طيب الله ثراها تصيح بالمتظاهرين أن يسلموها لهم (تريد الحكام وتريد الخرطوم) شعلة من النيران.وحين أكملنا الدورة عائدين إلى ميدان القصر من ناحيته الجنوبية هذه المرة كانت جمهرة من الناس تقاوم عضليا ولدا نوباويا محكم البنيان كان يريد أن يهاجم ثلة من العساكر قال أنهم قتلوا شقيقة للتو والحين.وكان خمسة رجال يأخذون بوثاقه فينهض بهم محاولا الاندفاع إلى قتلة شقيقه بيديه العاريتين .ولم تهدأ ثائرته إلا حين اقترح عليه احد العقلاء أن يذهب معهم إلى المستشفى ليرى هل قتيل شقيقه أم جريح يرجي شفاؤه .
وفي مستشفى الخرطوم الملكي كنا أمام بطولات من نوع آخر يقوم بها الأطباء السودانيون ذوي الوطنية العالية في إسعاف الجرحى بقلوب متعاطفة مع الشعب وضعت أطباء السودان في الذروة العليا من قمم الوطنية والعطاء.
وفيما بعد وبعد انقلاب 25 مايو عرفنا أن الضباط الذين رفضوا ضربنا وأفسحوا لنا طريق التراجع والقوا علينا كلمات التشجيع كانوا من الضباط الأحرار الذين انحازوا إلى أبيهم (الشعب) ضد قادتهم ورفاق سلاحهم من كبار الجنرالات. ورغم ما حدث بعد ذلك من انحراف مايو عن مقاصدها وبعد خيبة الأمل التي أصابتنا في البزات العسكرية على وجه العموم فأن ذكرى ما حدث في ذلك اليوم البعيد لازالت تشيع الدفء في قلبي وتملأه بالحنو والتسامح والحب لكل أبناء بلادي فعلى نحو من الأنحاء أدين لهم بهذه السنوات التي عشتها منذ تلك الأيام التي تدير الرأس وحتى الآن.
أيا م تدير الرأس(5)
في مساء ذلك اليوم التاريخي أذاع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بيانه القائل بتسليم السلطة للمدنيين وذلك بعد خمسة أيام من التظاهر والشغب وممارسة العصيان المدني من قبل جماهير الأمة السودانية.وبقدرة قادر كانت جماهير الثورة تعود لتملأ الشوارع من جديد ومرة أخرى كنا نهرول-أنا والشاعر محمد عبد الحي- نحو مركز المدينة لنلتقي بجموع من الناس يمارسون فرحهم الجنوني بساعة الانتصار.وكانت السعادة الحقيقية تملأ أرواحهم وتفيض من ملامحهم وكانوا يحملون أغصان النيم ويرقصون على أنغام موسيقى داخلية تصاحب هتافهم الموقع المنغم"في خمسة أيام هزمناهم ..في خمسة أيام هزمناهم." وكان للرقصة خطوات واسعة تدور حول نفسها ولكنها تتقدم للأمام مصحوبة باهتزازات أغصان النيم في الأيادي.
في أمثال تلك المناسبة تتوحد ذوات الإفراد بصورة هولستية (كليانية فيما يقولون) في جسم جديد هو حقيقة أكبر من مجموع أجزاءه . فالمظاهرة المؤلفة من أفراد تتحول إلى وحدة جديدة أوفر طاقة وإبداعا واذكي و أعقل وأكثر كرما من مجموع المساهمين فيها. فقد كانت المظاهرة ترقص وتغرد وتفكر بصورة أفضل مما يستطيع أي عدد من المشاركين فيها. وبينما هي تدور حول نفسها صاح صائح:"إلى الجامعة لتحية طلابنا الأبطال" ودون مناقشة ودون تصويت أجيزت الفكرة واتجهت الرقصة جهة الجامعة.وبعد الجامعة سمعنا من يقول :إلى المستشفى لتحية جرحانا الأبطال فاندلقت المظاهرة في شارع الطابية وتجاوزت الشوارع المقاطعة جميعا لتصل إلى شارع "الاسبتالية"وتدخل فيه متجهة نحو الأبواب الشمالية لمستشفي الخرطوم.وشارع الاسبتالية شارع هادئ يمتد شرقا وغربا من شارع الطابية حتى يتقاطع مع شارع القصر وهو مثل شارع البرلمان سيء الإضاءة إذ تضيئه عمدان متباعدة وأضواء قليلة تتسلل من بيوته الصغيرة .وفي ذلك الشارع كان يقع منزل الوزير الدكتور أحمد محمد على وزير الصحة أيامها وهو من الشخصيات النزيهة المحبوبة بين طاقم الحكم وكان مسافرا خارج البلاد في مهمة رسمية ويبدو أن ذلك هو ما روع ساكني داره فقد تحلقوا حسب رواية الشرطة حول جندي الحراسة الوحيد وطلبوا منه أن "يشد حيله" ويحمي الدار من المتظاهرين.
كان ذلك سوء فهم كبير فقد كان المتظاهرون يعبرون نحو المستشفي ولم يكن احد منهم يعرف أن سكن وزير الصحة يقع في ذلك الشارع وفوق ذلك لم يكن احد منهم يحمل ضغينة من أي نوع لذلك الوزير الذي أتت به إلى كرسي الوزارة نزاهته وهمته في العمل خاصة وهو من مواطني حلفا الذين كانت لهم جولات معروفة في مقارعة الحكم العسكري الذي هجرهم من مواطنهم التاريخية لقاء ثمن بخس ليقوم السد العالي على أشلاء تاريخهم وحضارتهم.
أطلق جندي الحراسة طلقتين فسقط شخص له هيئة العمال وتوقفت المظاهرة عن رقصها السعيد وأفرخت للحظة والتو قادتها الجدد الذين قالوا للمتظاهرين:"ننطلق معا ونهجم عليه ونجرده من السلاح." وضرب ثلاثتهم "الروري"ووثبت المظاهرة إلى الأمام كما يثب الفهد ولكنها عادت وتجمدت مكانها حين انطلقت طلقتان أخريان وصاح شخص:لقد أصابني في ذراعي.
فكرنا أن أفضل الحلول هو أن نترك ذلك الشارع ونسلك شارعا غيره فانحرفنا- أنا وعبد الحي في شارع جانبي بأمل أن ندعو المظاهرة إلينا ولكننا ما كدنا ندخل الشارع حتى اصطدمنا بسيارة مرسيدس بنية اللون من ذلك النوع المخصص لكبار قادة الجيش والوزراء وكان فيها أربعة أشخاص قدرنا أنهم مسلحون على الأقل بالسلاح الشخصي وفي غمضة عين كنا نتسلق حائط احد البيوت ونحتمي داخله وفي نفس الوقت انطلقت السيارة الحكومية بأقصى سرعة عائدة من حيث أتت.فتسلقنا الجدار مرة أخرى عائدين إلى مظاهرة الفرح المتحول إلى مأساة.وبالفعل كان هنالك مصابان مستلقيان على قارعة الطريق ينزفان وكان عقل المظاهرة يعمل بسرعة الحاسوب باحثا عن أساليب أخرى للمواجهة.ولكن كومر البوليس جاء من الاتجاه المعاكس وأخذ الجندي المستسلم ودعا المظاهرة إلى المرور. ومن لا مكان تجسد أمامنا عدد من السياسيين الحزبيين ودعانا احدهم لأن نهتف معه يعيش فلان زعيم الشعب فتأبينا عليه وخرج له عامل من رفاق العامل الجريح فغمس كفه في دم صاحبه المراق على أسفلت الطريق ورفعها في وجه السياسي صائحا فيه :هذا الدم هو زعيم الشعب..اهتف معنا بحياة هذا الدم .وفي غمضة عين كان السياسي ومجموعته يلوذون بالفرار.
أيام تدير الرأس(6)
في ذلك المساء الحزين جاءني في غرفتي بداخلية عطبرة وعلى ملامحه مظاهر انزعاج عميق فقد سمع أن جمهوراً من الغوغاء يحاصر الجنوبيين في دار النشر المسيحي بشارع القصر ودعاني للذهاب معه إلى مسرح الأحداث لنرى ماذا يمكن أن نفعل من أجل فك الحصار عن المحاصرين.
كان ذلك في أمسية الأحد الدامي حين تدافع الجنوبيون إلى مطار الخرطوم لاستقبال وزير الداخلية الجنوبي أو بالأحرى أول جنوبي يتقـلد وزارة سيادية بعد أجيال من التهميش والانحشار في وزارة الثروة الحيوانية دون غيرها من الوزارات. وكما هـو معروف تأخرت طائرته في الإقلاع من ملكال وبالتالي في الوصول إلى الخرطوم فسرت بين المستقبلين شائعات تقول أنه قد قتل. وهكذا بدأ الشغب دون تخطيط وبتأثير من الغضب والانفعال.وبعد ساعة أو ساعتين كان الانفعال قد استهلك نفسه كما تستهلك النار أحطابها وعند ذلك بدأت ردة الفعل العنيفة عند الشماليين.
حين وصلنا إلى دار النشر المسيحي(شارع القصر قبالة سينما كلوز يوم( كان المكان محتشدا بالناس ولكن معظمهم كان من المتفرجين إلاّ أن نفرا قليلا منهم كانوا يجوسون بين الناس وبأيديهم جركانات البنزين وهو يهددون بسكبها على غرف الدار وإشعالها. وكان بعضهم قد مضى من التهديد إلى التنفيذ قبل حضورنا فقد كان هنالك آثار حريق على جدران الدار الخارجية. وبالصدفة ظهر من بين الحضور المرحوم الأستاذ جمال عبد الملك (ابن خلدون) فروى لنا كيف قامت الغوغاء بمهاجمة الجنوبيين المحصورين في الدار وكيف أن احدهم أشعل النار بالفعل فخرج معظم المحصورين ولاذوا بالفرار ولكن بقية منهم لازالت موجودة داخل الدار.
أخذنا نتحدث إلى حملة الجركانات الذين كانوا يريدون من الجمهور أن يمدهم بالبنزين من سياراته لينفذوا نواياهم في الإيذاء ثم تحدثنا إلى الجمهور محذرين من التعاون مع حملة الجركانات.وكان عبد الحي أعلانا صوتا حتى أنه أنتهر الكثيرين منهم انتهارا.ولم يكن ابن خلدون اقل منه في الإقناع. وفجأة ظهر من خلفنا صوت يقول:''في هذا المكان إسرائيليون يبعثون معلومات مباشرة إلى تل أبيب'' فقال ابن خلدون :أنا المقصود بهذا الكلام ومن الأفضل أن ننصرف.وكان ذلك باباً من أبواب الحكمة فتركناه ينصرف وأنا وعبد الحي ركبنا الطراحة عائدين إلى الجامعة.وهنالك في موقف الطراحات عبر الشارع من مسجد الجامعة كان موقف مماثل ينتظرنا فقد كان غوغائيون يوقفون سيارات التاكسي المتجهة إلى الخرطوم بحري ويتفحصون ركابها فإذا رأوا فيها سحنة جنوبية أمروها بالنزول. ودون تردد هجم محمد على الغوغائيين وأمر التاكسي بعدم الانصياع لطلبهم والاستمرار في مشواره. ثم أحاطت بنا وانضمت إلينا ثلة كبيرة من طلاب الجامعة من المعارف وغير المعارف فكلما استوقفت الغوغاء مركبة بادروا إليها وأمروها بالمضي في طريقها المرسوم غير مبالية بهم.وفي نهاية الأمر تقلصت أعداد الغوغاء وغمغموا بكلام سيء عن كوننا طلبة خونة واختفوا عن الأنظار وعادت الطريق إلى بحري سالكة.
أتذكر محمدا كثيرا ودائما أتذكره في مواقف بطولية يعبر فيها بالعمل عن قناعاته الفكرية.فلم يكن يعرف الفصام بين ما يكتب المرء وما يفعل في معايشة الواقع فقد أوتي من الجرأة والجسارة ما يكفي عشرة رجال.
ألف رحمة ونور على محمد عبد الحي الذي حسدتنا عليه المقادير وانتزعته من بين أيدي محبيه ومعجبيه وعارفي أفضاله وهو في عز الشباب والفتوة.
أيام تدير الرأس(7)
حظر التجول
في مساء الثالث والعشرين من أكتوبر 1964 كنت في زيارة للأهل بامدرمان وقبل أن يوغل الليل قررت أن أعود إلى الجامعة فقد كنت طالبا تلك الأيام وكنت مهتما بحضور كل مشاهد الثورة التي كانت أيامها تعتمل في البلاد وتتخذ من الجامعة محور ارتكاز لها.
أخذت التاكسي مع مجموعة من الغرباء لنتقاسم الأجرة بيننا على طريقة “الطرحة” وما كدنا ندخل جسر النيل الأبيض حتى راح الراديو يذيع بيانا لوزير الداخلية اللواء محمد احمد عروة بحظر التجول في طرقات الخرطوم ويوجه كل من ليس معه تصريح بالتجول بالذهاب إلى أقرب قسم للشرطة للحصول على واحد.وبعد استماع البيان مرة ومرتين قررنا ركابا وسائقا أن نذهب إلى القسم الأوسط لنحصل على التصريح المطلوب.وما أن نزلنا من سيارة الأجرة حتى انطلق السائق مغادرا المكان
- يا زول تعال وخد ليك تصريح
- يا راجل أجرتك .. فلوسك يازول
ولكنه لم يكن راغبا في صحبتنا أو دخول القسم معنا فاكتفى بالصياح من بعيد
-القروش عفيتها ليكم.
ولا أدري لماذا تصرف الرجل على ذلك النحو فقد كان الحصول على التصريح عملية سهلة يقوم بها ضابط محايد لم يوجه إلينا أي عتاب ولا حتى أسئلة استنكارية مكتفيا بوضع أختامه على الاستمارة التي ملأناها وكان التصريح يقول بعد الديباجة:
أنا اللواء محمد احمد عروة- وزير الداخلية- اسمح
للسيد (فراغ) بالمرور من القسم الأوسط إلى (فراغ).
وقد ظل ذلك التصريح ضمن مقتنياتي لعشرات السنين حتى قمت بتمزيقه في واحدة من لحظات اليأس والقنوط وأنا أتهيأ لمفارقة الأوطان والبعد عن الأهل والخلان قريبا من عام 1995
كان ليلا حالكا وأنا أسير بصورة مستقيمة في شارع الجامعة المظلم إلا من بضعة أضواء تشع من البيوت السكنية المخصصة للوزراء وكبار الموظفين.وكانت وحدات صغيرة من الجنود تربض في الأركان وأول دخولي الشارع ناداني احدهم يا زول وسألني ماشي وين وتلك الأيام كانت بيننا وبين الجيش الغباين فقدمت له التصريح ولكنه لم ينظر إليه فقد كان المكان مظلما وليس فيه من الضوء ما يكفي لقراءة تلك الورقة الباهتة المستنسخة بآلة رونيو منهكة من كثرة الاستخدام. وبعد أن توغلت في الشارع لم يعد الجنود يسألونني أو يهتمون بأمري فشرعت أحاول لفت أنظارهم بالنحنحة أو إصدار أصوات السعال أو ركل أي علبة فارغة تصادفني في الطريق لينتبهوا أن إنسانا يعبر في ذلك الخفوت فلا يطلقون النار.إلا أن ذلك كان تهيؤا سببه تلك الغباين فالواقع أنهم كانوا لطيفين جدا وربما كانوا في فرارة أنفسهم متعاطفين مع الثورة كما برهنت الأحداث لاحقا.وبعد يومين من المرور في ذلك الشارع الخافت الإضاءة كان الضباط السودانيون الأحرار يبرهنون على انحيازهم إلى جانب الشعب ولكن دون جلبة وضوضاء.فقد رفض المعسكرين في شارع الجامعة ضرب الناس الذين خرجوا في مظاهرة القصر( إلى القصر حتى النصر) وكانوا سببا غير مباشر في انتصار الثورة في اليوم الخامس لاندلاعها.
لقد أتاح لي ذلك اليوم أن أرى خرطوما نادرة أشبه ما تكون بامرأة تعاني وحدها عذابات الطلق وتكتم تأوهاتها عن أسماع العابرين وفي ذلك كتبت قصيدة أو مقطوعة قصيرة تعبر عن مقتي لحظر التجوال وحظر الكلام وكافة أنواع المنع والقمع والحجر والحظر.
بالأمس في المساء أقبل الجنود وعصبوا عيوني
وكالجواري الناشزات قيدوني
وعندما خرجت سائرا تصايحوا على:قف-وفتشوني
في كل باحة أحببتها
انتصبت حوائط السكون
لم يبق في الرصيف حجر على حجر
أنكرني المصباح والشجر
كأن في السفوح برصا وفي فم المدى حجر
وفي المدى سدود- وللخطى حدود:الصمت والجنود
يزنون بالشوارع التي أحببتها وبالحدائق الواسعة العيون
*
قابضة على الحديد
تمخضي خلف البيوت المغلقة
بين سدوف حقدك الحارقة المحترقة
ولتلدي ثورتك الأولى وبعثك الجديد
بين أكتوبر وابريل
فرق ما بين الخيبة والأمل
لا أرى اليوم أثرا لذلك الجدل الذي نشب بعد الأشهر الأولى لثورة أكتوبر حول كونها ثورة أم انتفاضة فقد رسخت في أدبنا السياسي بوصفها الثورة الأم في تاريخنا المعاصر وبوصفها المرجعية النهائية للعمل الثوري في البلاد. وقد جاءت الانتفاضة في رجب/أبريل لتؤكد على جدارة اكتو بر باسم الثورة ليس فقط لأن هذه اتخذت لنفسها صفة الانتفاضة تاركة صفة الثورة لتلك بل لأن الانتفاضة في حركيتها ويومية أحداثها قدمت نفسها كأثر من آثار أكتوبر الأمر الذي يثبت من جديد أن أكتوبر قد أصبحت نموذجا نضاليا أن لم يكن علامة تجارية على الثورة في السودان وأنها قد تسربت في حنايا تاريخنا المعاصر كما تفعل المياه الجوفية في الصحارى.وبقليل من الحفر والتنقيب يمكن أن تتفجر نبعا أو واحة في الصحراء.
وكانت الدولة المايوية منذ أيامها الباكرة تتحسب لعودة تجربة أكتوبر وتسعى لتطويقها ومنعها من الحدوث ولقد صرح أكثر من مسئول - نصا- بأن أكتوبر لن تعود فقد اتخذوا لذلك الأهبة وأعدوا لها ما استطاعوا من رباط الخيل وقوات الاحتياطي المركزي، ورغم ذلك فأن أحداث الانتفاضة في رجب/أبريل كانت استعادة لأحداث أكتوبر وقع الحافر على الحافر من حيث أن كلتيهما هبة شعبية صاعقة أفقدت النظام صوابه وقضت عليه في بضعة أيام من التظاهر والحشد الشعبي والإضراب السياسي.
يضع المؤرخ المصري حسين مؤنس اختبارا بسيطا لتمييز ما هو ثورة عما هو ليس بذلك فيطالبنا أن نسال أنفسنا هل عادت الحياة سيرتها الأولى بعد حدوث الثورة أم تغيرت بشكل لا رجعة فيه.وإذا أجرينا ذلك الاختبار البسيط فسنجد أن ثورة أكتوبر قد أدخلت على حياتنا السياسية علامة فارقة لم تكن متوفرة فيها ولا سبيل لمحوها أو إزالتها عنها فقد أدخلت في روع الشعب يقينا جازما بأنه عندما تسوء الأحوال ويفتري الحاكمون فأن السودانيين سيضعون أيديهم في أيدي البعض ويعيدون تجربة أكتوبر وبذلك تكون أكتوبر قد انتقلت بشعب السودان من حالة كونه شعبا اعزل ضعيفا إلى شعب مسلح بالثقة واليقين ومزودا بإمكانيات الفاعلية والتأثير.وأريد أن اكتفي بهذه العلامة وحدها تاركا غيرها من الآثار الاكتوبرية في الفكر والمفاهيم السياسية التي غدت مشتركة بين الحكام والمحكومين وكانت قبل ربع قرن من الزمان شعارات وهتافات لجماهير غاضبة تخرج إلى الشوارع ولا تضمن العودة إلى بيوتها.
وكان هنالك جدل آخر حول بنوة أكتوبر لهذا الحزب أو ذاك وهذا التيار أو ذاك من تيارات الفكر والسياسة في السودان ونرى الآن أن ذلك الجدل قد خمد وحل مكانه إجماع شعبي على بنوة الثورة لشعب السودان على إطلاقه وبمختلف فئاته واتجاهاته فأصبحت إرثا عاما للجميع وذلك أيضا حسن لأنه حقيقة والحقيقة دائما حسنة.
وواقع الحال أن الثورة في أكتوبر لم تكن في الجوهر صراعا لهذا الحزب أو ذاك مع السلطة القائمة أو تصفية لحسابات هذا الحزب أو ذاك مع جنرالات نوفمبر بقدر ما كانت استكمالا للثورة السياسية على الاستعمار والتي انتهت مرحلتها الأولى بإعلان الاستقلال في يناير 1956وبدأت مرحلتها الثانية بالتململ الشعبي ضد الحكم الوطني ثم تزايدت مع حكم الجنرالات وبلغت ذروتها بأحداث الحادي والعشرين من أكتوبر المجيد.وظني أن أكتوبر كانت وستكون حتى لو لم يأت الجنرالات إلى الحكم وحتى لو لم يرتكبوا الأخطاء التي وقعوا فيها.
مستفيدين الآن من استدبارنا لأحداث التاريخ نستطيع أن نستغرب مع العقل الشعبي في حكمة الثورة على حكم أبوي كحكم الفريق إبراهيم عبود الذي أنتهج نهجا تنمويا معقولا وشيد مشاريع ناجحة (رغم انها قليلة) واحتفظ برصيد متواضع من الفساد الإداري والاقتصادي .ويذهب العقل الشعبي بعيدا في وصف الرخاء وتماسك الاقتصاد خلال تلك الفترة منوها بالأسعار المتدنية وتوفر المعدوم وغير المعدوم في أسواق الخرطوم ومستشهدا بتلك الحادثة الفريدة التي دخلت تاريخنا الشعبي (سواء حدثت أم لم تحدث) حين هتفت الجماهير للفريق عبود بعد زوال حكمه مرددة : ضيعناك وضعنا وراك.
صحيح أنه ليس من حكم بلا أخطاء ولكن تجربتنا التاريخية مع نظام مايو وضعت نوفمبر تحت أضواء باهرة وجعلته يبدو في هيئة زمن طيب يستحق التذكر والحنين.إلا أن هذا كله يحدث بتغذية استرجاعية تستدبر الأحداث إلا ان الأمور بدت بشكل مختلف حين كنا نستقبلها وهي تجري أمام أعيننا..
لم يكن العيب الأساسي في النظام نفسه –ذلك صحيح رغم العيوب الكثيرة للنظام -ولكن بذرة الثورة كانت هنالك لأن السودانيين في تلك الفترة كانوا يريدون من عجلة التاريخ أن تسرع في الدوران وكانوا يتوقون إلى تنمية بلادهم وتحديثها وإلحاقها بركب العصر .وكانت التجربة الناصرية في مصر تدخل أرواحهم بخطوات النار والحريق وتتركهم يتحسرون على العملاق النائم الذي هو بلادهم ذات الإمكانات والخيرات
وينبغي أن لا ننسى أن الفارق الزمني بين أكتوبر ورفع العلم هو ثمان سنوات وأن الشعب كان لا يزال محتشدا بروح الاستقلال التي أخرجت الاستعمار ورفضت دخول مؤسسة الكومنولث ثقة بقدرتها على تسيير الأمور نحو الأفضل بخطوات متسارعة وتحويل بلادها إلى قطعة من العصر في أوجز الأزمان. إلا أن ذلك أو بعضا منه لم يحدث على عهد الديمقراطية الأولى ولم يحدث بالصورة الكافية على عهد الجنرالات وبدأت تظهر على الجماهير أعراض الخيبة وعدم الرضا عن وعد الاستقلال الذي لم يتحقق وحلمه الذي لم يتحول إلى واقع معاش أو بعبارة أخرى راحت الجماهير تحلم باستكمال استقلال البلاد عن طريق النهضة والبناء الاقتصادي الذي يحقق للبلاد النمو السريع والتحديث .وبذلك المعنى فأن ثورة أكتوبر هي غضبة الشعب على وتائر النمو البطيئة وتعبير عن رغبته في استكمال استقلاله السياسي باستقلال اقتصادي راسخ الأقدام.
من هذا المنظور بدت حكومة نوفمبر عقبة في طريق الاستقلال الاقتصادي والتنمية السريعة والتغيير الجذري لوجه الحياة في السودان وكان شعار الحكم القائل:احكموا علينا بأعمالنا موضع تندر لدى الجماهير التي كانت تشعر أن بالإمكان أحسن كثيرا مما هو كائن، وأنه لو أتيح للقوى الحديثة أن تتولى مقاليد الأمور فأن التغيير الاجتماعي سيحدث والتنمية السريعة ستنجز وستدلف البلاد بثقة كاملة إلى القرن العشرين..
هاهنا يكمن فرق جوهري بين ثورة أكتوبر وانتفاضة رجب/أبريل فكما أسلفنا نشبت الثورة لاعتقاد الشعب أن بالإمكان أحسن مما هو كائن أما في رجب فقد قامت الهبة الشعبية لاعتقاد متمكن بأنه ليس في الإمكان أسوأ مما هو كائن.وقد استحقت الانتفاضة اسمها لتركيزها على إزالة النظام المايوي وليكن بعده ما يكون بينما استحقت أكتوبر وضعها كثورة لأن إزالة النظام بالنسبة لها لم تكن إلا نقطة البداية وكان المهم بنظرها ما يعقب ذلك من أيلولة السلطة إلى القوى الحديثة لتضع السودان في القرن العشرين.وقد كان ملحوظا لمن عاصروا الحدثين أن الأحلام الجميلة كانت تملأ الشوارع في أكتوبر 1964 أما في ابريل 1985 فقد كان الغضب وحده الذي يملأ الطرقات. وإذا شئنا أن نتوسع قليلا في هذه المفارقة بين الاثنتين فأن أكتوبر هي ثورة الآمال المتوهجة التي كانت تعمر صدور الجماهير والفرق بينها وبين رجب هو الفرق بين الخيبة والأمل.ففي حين كان ثوار أكتوبر يطلبون من عجلة التاريخ أن تسرع في دورانها ،كان ثوار الانتفاضة يريدون من تلك العجلة أن تكف عن دورانها إلى الخلف عائدة بهم وببلادهم القهقرى مع مطلع كل يوم جديد –هؤلاء أرادوا أن يوقفوا التدهور وأولئك أرادوا أن يصنعوا التقدم والتجديد.وفي المحاولتين كان الفريقان تحت أسر التاريخ والظروف.
في أكتوبر كانت حية في عروق الشعب نشوة الاستقلال الأولى وروح الحلم والوعد التي أشاعتها في النفوس بل أن المناخ الدولي كله كان مشجعا على الثقة وكان علماء اقتصاد التنمية يسمون أفريقيا قارة المستقبل وفي كل دول العالم الثالث راح القادة السياسيون يشيدون أفيالهم البيضاء والسوداء.وكانت مصر القريبة (الملهمة دائما للسودان) تنجز ثورتها وتشيد مصانعها الألف وسدها العالي وفي مناخ تلك المنجزات راح السودانيون يتحرقون شوقا إلى نظام جديد لبناء وطن جديد.وكما هو معهود في حركة التاريخ راحت الأحداث الصغيرة تتجمع لتشعل طاقة الغضب والانفجار. وفي أكتوبر 1964 كانت أحداث الجنوب بمثابة الفتيل وكانت ندوة الجامعة ومصرع القرشي شرارة الاشتعال.وفي تلك النار الهندوكية كان لابد من قربان وذبح عظيم فحكمت تلك المواضعات أن يكون نظام نوفمبر هو تلك الضحية والقربان ولكنه لم يكن ضحية بريئة ومجنيا عليها فقد جنى بيديه ما استحق به كل ذلك الغضب.
ولم تكن أكتوبر رفضا للجنرالات وحدهم بل رفضا داويا لمجموع الفكر السياسي التقليدي الذي قاد معركة الاستقلال وأرسى اللبنات الأولى للحكم الوطني.وبعد انتصار الثورة كان في الشارع السياسي شعار ينكر الزعامة على القدامى ولا أدري أن كان ذلك استنكارا لغيابهم عن الشعب أيام الغليان الكبير أم هو مقصود بحرفيته كرفض مطلق لتلك الفئات ولكن الملاحظة الهامة هي أن بعض الساسة قد فهم رسالة ذلك الشعار على وجهها الصحيح فجدد وابتكر وبعضهم لم يستقبلها كما ينبغي .وإذا كان من أثر آخر باق لأكتوبر ضمن باقياتها الصالحات فهو إلهامها الفكر السياسي السوداني أن يجدد نفسه ويبعد عنها تهمة التقليدية.وقد تغير بذلك إلى درجة ما مستوى ومحتوى الخطاب السياسي في البلاد,
إذا قلنا أن أكتوبر هي الثورة الشعبية من اجل البناء والاستقلال الاقتصادي فهل ننفي عنها بذلك كونها ثورة من اجل الديمقراطية ومن اجل السلام وحقوق الإنسان في الجنوب؟بالطبع لا فهي كل ذلك بنفس الوقت ولكنها في البدء ثورة أحلامنا من اجل وطن جديد باعتبار أن الأهداف الكبرى تقبل الجدولة والتراتب وهذا الهدف الهام يحتوي داخله على مسألة الديمقراطية وقضية الجنوب ويلاحظ المرء الانسجام والتطابق بين الاستقلال الاقتصادي كهدف وتحقيق الديمقراطية والسلام كوسائل مؤدية لذلك الهدف وظننا أن ثورة أكتوبر لو جاءت بنفس تلك الأهداف لحظيت بعطف الجمهور وتقديره إذ أن العبرة بالغايات .
أن أكتوبر ككل أحداث التاريخ وليدة ظروفها وخصوصيتها التاريخية إلا أن الأحداث التاريخية الكبرى تترك بصماتها على الفكر وعلى مسيرة التاريخ اللاحقة وقد أفلحت
الثورة الشعبية في تجاوز خصوصيتها لتضع ميسمها على تاريخنا المعاصر فأصبحت علما على الحكم المستنير الذي يستهدف مصالح الشعب ويحفظ له كرامته كما صارت تعبيرا عن توق الجماهير إلى الحكم الديمقراطي الذي لا يسمح بإزهاق أرواح الناس(كما جرى في 21 أكتوبر )ولا بامتهان كرامتهم(كما جرى من الرئيس المخلوع قبيل سفره إلى الولايات المتحدة) ووضعت أكتوبر بين أيادي الناس حقا غير قابل للتصرف وسلاحا غير ممكن الانتزاع هو سلاح العصيان المدني على الطريقة السودانية وحققت لشعب السودان لحظات فريدة من إجماع الإرادة ووحدتها بصورة تذوب الفوارق الطبقية والاثنية وتجعل الجميع إخوة في المصير أو بتعبير آخر يتحولون إلى جيش من المدنيين العزل يهزم بإرادته العزلاء إرادة السلاح.وإلى جانب ذلك حققت أكتوبر زمالة كفاحية بين الجيش والشعب يندر نظيرها بين الشعوب وجيوشها.ومن الصعب جدا أن يتخيل المرء أن ما يحدث في بورما على يد جيشها "الوطني" يمكن أن يحدث للسودان إذ أن الجيش السوداني عودنا أن يتصرف عند اشتداد الأزمة باعتباره قطعة من لحم الشعب ودمه ولم يحدث حتى الآن أن تصرف ضد الشعب كجلاد بل على العكس برهن أن هموم الشعب من همه وأحلام الشعب من بعض ما يحلم به. ويبقى بعد ذلك درس أخير من دروس أكتوبر يعلمنا أن الهبة الاكتوبرية ليست متاحة للأحزاب والطوائف منفردة أو مؤتلفة وأن سحرها لا يسري إلا بالإجماع الشعبي العام حول هدف قومي عريض يلتف حوله الجمهور وتتوحد إرادته أو بكلام أكثر شعبية هي وسيلة مواصلات جماعية لا تصلح للراكب المنفرد.
ماذا بقي من ثورة أكتوبر ؟ (1)
في الحادي والعشرين من أكتوبر 1964 عقد طلاب جامعة الخرطوم ندوة سياسية داخل القرية الجامعية وبحكم توقيت ومكان انعقادها(الثامنة والنصف مساء في السكن الجامعي الشرقي البعيد عن الشارع العام) فقد اقتصر جمهورها على طلاب الجامعة وحدهم دون مشاركة من بقية قطاعات الجمهور. ورغم ذلك هوجمت الندوة من قبل قوات الشرطة التي واجهت مقاومة طلابية اضطرتها إلى إطلاق النار على الطلاب مما أسفر عنه سقوط عدد من القتلى على رأسهم الشهيد القرشي .وكان ذلك نقرا على وتر شديد الحساسية في العقل السياسي العام افرز خمسة أيام من العنف والتظاهر في كل المدن السودانية انتهت بسقوط حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية وعودة الديمقراطية للبلاد.
منذ ذلك التاريخ مرت مياه كثيرة تحت الجسور وتعاقبت على حكم البلاد أنظمة عديدة وتقلبت حظوظ البلاد من الحرية إلى الكبت ومن الغنى إلى الفقر وتعرض ذلك الحدث التاريخي إلى النظر وإعادة النظر ولا تكاد ذكرى أكتوبر تهل دون أن تتعرض تلك الأحداث البعيدة لتقييم جديد يرفع أو يحط من القيمة التاريخية للثورة التي اعتبرها الكثيرون ابلغ تعبير عن روح الشعب السوداني وتوقه للحرية واستعداده لتسديد ثمنها بالأرواح والدماء بينما اعتبرها آخرون مجرد انفلات أمني لم تحسن السلطة القائمة التعامل معه وذلك على نسق المحافظين المصريين الذين يسمون الثورة العرابية "هوجة" عرابي مستكثرين عليها صفة الثورة المشرفة.
ماذا حدث إذن في السودان في 21 أكتوبر 1964 ؟ هل كان ذلك واحدة من معجزات العصور القديمة التي فقدت قابليتها للتكرار؟ هل هي خطأ تاريخي كبير هب فيه السودانيون مدفوعين بحرد صبياني ليطيحوا بالمستبد العادل الوحيد في تاريخ السودان قديمه وحديثه؟ أم هي هذيانات معاصرين للحدث دخلوا مراحل الكهولة والشيخوخة وراحوا يتعصبون للزمان الذي عاشوه وحسبوه أفضل الأزمنة واعتبروا ثورته أفضل الثورات؟ أم هو من الأساس أكذوبة افتراها تقدميون مزعومون ليسلطوا بها سيف الفوضى على كل حكم رشيد جاء في أعقاب ذلك الحدث التاريخي الفريد؟
قبل أن نتقدم في هذا الطريق دعنا نلاحظ ما ظلت تحظى به ثورة أكتوبر من الهجوم والتبخيس خلال السنوات الأربعين الماضية فقد تظاهر على الحط من شأنها يمينيون ودكتاتوريون وآخرون كانوا لردح من الزمن محسوبين على ما سمي في حينه باليسار الجديد. وتمسك شكلانيون بحرفية مصطلحات العلم السياسي لحرمان أكتوبر من وضعها كثورة والهبوط بها إلى مستوى الهبات العابرة والانتفاضات ولكن أكتوبر برهنت على بقائية مذهلة فما زالت أفكارها تلهم الشعب وتملأ شرايينه بالنخوة والطموح ولا زالت موجودة في ميزانيات أجهزة الأمن والقمع الجماهيري بوصفها الخطر الأكبر الذي ينبغي أن يتحسب له كل من يريد البقاء على كرسي الحكم . ومن عام لعام يقوم أعداؤها بدلق الحبر الأسود على الورق الأبيض لهدم أسطورتها وإقناع الجمهور بأنها وهم أو خطأ أو سراب.والآن مع تباشير ذكراها المتجددة دعونا نستعرض خلفية ما جرى وما قيل عنه وما يقال.
لنبدأ بالنظام الذي تصدت له الثورة وهو نظام جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري في 17 نوفمبر 1958 واضعا نهاية مفاجئة للديمقراطية التي أفرزها استقلال البلاد في مطلع عام 1956 ومهما قيل الآن عن ذلك النظام فأنه لم يكن في زمانه أفضل الأنظمة وأزهاها ولكنه بتغذية استرجاعية فاسدة أصبح فعلا أفضل ما مر على السودان.وليس ذلك من مسئولية الثورة مثلما أنه ليس من مسئولية الثورة الفرنسية أن الملكية عادت بعدها إلى فرنسا وان أفكار العدل والإخاء والمساواة التي جاءت بها لم تعمر طويلا وانتهت بقصف دمشق وقمع الجزائر.وبالمثل ليس من مسئولية الثورة الاكتوبرية أن الديمقراطيات التي تلتها كانت ضعيفة متهالكة وأن الدكتاتوريات كانت شرسة وفاشلة.
كان نظام الفريق عبود امتدادا للدولة الكولونيالية الموروثة حديثا عن الاستعمار البريطاني بكل قدراتها ونواحي ضعفها فقد تميزت الدولة التي ورثها الفريق برصانة إدارية ونواة اقتصاد حديث غير مترهل ويكاد يخلو من الفساد مع احتياطيات نقدية كانت تعتبر الغطاء الحقيقي للعملة الوطنية.ومع تلك المزايا ورث النظام طاقات أمنية وقمعية محدودة فلم يكن له جهاز أمن ومخابرات متقدم وكان جيشه صغير الحجم وموجها بالأساس للأخطار الخارجية والحدودية وحين حاول عبود استخدامه للقمع الداخلي تمرد شباب الضباط وانضموا عمليا إلى الثوار. وهنا لابد للباحث المنصف أن يعترف بأن ذلك كان وجها من وجوه ضعف النظام الذي تصدت له الثورة الاكتوبرية ومساهمة ذلك الضعف في أنجاح الثورة وتكليلها بالانتصار على عكس ما كان منتظرا لو كان النظام مدججا بالسلاح ومحروسا بتنظيم سياسي ضارب الجذور وجهاز أمني رفيع المقدرات.
لا جدال أن الرئيس عبود تميز بروح أبوي عصم نظامه من التجاوزات القاسية التي
مارستها الدكتاتوريات اللاحقة ويروي أبطال حادثة تعذيب جرت في عهده ( ربما كانت الوحيدة في سنوات حكمه الست) عمق الغضب الذي عبر عنه الرئيس والإجراءات المتشددة التي اتخذها ضد مرتكبي الحادثة من كبار المسئولين . كما أقدم نظامه على عدة خطوات في مجال التصنيع كانت النواة الأولى لصناعة السكر والجلود في البلاد. وعلى عهده أقيم واحد من أهم السدود على النيل الأزرق للتوليد الكهرومائي وجرى استخدام المعونة الأمريكية في رصف طريقي الخرطوم/مدني والخرطوم/الجيلي. ويذكر للرئيس أنه أنتقى لنفسه قطعة ارض متواضعة اضطر للاقتراض من المصارف ليشيد عليها منزله الخاص. وكما كان للنظام حسناته فقد كانت له خطاياه وعلى رأسها استسلامه المتهافت أمام السمعة الداوية للرئيس عبد الناصر وقبوله ثمنا قليلا للأراضي السودانية التي أغرقها السد العالي وأقيمت عليها بحيرة ناصر. ومنها اهتمامه الكبير بحركة التشييد السكني التي استفرغت جهد ومدخرات السودانيين وجمدتها في هياكل أسمنتية بدلا من استغلالها في الزراعة والتصنيع ومنها عدم استفادته بصورة متساوية من معونات المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي وكانا يتنافسان على خطب ود السودان في تلك المرحلة الباكرة من مراحل الحرب الباردة.وعلى الجانب الآخر كان ثوار أكتوبر يحلمون بديمقراطية عميقة الجذور تهيئ البلاد لتنمية أسرع وأقوى من تلك التي أقدم عليها النظام وكانوا يملكون حلا لحرب الجنوب أثبت فعاليته بعد سقوط عبود بسنوات ومنح البلاد أحد عشر عاما من السلام. وكانوا يمتلكون هياكل عامة لبرامج اقتصادية كان بوسعها تغيير وجه الحياة الاقتصادية للبلاد لو أنه أحسن توجيهها نحو التنمية والبناء. وعلى أيامها كانت خطايا النظام مرئية بوضوح تام إذ لم يكن قد اكتسب بعد الأبعاد البيرونية (نسبة إلى دكتاتور الأرجنتين واسع الشعبية خوان بيرون) التي أسبغتها عليه المقارنة بإخفاقات العسكريين الذين جاؤوا من بعده.
والواقع أن الرئيس شخصيا كان سوارا من ذهب إلا أن أركان حكمه لم يكونوا جميعا على شاكلته.وبالغة ما بلغت فضائله الشخصية فأنها لا تكفي لتبرير العقل المتحجر الذي حكم مسيرة التنمية والاقتصاد خلال سنوات حكمه الست فقد كان من الممكن أن ينجز أكثر وأسرع في ظروف دولية مؤاتية ساهم شخصيا في صنعها بالسياسة الخارجية البراغماتية التي أنتهجها بمواجهة الاندفاعات الناصرية والصراعات والملاسنات التي عمت العالم العربي والبطوليات الشخصية وعبادة الفرد التي سار عليها قادة إفريقيا الجدد من حوله.
كان رجلا عظيما ولكن الرجال العظماء لا يملكون حصانة ضد السقوط.
ماذا بقي من ثورة أكتوبر ؟ (2)
بدأت مرحلة البكاء على الماضي في السودان في منتصف عام 1978 على عهد الرئيس نميري ففي ذلك التاريخ ودع السودانيون ضيوفهم من وفود مؤتمر القمة الأفريقي الخامس عشر وعادوا من المطار إلى بيوتهم ليجدوا أن الكهرباء مقطوعة عن منازلهم والمخابز خالية من الدقيق وكل السلع تقريبا معدومة من الأسواق.ومنذ ذلك اليوم(الثاني والعشرين من يوليو ذلك العام) أصبحت تلك الظواهر من ثوابت الحياة السودانية، تظهر وتختفي بصورة دورية ولكنها مستقرة في العقل الجمعي الخائف دوما من عودتها إلى الظهور حتى بعد أن دخلت البلاد عصر البترول وأصبحت مدعوة للالتحاق بمنظمة الاوبيك.
يطلق على تلك الأيام الذاهبة اسم " سودان زمان" ولا يخلو مجلس للسودانيين داخل أو خارج السودان من التغني بسودان تلك الأيام مع رواية ألوف القصص عن الرخاء والوفرة وتدني الأسعار وتوافر الثقة بين الناس مع الاستفاضة في التغني بعظمة حكام تلك الأيام ورقة قلوبهم وتحليهم بأجمل صفات الكرم والنزاهة والروح الأبوي. وبفضل تلك المجالس والمقارنات خرج الماضي في ازهي صوره. وأصبح الحاضر كله قبيحا منبوذا. وهنالك من يعتبر ثورة أكتوبر جزءا من ذلك الماضي الجميل كما هنالك من يعتبرها أول معاول الهدم لبنية ذلك الزمان. وعلى سبيل المثال يرى البعض أن أكتوبر قد جاءت بمبدأ التطهير الذي أيقظ الناس من توهمهم أن الوظيفة حق موروث لخريج المدرسة النظامية وأنه متى دخل الوظيفة فقد ارتفع فوق المسائلة وبقي في موقعه الوظيفي لا يزعزعه عنه إلا بلوغه سن التقاعد. والواقع أن الأنظمة الدكتاتورية التي تلت الثورة اعتمدت نفس المبدأ ومارسته على نطاق واسع لم يبلغ الاكتوبريون عشر معشاره. ومع أنه ثبت للسودانيين أن الفصل العادل من الوظيفة حق للمخدوم في كل الأنظمة الإدارية الناجحة إلا أن التطهير ظل مأخذا مأخوذا على تلك الحقبة الثورية البعيدة.
ويؤخذ على الثورة أيضا مناداتها بإلغاء الإدارة الأهلية أي إلغاء الوظائف العشائرية التي يتوارثها زعماء الطوائف والعشائر ويديرون عن طريقها الحياة الريفية بمهارة وفعالية . وفي معرض البكاء على الماضي يتندم الناس على عزلهم أولئك الزعماء وهو بالفعل عمل من أعمال الغرور والتعالي الذي يمارسه المتعلم الحديث في مواجهة الحكمة التقليدية للشعب. وإذا كان من كلمة للدفاع عن الثورة فهي كونها لم تجد الوقت لتطبيق ذلك الشعار وتركت تطبيقه لعهد النميري الذي بدأ حياته في الحكم كامتداد لأكتوبر ولكنه عاد وتحول إلى أعدى أعدائها وفي نهاية المطاف لقي حتفه على يد حركة نظيرة تعترف ببنوتها لثورة أكتوبر وتتلمذها عليها هي الهبة الشعبية المعروفة باسم انتفاضة ابريل 1985.
لم تعمر حكومة أكتوبر طويلا فقد اتفقت القوى السياسية بميثاق مكتوب أن لا يزيد عمرها عن بضعة أشهر تدير خلالها شئون البلاد كحكومة انتقالية يكون هدفها الرئيسي الإعداد للانتخابات العامة والإشراف على إجراءها. وقد تلكأت الحكومة الانتقالية في أداء واجباتها متحججة بحجج غير مؤدية مما اضطر القوي السياسية للضغط عليها ضغطا قويا فعالا أعادها إلى صوابها وألزمها بتنفيذ تعهداتها وتمكين الشعب من الاحتكام إلى صندوق الانتخاب. وبذلك يكون الرصيد الديمقراطي لأكتوبر الرسمية جد محدود فقد أظهرت تهالكا على السلطة وكانت على استعداد للتذرع بالضرورات لاستدامة تلك السلطة.ثم أنها أنزلت إلى الشارع بعض الشعارات غير المنصفة مثل قول قائلها:"لا زعامة للقدامى" وهو كفر ديمقراطي بواح فليس للديمقراطي أن يعزل أو يقصي فئة من الشعب ويحرمها حق الترشيح وليس ذلك اقل في الميزان الديمقراطي من حرمانها من حق الانتخاب نفسه.
ماذا بقي من ثورة أكتوبر ؟ (3)
الواقع أن رصيد أكتوبر الديمقراطي المباشر ليس بذي بال فلم يكن ميسمها الأبرز هو العمل لاستعادة الديمقراطية على طراز حركة اكينو في الفلبين ولكنها ابلغ نجاحا (وأقدم سابقة) من أكينو وغيره من حركات استعادة الديمقراطية فقد نجحت في استعادة الديمقراطية من براثن العسكريين وأصبحت بقوة الأشياء الحركة الرائدة في ذلك المجال.ولولا العزلة الإعلامية للسودان وبعده عن بؤر الاهتمام العالمي لكانت أكتوبر علما على قدرة الشعوب المغدورة على استعادة الديمقراطية من جيوشها الغادرة
إلا أن الافتتان بأكتوبر ليس مصدره حكومتها قصيرة الأجل ومنجزاتها الحقيقية أو المتوهمة إنما روحها العام ومبادئها المعلنة كحركة مناهضة للدكتاتورية ونجاحها الفريد(ولاشيء ينجح كالنجاح) في اجتثاث نظام عسكري مستعد للبطش وإراقة الدماء وذلك على أيدي متظاهرين عزل من السلاح. وقد استخدم الثوار الاكتوبريون آليات مبتكرة لتحقيق الانتصار بخلطة من إجراءات الإضراب السياسي العام والتظاهر اليومي مما سبب شللا لكل مناحي الحياة في البلاد ووضع الحالة السياسية تحت مجهر التركيز اليومي. وتوفرت للثورة بداية موفقة بانطلاقها من الجامعة الوطنية مرموقة المكانة في نفوس السودانيين ومناصرتها من قبل الهيئة القضائية التي كانت آنذاك تضم نفرا من أعظم القضاة الذين مروا بالسودان كالقاضي عبد المجيد إمام والقاضي بابكر عوض الله(الذي للأسف عاد وطمس على تاريخه النضالي في العهد المايوي). كما وجدت الثورة إجماعا سياسيا شاركت فيه كل الأحزاب في البلاد.وربما لذلك ارتبطت الثورة في العقل الجمعي بمبادئ الاستنارة والعدالة والتوافق العام.
من غرائب الحياة السياسية في السودان ذلك الجدل الذي ثار بين الماركسيين والإسلاميين على أبوة أكتوبر وعلى جثة شهيدها الأول (الشهيد القرشي) فقد ادعاه كل معسكر وتنازعوا عليه ردحا من الزمان وكان ذلك جدلا حامي الوطيس لبعض الوقت ثم عاد وخمد فجأة ولم يعد الإسلاميون ينازعون في الأمر أو يتحدثون عن دورهم فيه (وهو دور مشهود) .ومن عجب أن نفرا من الإسلاميين صاروا يقودون اليوم فيالق التهجم على ذكرى الثورة ومدلولاتها.
أكتوبر تعبير سياسي متميز عن صبر الشعب وقدرته على الاحتمال وقدرته على التمرد في لحظة معينة لا يمكن أن يتكهن بها أحد.وحين تأتي تلك اللحظة المعينة يهب إعصار بركاني ينتظم البلاد في صيحة واحدة ضد الظلم والظالمين..وإذا كان اكتوبر64 هو التجربة الأولى المتمتعة بعنصر المباغتة فأن انتفاضة 1985 أثبتت أن التكهن بموعد الثورة مستحيل .وفي تلك التجربة التاريخية كان الحكم متخذا أهبته وجاهزا لقمع الجمهور الغاضب ولكنه فوجئ بأن التظاهر يحدث ليلا محتميا بالظلام الدامس الذي خلفه انقطاع الكهرباء وفي الحواري الشعبية المتعرجة نهجت* الشرطة مقطوعة الأنفاس وانتهت إلى التسليم بأمر الشعب والانضمام إليه.
ماذا يبقى للسودانيين من تلك الأيام المجيدة في أكتوبر 1964 ؟
تبقى بقوة عارمة فكرة الحكم المدني بدلا عن الحكم العسكري وحق ممثلي الشعب المنتخبين في السيطرة الكاملة على العسكريين بوصفهم مجرد موظفين لدى الشعب يغدق عليهم ويقوم بتسليحهم وإمدادهم بالمال والرجال دون أن يعطيهم ذلك أي حق في التفوق والسيطرة، وعلى عكس ذلك يوجب عليهم الطاعة للرئيس المنتخب والدستور المكتوب..وتبقى فكرة الديمقراطية وحرية الرأي وحق الجماعة في التشاور والتفا كر واختيار أفضل الآراء بدلا من الإملاء المفروض..وأخيرا يبقى من إرث أكتوبر روح الوحدة الوطنية التي جمعت الشمالي بالجنوبي والإسلامي بالماركسي والأنصاري بالختمي في خندق واحد ضد الطغيان والقتل غير المبرر وافتراء الحاكم على المحكومين وذلك ما جعل أحكامها نافذة وغير قابلة للاستئناف.
• كان هذا التعبير موضع اعتراض من ضابط شرطة كبير فكان هذا الاعتذار والتوضيح الإضافي :
بل أنا اطلب عفوك سعادة المقدم
في كلمة بالغة التهذيب مستقيمة المنطق كتب سعادة مقدم شرطة (نحتفظ بالاسم ) يعاتبني عن كلمة قلت فيها إن انقطاع الكهرباء أيام الانتفاضة عام 1985جعل الشرطة "تنهج –خلف المتظاهرين مقطوعة الأنفاس في الحواري الشعبية المتعرجة "مما قادها "إلى التسليم بأمر الشعب والانضمام إليه".وبكلماته الرقيقة المهذبة أعاد سيادته إلى ذاكرتي مشهدا من مشاهد الامتنان العميق لا زلت احمله لجهاز الشرطة وكافة العاملين فيه.
كنت في تلك الأيام سفيرا للسودان لدى باكستان وكنت مهددا بقدوم النميري على ذلك البلد في زيارة لم افهم لها مغزى ولم أر لها داعيا وقد حاولت الاعتراض عليها وطلب تأجيلها بكل الوسائل وكان من ضمن ذلك ما ذكره الصحفي والمؤرخ اللامع محمد سعيد محمد الحسن (في كتابه عن الدبلوماسية السودانية)عن البرقية التي أرسلتها لرئاسة الخارجية حين قام النميري باعتقال الدكتور الترابي ورهط من أصحابه بعد إعلانه عن زيارته لباكستان وذكرت فيها أن الرئيس ضياء الحق درج على سؤالي كلما جمعتنا المناسبات قائلا :كيف صديقي حسن الترابي How is my friend Turabi وقد أوردت ذلك ضمن اعتراضاتي على موعد الزيارة.وقد تأكدت أن زملائي الكرام في رئاسة الوزارة نقلوا تلك البرقية بحذافيرها إلى النميري في واشنطن التي بقي فيها إلى حين سقوطه النهائي.
ولا اخفي عليك أنني كنت متوترا من فكرة حضور رئيس البلاد على رأس وفد يكاد يكون عائليا في زيارة رسمية بلا أجندة ولا هدف وقد بحت بدخيلة نفسي لاثنين من السفراء الذين أكن لهما بالغ الود واضع فيهما كامل الثقة وهما السفير النيجيري بابا كنجبي الذي عمل في السودان فيما بعد ممثلا للاتحاد الإفريقي والسفير السوري سيفي الحموي وهو رجل من ذهب.
كان من رأي الحموي أن لا استعجل الأمور وان لا أقوم بتصرف غير دبلوماسي وان أبقى مكاني مستطلعا الأمور لان الله سيهيئ لي مخرجا. وكان من رأيه أيضا أن أتحرى الأخبار من عديد المصادر نظرا لقلة اهتمام الصحافة العالمية بأخبار السودان.وكانت الخطوة الأولى في ذلك السبيل أن اطلب من السفير الكويتي أبو احمد (ذكره الله بالخير) أن يوافيني برسائل وكالة الأنباء الكويتية – كونا- إذ أن مسكنه كان مزودا بجهاز لاستقبال رسائلها (تيكر) فاستنكر أن ابعث في طلبها كل مساء ووعد بأن ينقلها إلى ولو بنفسه فقد كان الرجل على علاقة قديمة بصهري الأستاذ إبراهيم الياس الاقتصادي المعروف وبالفعل أصبح سائق السفير الكويتي يقصد داري مرتين في اليوم ليسلمني الرسائل – مرة في الصباح الباكر قبل الذهاب إلى العمل ومرة في المساء.
وفي ذات مساء أغر محجل طالعت في تلك الرسائل نبأ يقول إن الشرطة السودانية وزعت منشورات تحث الشعب على الاستمرار في التظاهر متكفلة بعدم التعرض للمظاهرات أو تفريقها.وعندما قرأت الخبر قلت لنفسي :"لقد انتهى حكم النميري" وكررت ذلك لأصدقائي سيفي وبابا كنجبي ولكنني كتمته عن وفد المقدمة الكبير الذي وصل منذ عدة أيام وكان –والحق يقال-مكونا من ثلة من كرام الرجال من الشرطة والأمن ومراسم القصر وعلى عكس ما أوردت بعض المجلات العربية لم أصادر الأموال التي استودعوني ولم اقل فيهم ما لا يتفق وقواعد المروءة وقد عجب الكثيرون للمودة التي نشأت بيني وبين العميد النميري الذي لم يكونوا يعلمون انه من تلامذة أهلنا الإسماعيلية وقد وجدته يحفظ ويردد الاماديح التي نشأنا عليها أطفالا في حي القبة.ويرى سعادة المقدم من ذلك مدى إعزازي للشرطة واهتمامي بدورها ليس فقط في حفظ الأمن والنظام وإنما أيضا في العمل ضمن ضبطها وربطها لإطاحة الظلمة والقتلة من سدة الحكم وذلك في إطار ظروف تاريخية استثنائية الطابع. وفي الظروف العادية تجدنا جميعا مهتمين بدورها الوطني في صون الأمن وإخماد الفتن ويكفيها ذلك فخرا ومجدا بل أنا شخصيا من أنصار ابتعادها – هي وكل الأجهزة النظامية من الانحيازات السياسية لهذا الجانب أو ذاك.وفي إطار دورها الدستوري المحدد تجد الشرطة ورجالاتها (وسعادتك على رأسهم) كامل تقديري وامتناني وإنه من أخيك
أكتوبر هل من عودة أخرى؟
في أكتوبر عبرة متجددة ودفق إلهامي وتجديد للثقة بأن حكومة الشعب بالشعب للشعب لن تختفي من وجه الأرض ولن تبيد.والاحتفاء الشعبي والنخبوي بذلك العيد العائد هو تكريم للمناسبة وروحها التحرري وبادرة تقدير لكل من وهبوها دمهم من الشهداء والمناضلين.إلا أن تلك الذكرى المجيدة تجعل الكثيرين يتساءلون لماذا تأخر أكتوبر في القدوم وهل يمكن أن تعود تلك الثورة إلى الوجود ولو بصيغة معدلة عن صيغة عام 1964؟هل يعود العصيان المدني إلى شوارع العاصمة فتهب لنجدتها القطارات المحملة بالمؤن والفدائيين من كسلا وكوستي ومدني والأبيض؟
لقد عاد أكتوبر في ابريل 1985 في الانتفاضة المجيدة التي مضت في كل تفاصيلها على نهج الثورة الأكتوبرية الأم،فقد انتضت الجماهير سيف الإضراب السياسي البتار وتكدست في الشوارع على مدى الليل والنهار معبرة بذلك عن إصرارها على المطالب المرفوعة دون مهادنة أو مساومة. وبعد أسبوع من التظاهر والتحشدات كرر شعب السودان تجربة أكتوبر وأزاح عن مقاعد السلطة دكتاتورية جائرة تنكرت لحبه وأحلامه ووقف رئيسها قبيل رحلة عوليسية ودون عودة يهدد الشعب بأن رغيف الخبز سيظل يتناقص وزنا وحجما إلى أن يصبح في حجم أزرار القميص الذي يرتديه.
لماذا تكررت التجربة الأكتوبرية في ذلك اليوم واستعصت على التكرار في ما تلا من أيام؟
إنه سؤال صعب ومع ذلك يمكن الاجتهاد في تقديم إجابة عليه لنقل أنها على أحسن الفروض إجابة مؤقتة قابلة للنقض والاستئناف. وإذا جاءت ناقصة أو قابلة للتحسين فان التسرع فيها مظهر للحرص الشديد على سلامة الوجهة التي تتجه إليها أحلامنا كديمقراطيين تفاديا للإمعان في عوالم الأحلام المستحيلة لهثا وراء السراب.
عاد أكتوبر في أبريل لأن الظروف السياسية كانت متماثلة وفرص النجاح متوافرة أمام ذلك الأسلوب النضالي المعهود.بل ويكاد كل شيء أن يتماثل في الثورتين .ففي الحالتين كان هنالك حاكم دكتاتوري ممقوت أثار الغضب العام (الأول بقتله الطلاب والآخر باستفزازه مشاعر الجمهور بخطاب وداع بالغ الضحالة لا يصدر عن الفرد الكريم ناهيك عن الحاكم العاقل الحكيم) وكانت هنالك ضائقة معيشية شديدة الوطأة وحجر على حريات الرأي والتنظيم وكان هنالك إجماع من كافة القوى السياسية على ضرورة الإطاحة بالحكم القائم. وفي حالنا الحالي الذي لا يخفى على الله شبه شديد من تلك الأيام ومع ذلك ليست في الأفق أكتوبر جديدة بل هنالك من يرى أنه ليس متوقعا أن تكون.وذلك أن التاريخ لا يعمل وفق أمانينا ولا بأماني من يخالفوننا الرأي. وهنالك من يرى أن التاريخ راح منذ عقود طوال يحفر لنفسه مجرى مختلفا وذلك أن أهل الهامش قطعوا الرجاء في أهل الخرطوم واعتبروهم جزءا أصيلا من مصفوفة الظلم الطبقي والجهوي الذي احتكر لنفسه كل شيء وحرم أهل الهامش من كل شيء.
في منظور القائلين بذلك الرأي لم تعد العاصمة القومية ملهمة لبقية أنحاء البلاد ولم تعد صالحة لقيادة ثورة وفي أحيان كثيرة غدت بنظر أهل الهامش العدو المستغل الذي يتمتع دونهم بخيرات البلاد فأهل الخرطوم بنظر الأقاليم هم المستمتعون بوفرة الخبز والماء النظيف والكهرباء والمكيفات وهم الذين يعيشون في بحبوحة ونعيم.ولكننا نعلم حق العلم أن الصورة الحقيقية تختلف عن هذا التخييل وانه لا ينطبق إلا على خمسة بالمائة أو أقل من سكان المدينة هم بالضرورة الطبقة الحاكمة والدائرين في فلكها من المستفيدين وأهل التمكين.ويقولون إن الهوامش وقد قطعت الرجاء في الحل الاكتوبري أشعلت ثوراتها المسلحة في كافة أنحاء البلاد ماضية على نهج الحركة الشعبية (الجنوبية) في الكفاح المسلح الذي ينتهي بمكاسب إقليمية محدودة النطاق.
ينبغي الإقرار بأن أكتوبر في الأصل ثورة حضرية أو مدينيه مسرح أحداثها هو المدينة السودانية فقد جرت وقائعها في مدن الخرطوم ومدني والأبيض وكسلا والفاشر وكلها من كبريات مدن السودان .أما ثورات الهامش فهي ثورات غابية إذا صحت النسبة إلى الغابة على هذا النحو وتميل –على الأقل في بداياتها – إلى العمل الجهوي المسلح المستند إلى القبيلة أو التحالف الواسع بين عدة قبائل يجمعها قاسم مشترك.وهي بذلك المعنى بعيدة عن منهجية أكتوبر الحضرية ذات الطابع السلمي والقائمة على مبدأ الإجماع. إلا أن الاختلاف لا يعني التدابر والتناقض واستحالة التوفيق بين منهجين وليس مستحيلا تصور وحدة كفاحية بين مسلحين وثورة شعبية شاملة متى توافرت لها شروط النجاح.
وتعلمنا تجربتا أكتوبر وابريل أن أهم شروط النجاح هو الإجماع –حتى لو كان مرحليا- بين القوى السياسية والشعبية ويرى كثيرون أن ذلك هو الشرط المفقود فقد انضمت قوى ذات شأن إلى موكب السلطة وأخلت بالإجماع الوطني أو جعلته صعب التحقيق وساعدت السلطة في اختراق الجماهير وترويعها وكل ذلك حقائق ملموسة ولكنها ليست حقائق أبدية فهنالك أيضا القوى العديدة التي تخلت عن موكب السلطة وشرعت في معاداتها بتأثير من خيبة الأمل أو تمسكا بمبادئ أو صحوة ضمير. ومكونات السلطة ليست لحمة واحدة فبينها ما بينها من الخلافات والتعارضات ومهما جمعتها المصالح المؤقتة فان انفصالها عن بعضها البعض أمر وارد مثلما هو وارد انحيازها المستقبلي لجبهة اكتو برية قد تنشأ في ذات يوم. وحقيقة الحال ان استعادة الاجماع الوطني رهينة بنوعية الجرم الذي تجترحه السلطة ففي اكتوبر 64 اجمع السودانيون على استبشاع القتل الذي وقع في السكن الجامعي لحفنة صغيرة من الطلاب وفي الانتفاضة اجمعوا على استقباح حطاب الوداع الذي تهددهم به رئيس البلاد ولا يدري احد ماذا سيحدث في المستقبل ونوعية الجرم الذي قد تقع فيه السلطة.وربما لذلك يمكننا ان نترك كل الاحتمالات مفتوحة وكل الممكنات ممكنة .وغاية الامر ان أكتوبر هو كنز الكنوز في تجربتنا السياسية وعلى مدى الأزمان يمكن استلهامه والإفادة منه ولكن في الظروف التي تضمن له النجاح.ولا يعني ذلك أن نغسل أيدينا من أكتوبر ونودعها متحف التاريخ ولكننا ننتبه فحسب للمتغيرات التي قد تحجب وهجها في وقت من الأوقات وتفتح مسارات جديدة للغضب الشعبي.
وفي الأجواء رائحة عنبرية .. رائحة اكتو برية
لكيلا نتهم المتأسلمين السودانيين بالغفلة ينبغي الإقرار بأن بعضهم تنبه إلى خطورة التعاون مع العسكر منذ اللحظات الأولى لانقلاب 30 يونيو 1989 وكان ذلك النفر -بمنطقهم القائم على اجترار المأثورات- يردد أنه لا أمان لعسكر، حاملا العبارة على محمل الاحتياط لغدر العسكر بمن يحالفهم. وهي مقولة لا غبار عليها في علم السياسة، ففي تحالف الأعزل والمسلح يفرض هذا الأخير شروطه في كل مرة معتمدا على ما يتوافر له من أسباب القوة المادية. وفي الإطار المعاصر تتمتع الجيوش البريتورية ليس فقط بالسلاح وإنما باحتكارها له بما يعني عدم جواز حيازة السلاح والتدرب عليه لأي جهة خارج الجيش إلا بإذن وفي نطاق قوانين وضعت أصلا لحماية ذلك الاحتكار.
نوه السيد الصادق المهدي بما أسماه الظاهرة البونابرتية في علاقة الجيوش بالسياسيين مشيرا بذلك إلى تحالفات نابليون مع مختلف القوى السياسية في فرنسا والتي قادت إلى بروز بونابرت وقوت مركزه على حساب أولئك المتحالفين حتى توج نفسه في النهاية إمبراطورا لفرنسا التي صنعت واحدة من أعظم الثورات في تاريخ العالم لتقضي على الملكية وتقيم الجمهورية الديمقراطية فانتهى بها الكورسيكي الحاذق في أحضان ملكية أعتى من تلك التي ثارت عليها. وفي تاريخ المسلمين بالذات شواهد متكررة على نقض العسكر للعهد والميثاق واعتمادهم على القوة الباطشة لخلخلة واجتياح الميزان الأخلاقي الذي يفرض عليهم مختلف الالتزامات بما فيها الوفاء بالعهد.
تبدأ تلك الشواهد بالخليفة العباسي المتوكل الذي رأى مشاغبات جنوده العرب والموالي فقرر الاستغناء عن الفريقين واتخذ لنفسه جيشا من الأتراك سرعان ما أذاقوه وأذاقوا خلفاءه الويلات. فقد ظل الجنود الأتراك يستحوذون على مفاتيح السلطة ويتمردون لأوهى الأسباب لكي يعزلوا الخليفة ويستبدلوه بخليفة جديد متحالفين مع سيدات البلاط وغلمانه وجواريه ومع الابن على عمه أو على أبيه حتى أن عبد الله بن المعتز تولى الخلافة ليوم أو بعض يوم قبل أن يتم عزله من قبل جنود الخلافة المتمردين. ومبالغة في التنكيل كان الجنود يسملون عيون الخليفة المعزول جريا على عادة قاسية جاءوا بها من موطنهم الأصلي في آسيا الوسطى يضمنون بها عدم عودة الأعمى إلى مقعد الحكم.
صبر العسكر في السودان على بهلوانيات شركائهم في الحكم وسوء إدارتهم لشئون البلاد واستشراء الخلافات بينهم وعند ذلك قاموا باستبعاد الفصيل المناوئ وتبني الفصيل الآخر الذي لسوء حظه ظن انه يتبنى العسكر ويقودهم بينما هو في حقيقة الأمر ينفذ أوامرهم وينحرف معهم عن طريق الدروشة القديم إلى علمانية جديدة أقامها النظام -داريا أو غير دار- مكان دروشة الأيام الأولى للإنقاذ. وشخصيا نبهت إلى نشوء ذلك الوضع في مقالة حملت عنوان" كلهم رجال البشير" نوهت فيها بأنه ليس بين الحلفاء الجدد خليفة للترابي يأمر وينهى في العسكريين وإنهم تحولوا جميعا إلى موظفين عند البشير يأتمرون بأمره وينفذون مشيئته وهم يستظلون بظله من مقت زملائهم الذين ظلوا على الولاء القديم للترابي. إلا أن أولئك الرجال وهم يخدمون العسكر تذرعوا بذرائع غير واقعية وزعموا لخاصتهم (وفي أضيق نطاق ممكن) إنهم يبقون في خدمة العسكر ضمانا لعدم انحرافهم (أي العسكر) عن طريق الإسلام. وذلك كذب صراح فان الذي أبقاهم في السلطة هو مقاعدها المخملية وخيراتها التي لم يكونوا يحلمون بها إذا استمر عصر الترابي .
لا يمكن القول بأن بقايا الجبهة القومية الجالسين حاليا في مقاعد الحكم يمثلون شيئا ذا خطر أو أن ولاءهم المنقوص لسلطة الإنقاذ يؤثر على مجريات الأمور في السودان فحين ينفذ أمر الله ستجدهم يرددون تلك الترهات في مجالسهم الخاصة أو يعلنونها في الصحف دون أن يصدقهم احد بل على العكس سيتصدى لتكذيبهم كثيرون من أهل العقول. والآن لسنا بعيدين من ساعة الحقيقة فان النذر تتجمع حول النظام وفي سماء السودان تطل أبراج جديدة تحمل طوالع الهلاك لسلطة المتاسلمين وفي أجوائه تنتشر كما رائحة الدعاش رائحة كونية ليس مخطئا من يسميها رائحة اكتو برية. إن
كل العلامات قد توافرت وهي (1)انعدام المصداقية و(2)الشلل السياسي وعادة يكفي هذان العنصران لإسقاط الحكومات العسكرية في السودان ولكن في حالة الإنقاذ ينضاف إلى ذلك عنصر ثالث هو(3) الضغط الخارجي.
لم يعد هنالك من يصدق ترهات الإنقاذيين أو يهب للدفاع عن سلطتهم التي برهنت بمختلف الصور والإشكال أنها جاءت لإفقار الشعب وانتهاك حرماته لصالح فئة من وضيعي النفوس من طلاب الثراء وقلة من عديمي المواهب من طلاب السلطة والجاه. وإذا كفر الشعب السوداني بشخص أو بسلطة فانه لن يصدق استغاثاتها حتى لو هجم عليها النمر حقيقة وشرع في تمزيقها. ولعل خير من عبر عن هذه الطبيعة فينا هو الزعيم الأزهري يوم قال عن الجمعية التشريعية :"سنرفضها ولو جاءت مبرأة من العيوب."
أما الشلل السياسي فهو سلوك متواتر عن كل الدول ساعة تجنح للغروب، وهو نفسه الذي أنطق والي الأمويين بهذا الكلام:
أرى تحت الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون لها ضرام
فان النار بالعودين تذكى
وان الحرب أولها كلام
فقلت من التعجب ليت شعري
أأيقاظ أمية أم نيام
هنالك لحظة معينة يبدأ فيها الشلل ولحظة أخرى يستفحل فيها وينبغي أن نراقب بدقة بانتظار لحظة الاستفحال وعند ذلك يمكنك المراهنة بالقميص الذي على ظهرك على السقوط الحتمي للنظام.ولكن نظام الإنقاذ زاد في هذه الفروض والنوافل ودخل في مغامرة خارجية للبحث عن السلام بين مخالب الأمريكيين والأفارقة الموتورين تاريخيا من العرب فكان حتما من الحتم أن يأكل من طبيخ يديه. والآن ليس أمامه سوى الانصياع (وعندها سيقبره شعب السودان) أو الرفض وعندها ستتدفق الأسلحة الأمريكية على الجيش الشعبي وربما تحدث كارثة قومية كبرى هي انكسار الجيش القومي أمام المقاتلين الجنوبيين. ونحن لا نرضى بأي من تلك السيناريوهات - لا نقبل هزيمة الجيش رغم انه خذلنا وصار أداة الجبهة لتشريدنا وتعذيبنا وتعريض بلادنا لخطر الفناء، ولا نقبل خضوع النظام للإرادات الأجنبية بشروطها المجحفة التي تريد أن تلقينا وحيدين في الصحراء وتأخذنا بجريرة الجبهة التي كتب عليها-على الطريقة الإنجيلية- أن تموت بالسيف لأنها عاشت به (من يعش بالسيف فبالسيف يقتل).
لقد انبهمت أمامنا المسالك ولم يعد هنالك ما يرضينا أو نرضى به كحل للمأزق القومي الذي أدخلنا فيه المتأسلمون، وحين لا يكون هنالك حل يرضيك فذلك يعني أن الحل يكمن خارج الخيارات التي أمامك، بمعنى أن الحل ليس في استمرار التفاوض أو الانسحاب منه. الحل الحقيقي هو تخلي الفريق البشير وخدمه من المتأسلمين عن الحكم- الآن الآن وليس غدا- ليأتي عقلاء البلاد وينقذوها من عبث الصبية الذي يسمونه "الإنقاذ". وعلى البشير أن يبحث في دخيلة نفسه عن شجاعة كشجاعة الفريق عبود حين حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة وامتثل لرغبة الشعب فجاء التغيير هادئا دون أن يتعرض الوضع لراجفة تتسبب في مجاعة للشعب أو هزيمة للجيش القومي.
التاريخ يعيد نفسه أم هو على رأي برنارد شو:"التاريخ الرديء هو وحده الذي يعيد نفسه" ففي ندوة سبقت الثورة الاكتوبرية طالب الترابي بذهاب الحكم العسكري كحل لمشاكل السودان. وكان يومها خريجا حديثا يريد أن يصنع لنفسه اسما ليفوز بموقع المرشد العام للإخوان المسلمين، فقال تلك الكلمات الداوية وبعد أن تحقق له مراده نسي الثورات والثائرين وتسبب للسودان في اكبر كارثة عرفها تاريخه الحديث بتأليبه عسكر السودان على الانقلاب والخروج على الدستور والآن هاهو وبقية الشعب السوداني في الحبس تحرسهم البنادق التي اقتطعنا ثمنها من قفة الملاح ومصاريف الأولاد والتي اصطنعناها لتحمي حدودنا فأصبحت اليوم أكبر تهديد لتلك الحدود.
قال العباسي،أحد أعمدة الكلاسيكية السودانية: :
فلو درى القوم بالسودان أين هم من الشعوب، قضوا يأسا وإشفاقا
وليطمئن الشاعر العظيم فقد عدنا ندري أين نحن. نحن في نهاية آخر شعرة في ذيل مؤخرة الركب الحضاري ومع ذلك نحن مهددون بأن تنحل عقدتنا وتتفكك أواصرنا ويسلمنا جندنا إلى التهلكة والبوار بما أساؤوا إدارة الحرب ويسيئون الآن إدارة السلام. ويغثى النفس حقا وصدقا أناس يطالبون بفصل الشمال عن الجنوب بعد أن وقعت الفأس على الرأس وأصبح بمقدور الجنوب أن يفصل رؤوسهم عن بقية أبدانهم.فأمثال هؤلاء هم المغردون خارج السرب وانكي وأدهى أنهم يريدون أن يحملوا أشلاء السودان بعد المجزرة لينضموا بها إلى مصر كأنما مصر مباءة الأوساخ والنفايات، وفي الماضي أبيتم الاتحاد معها وأنتم بلد مجتمع الأشاجع والأوصال ثم أمعنتم في خصامها حول حلايب يوم غرتكم أنفسكم وظننتم بأنفسكم الظنون وتخطبون ودها اليوم وقد أصبحتم بقايا وأشلاء. فألف كلا، مصر لا تريدكم ولا تبتغيكم.
بمثل هذا قال آخر حكام الأندلس العربية فقد رفض معونة المرابطين الذين كانوا يحكمون المغرب خوفا أن يضموا دولته إلى دولتهم فلما اشتد عليه الإفرنج رأى من الأفضل قبول معونة المرابطين على السقوط في أيدي الإفرنج فقال قولته الشهيرة "رعي الجمال أحب إلى من رعي الخنازير." ففي الحالين لا يتجاوز قدره وظيفة الراعي.وقد انتهى به المطاف شحاذا في مراكش.
في أيام استقلالنا الأولى نشر زعيمنا الخالد إسماعيل الأزهري شعارا وطنيا يقول:"أحرار في بلادنا كرماء لضيوفنا" والآن لا نريد أكثر من ذلك: أن نعود أحرارا في بلاد أجدادنا-من حلوق الريف لى سدودا- وإخوة حقيقيين لمواطنينا.
الدكتور جعفر كرار:
سيرة استقامة سياسية
صدر عن مركز عبد الكريم ميرغني سفر هام أكرمني بنسخة منه أخي العلامة الدكتور حسن أبشر وما كنت سآخذ به علما لولا كرم ذلك الصديق إذ أننا لازلنا على عهدنا في عدم الاحتفاء بما يضيف علماؤنا وأدباؤنا إلى المكتبة السودانية من جليل الآثار وذلك في حين نتسابق إلى ما يكتب أهل الشام والمغرب وغيرها من الأمصار. والكتاب الذي احكي عنه هو كتاب الدكتور جعفر كرار وعنوانه "نظرات في التجربة السياسية السودانية" وهو أثر عملاق يقع في أكثر من خمسمائة صفحة ويستخلص الدروس والعبر من تجاربنا السياسية منذ مطلع الاستقلال وحتى الوضع الراهن ويمثل بكل تأكيد مرجعا موثوقا لتاريخ وأخطاء وخفايا الحركة السياسية لسودان ما بعد الاستقلال.وليس ذلك فقط لان المؤلف كان على الدوام مهتما بالشأن السياسي وقريبا من مواقع اتخاذ القرار (فضلا عن أنه كان من صناع القرار السياسي خلال تلك الأيام الرائعة في أكتوبر 1964) ولكن السبب الأهم لمرجعية الكتاب هو الموثوقية العالية التي يتمتع بها المؤلف وهي موثوقية تعود إلى استقامته السياسية ومضيه في الحياة على نهج واحد لا يتغير هو نهج الالتزام بمصالح الشعب وعدم الاستخذاء أمام النظرات النارية للمستبدين والدكتاتوريين ويقترن كل ذلك بعدم التذبذب في العقيدة السياسية والوفاء لها بصورة لا تقبل التعديل ولا التبديل. وربما كانت الاستقامة السياسية –في نظر البعض- مظهرا من مظاهر الجمود الفكري وربما كان التذبذب وتغيير المواقف طبيعة بشرية لا يسعنا إلا النزول عند أحكامها والاعتراف بها كظاهرة تتكرر في كل الأجيال ولكن ما يدعو إلى النفور منها هو اقترانها في معظم الأحوال بالمصالح الذاتية والغرائز الدنيا في أشخاص السياسيين وذلك ما ارتفع فوقه هذا المثقف الجليل طيلة ما يقارب نصف قرن من الاهتمام بالسياسة وإمعان النظر في شئونها وقضاياها.
ربما قادتنا النظرة العابرة إلى تصنيف المؤلف كواحد من الاتحاديين الاصلاء من المنتمين إلى مدرسة إسماعيل الأزهري السياسية وذلك جزء من الحقيقة فقد جاء الأزهري وعبر وتغيرت بعده الأمور وتغير الحزب الذي أنشأه ولم يبق على مبادئ الأزهري سوى حفنة معدودة من الرجال يعتبر الدكتور واحدا منهم ومن خيارهم على وجه الإطلاق ولكن التوصيف الأمثل هو اعتباره اكتو بريا صميما عبر عن جملة من المبادئ وهو يساهم بالقسط الاوفي في قيادة الثورة وظل وفيا لتلك المبادئ طيلة العهود التالية بدءا بعهد مايو الذي ترفع عن المشاركة فيه وعهد الإنقاذ الذي ظل من بين نقاده الدائمين.
وليس هذا الكتاب سيرة ذاتية للمؤلف فهو مجموعة مقالات ومساجلات حول الشأن السياسي لا تمثل ترجمة لحياة المؤلف ولكنها بطبيعة الأحوال ترجمة لسيرته الفكرية و"نظراته" في القضايا السياسية الشائكة التي عاشها السودان منذ الاستقلال والى وقوعه في براثن الدكتاتورية وهلاكه الوشيك تحت ظلها البغيض.وتظل حياة المؤلف بحاجة لمن يرويها للأجيال وظني أن الدكتور الجليل لا يصلح لتلك المهمة لتواضعه الجم الذي لم يسمح له بالحديث عن نبوغه الأكاديمي ولا قدراته الإبداعية واللغوية فقد ضرب صفحا عن تلك المزايا في هذا السفر مضيا على نهج التواضع لله .ويؤكد ذلك –بنظري- حاجتنا إلى مجاراة الأجانب في التقليد الذي مضوا عليه في تعيين كاتب يترجم حياة كل مشهور من مشاهيرهم فيوفرون له المراجع والوثائق والآثار ويتيحون له فرص الالتقاء بالمترجم له ومقابلة أهله وذويه وكل من كان له أثر في حياته استقصاء لكل تلك المؤثرات التي تتكون منها العظمة السياسية والفكرية.
في إحدى صفحات الكتاب ينقل المؤلف قولة لخبير عربي في مجال المقارنة بين السودانيين وغيرهم من العرب جاء فيها أن الخاصة عندهم أفضل من خاصة السودانيين ولكن عامة السودانيين أفضل (يريد ثقافة واطلاعا وشيما) من عامة العرب. وهي كما ترى عبارة موجزة ذات بلاغة مغرية ولكنها ليست صحيحة على وجه الإطلاق وخير برهان على عدم صحتها كون الدكتور الجليل من صفوتنا (خاصتنا) وهو دون شك متفوق على الكثير من رصفائه العرب وغير العرب فهو عالم وكاتب وذو نظر صائب في قضايا الحكم والسياسة والبيئة ولنا جميعا أن نفخر بأنه يفوق أقرانه في النخب الأجنبية بجمعه كل تلك المواهب في شخصه الكريم . وقديما جازف الشاعر بقوله :
ليس على الله بمستكثر
أن يجمع العالم في واحد
النشيد الأول للطبعة
مَنْ غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصرْ
من غيرنا ليقرر التاريخ والقيم الجديدة والسِّير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمةْ
جيل العطاءِ المستجيش ضراوة ومصادمةْ
المستميتِ على المبادئ مؤمنا
المشرئب إلى السماء لينتقي صدر السماءِ لشعبنا
جيلي أنا...
هدم المحالاتِ العتيقة
وانتضى سيفَ الوثوقِ
مُطاعنا
ومشى لباحات الخلودِ عيونهُ مفتوحةٌ
وصدوره مكشوفةٌ
بجراحها متزينة،
متخيِّراً وُعر الدروب.. وسائراً فوق الرصاص
منافحا
جيل العطاءِ لك البطولاتُ الكبيرةُ
والجراحُ الصادحة
ولك الحضورُ هنا بقلب العصر
فوق طلوله المتناوحة
ولك التفرّد فوق صهوات الخيول روامحا
جيل العطاءْ لعزمنا
حتماً يذلُّ المستحيل .. وننتصرْ
وسنبدعُ الدنيا الجديدةَ وفقَ ما نهوى
ونحمل عبءَ أن نبني الحياة ونبتكرْ
النشيد الثاني : للأربعاء 21 أكتوبر
بالأربعاء طبولنا دقَّت وزوبعتِ الفضاءَ
صيحاتنا شقَّت جدار الليل
واقتحمتْ فناءه
وتحدَّرتْ ناراً بآذان الطغاة
العاكفين على الدناءه
الخائنين السارقين القاتلين..
الحاسبين الشعب أغناماً وشاء .
بالأربعاء هتافنا شدخ السماء
حفَّت بموكبنا بطولاتُ الجدود
تزيد عزمتنا مضاء
وتقاطر الشهداء من أغوار تاريخ البلاد
مهللين مباركين نضالنا
بالأربعاءِ الرائعة
نصبوا بروج الموت فوق الجامعة
وتفجر الغاز البذيء على العيون مدامعاً
وتوحَّش البارودُ ،
لعلع في الجباه وفي الرئات وفي الصدور..
في لحظة الغدر الذميم تينبعتْ من خلفنا
زُمَرُ الزغاريد التي صدحت بها أخواتنا
فتسوَّختْ قدمُ الكفاح على لهيب المعركة
ثبَّتن أقدام الكفاح على لهيب المعركة
الدمُّ يرخص
والرئات لتنشوي
لن تنثني خطواتنا المتشابكة
الأربعاء على جبين الدهر
لؤلؤة
ومتكأ انتصار
زغرودةٌ تحمي ظهور الثائرين
وكأسُ أفراحٍ تُدار.
يا غرسة المجد الطويل
على مصاريع النهار
فلتسمقي جِذعاً وتزدهري بأمجاد الثمار
ولتبقِ راية ثائرين
وملتقى متسامرين
ودوحة أفياؤها مجدٌ وخضرتها فخار..
النشيد الثالث : للقرشي
وكان في قريته الذرة
مثقلةُ الأعواد بالثِمار
والقطن في حقولها منوِّرُ
ولوزه نضار.
وكان في العشرين لم يرَ
ألفاً من الشموس مقبلة
ولم يعش هناءة الزفاف
ولم يكن في فمه أكثر من هتاف
ولم يكن في يده أكثر من حجر
وكان في المقدمة
على خطوط النار والخطر
فجندلوه بالرصاص دامياً منتفضاً
وفي أكفَّ صحبه قضى
تعطَّر الثرى بدمه وأختلج التراب
أجفل صبحٌ قادم وشاب
إنفلق الليل إلى ضفيرتين
وقفَّ شَعْرُ النجم والأجـنة
هبت عليه بالرضا رياح الجنَّة
تصاهلت خيول المركبة
واصطفقت أجُنحُها المرحِّبة
وهكذا ...
على وسادة من الريش الوثير
تصاعدت إلى النعيم روحه الزكية
إلى الخلود بطلاً وثائراً
وقائداً رعيل الشهدا
ورمز إيمان جديد بالفدا
وبالوطن
النشيد الرابع للثورة
لفُّوه في علم البلد
ودَّثروه بحقدها وعويلها
بتأجج الغضب المقدس فوق تربتها
وعبر سهولها
بشموخ وثبتها إلى الحرية الحمراء تقطر بالنجيع
وتدفقوا متظاهرين محطمين العار والذل الطويل
وكل ألوية الخنوع
لا البطش يرهبهم ولا الموت المحدق بالجموع :
"لن تفلت الأفعى وإن حشدتْ أساطيل الجحيم
وحصَّنت أوكارها"
الثورة الشعبية الكبرى تغذتْ بالدماء واضرمتْ
فوق المآذن نارها
النصر في أعقابها يسعي
وسحق الخائنين شعارها
والمجد حفِّ بها
وباركت البلاد مسارها
ويلٌ لهم من غضبة الحق الأنوف
وثورة الشعب الجليلة ..
ستظل وقفتنا بخط النار رائعة طويلة
سنعلِّم التاريخ ما معنى الصمود
وما البطولة
سنذيقهم جرحاً بجرح ..
ودماً بدم
والظلم ليلته قصيرة.
النشيد الخامس : للانتصار
باسمك الأخضر يا أكتوبر تغني
الحقول اشتعلت قمحاً
ووعداً وتمني
والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي
باسمك الشعب انتصر
حائط السجن انكسر
والقيود إنسدلت
جدلة عرسٍ في الأيادي
كان أكتوبر في أمتنا منذ الأزل
كان خلف الصبر والأحزان يحيا
صامداً منتظراً
حتى إذا الصبح أطل
أشعل التاريخ ناراً واشتعل
كان أكتوبر في وقفتنا الأولى
مع المك النمر
كان أسياف العُشَر
ومع الماظ البطل
وبجنب القرشي
حين دعاه القرشي
حتى انتصر
اسمك الظافر ينمو
في ضمير الشعب إيمانا وبشرى
وعلى الغابة والصحراء يمتد وشاحا
وبأيدينا توهجت ضياء
وسلاحا
فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبراً
سندق الصخر
حتى يخرج الصخر لنا
زرعا وخضرة
ونرودُ المجد
حتى يحفظَ الدهر لنا اسما وذكرى.
النشيد السادس
للشعب
إنني أومن بالشعب،
حبيبي وأبي
وبأبناء بلادي البسطاء
وبأبناء بلادي الفقراء
الذين اقتحموا النارَ
فصاروا في يد الشعب مشاعل
والذين انحصدوا في ساحة المجدِ
فزدنا عددا
والذين احتقروا الموت
فعاشوا أبدا
ولأبناء بلادي سأغني
للمتاريس التي شيَّدها الشعبُ
نضالا وصمودا
ولأكتوبر مصنوعا من الدمِّ
شهيدا فشهيدا
وله لما رفعناه أمام النار
درعا ونشيدا
وله وهو يهز الارض من أعماقها
بشرى وعيدا.
•
فلتكن عالية خفاقة رايةُ أكتوبر فينا
ولتعش ذكراه في أعماقنا
حبا وشوقا وحنينا
وليكن منطلق الشعبِ
لإيمان جديد بالفدا
ولإيمان جديد بالوطن.