من غرب إلى غرب

 


 

 




1-    يا غريب خليك أديب

الغربة في اقوال العرب القدماء من أشد التجارب البشرية  إيلاما إذ تمثل بنظرهم إسقاطا لكامل حقوق المغترب الانسانية وعيشه بينهم بلا حقوق ، وهي علقم يتجرعه المغترب هربا مما هو أمر وأدهى من الفقر والظلم  والاضطهاد المذهبي  في وطنه.  وقد قال قائلهم:
إنَّ الغريـــــــب وحيثما حطت ركائبه ذليل  ويد الغريب قصـــــيرةُ ولسانه أبداً عــــليل
والناس ينصرُ بعضهم بعضاً وناصره قليل
ويقولون انها للرجرجة والدهماء وليست لأهل الهيئة والشأن لأن الرجال الموسرين يقيمون بأرضهم "وترمي النوى بالمقترين المراميا.
وقد اطال أبو حيان التوحيدي في  صفة الغربة وعذابها حتى ابدى المغترب بهيئة الممسوس الذي تعافه النفوس فهو مثل كرة القدم يركلها الراكلون ولا يشبعون من ركلها ويتزاحمون بالمناكب للوصول اليها وركلها من جديد.ومن  ذلك قوله: 
"الغريب  إن حضر كان غائباً ، وإن غاب كان حاضراً لا اسم له فيذكر، ولا رسم له فيشهر ، ولا طي له فينشر ، ولاعذرله فيعذر ، ولاذنب له فيغفر،ولاعيب عنده فيستر ".
ومن المؤكد ان تلك الاحوال كانت سائدة في عالم التوحيدي ومعاصريه على عهد ما يعرف بالقرون الوسطى – القرن الخامس الهجري-  حيث لم يكن هنالك شيء يدعى حقوق الانسان ولا مفوضية سامية تسهر على اوضاع اللاجئين والنازحين. ولقد تغيرت الدنيا كثيرا منذ تلك العهود فصارت الغربة لشرفاء الرجال والنساء وللباحثين عن الحرية والرزق الحلال وأصبح من الممكن ان يحظى الغريب بالتكريم والتشريف ويصبح موضع التقدير والاعتبار إن لم يكن من أهل البلاد فمن رفاقه في الغربة وذلك ما جرى لي شخصيا من أهلي وأحبابي في جالية مونتري فقد تنادوا الى مسعى من مساعي الخير والمرحمة وأعدوا لشخصي الضعيف احتفالية   تخزي عين الشيطان وقد   كان في طليعة متحدثيها   الدكتور علي بابكرالهدي مؤكدا على فكرة  جديدة تقول  بضرورة تكريم المبدع في حياته وليس بعد وفاته وهي بالحق  فكرة صائبة فبعد الوفاة لا ينفعك المدح ولا الجوائز ولا تستفيد شيئا من قدح القادح ولا مدح المادحين.

تتميز الجـالية السودانية بمونتري عن غيرها من الجـاليات بوحـــدتها التنظيمية وتركيزها على خدمة منسوبيها دون التقاعس  عن خدمة قضايا الوطن الكبير.ولقد خلا تاريخها من تلك الصراعات  التي تعرضت لها بعض الجاليات الاخرى بسبب من السعي وراء وجاهة المنصب أو خدمة العقيدة  السياسية ويعود الفضل في ذلك الى  مجموعة الرجال الأماثل الذين قاموا على تأ سيسها ورعايتها وعلى رأسهم استاذنا الجليل محمدعثمان حسين (أخذ الله بيده الى مراتع الصحة والعافية) وصديقنا الأثير الدكتور علي بابكر الهدي المعروف  بخبرته القيادية  وحنكته السياسية. وعشرات آخرون وأخريات لا نريد احراجهم بايراد اسمائهم وألقابهم.


2-    الصخرة العائلية

تفرض ظروف الحياة الامريكية على العائلات حياة البعد والتشتت فتتوزع العائلة الواحدة على عدة   ولايات واذا اجتمعت في واحدة وجدت نفسها موزعة على عدة مدن.وقد أخذ الامريكيون على ذلك الوضع واعتادوه وابتكروا لعلاجه تقليدا جديدا هو تقليد اللقاء العائلي السنوي او نصف السنوي  وهو ما يسمونه  بلغتهم    family reunion  وذلك امر لم يقيض لعائلتنا الا بمناسبة ذلك التكريم فتداعى الابناء والبنات من الساحل الشرقي الى مدينتنا   مونتري في اقصى الساحل الغربي وكان ذلك سعادة لا توصف خاصة تلك الشهادات التي اغدقها على شخصي مولانا كمال المكي وهو داعية اسلامي متفرغ يوظف  لغته الانجليزية المتفوقة وقدراته الخطابية الهائلة في خدمة الاسلام المعتدل.ومع استقراره وعائلته  في الساحل الشرقي فانه في حال من الترحال المستمر عبر القارات ليلقي محاضراته الممتعة في استراليا او اوروبا و جنوب افريقيا وله في كل تلك القارات احباب محبون.
وكان معنا إبنتينا داليا ولؤلؤة وآخر العنقود خالد الظريف وبذلك انتظم العقد الا من مولانا ابراهيم المكي الذي يفضل العمل والحياة في السودان, ولقد فوجيء جمع الحاضرين بالبلاغة المتدفقة لاخي احمد ابراهيم علي وحفظه الجيد لعض الاشعار التي  لم أنشرها وأنسيتها مع تقادم الازمان
وخلال تلك المناسبة انضم الينا اثنان من العائلة هما الصديق الصدوق الاستاذ كمال الجزولي والحبيب الشاعر فضيلي جماع  .وقد تجاوب الحفل مع الكلمة الذكية الطريفة التي القاها كمال بصوته الواثق فاضحك وابكى وسيطر على مشاعر الحضور,وظني ان كلمة الشاعر جماع لم تكن اقل منها بلاغة وبيانا لولا المعاكسة الالكترونية التي حرمتنا من استماعها.أما القول  الفصل فكان لست الكل السيدة  ام كمال أمنا وبرتقالتنا وحبيبة ايامنا وشريكة حياتنا لما يقارب نصف قرن من الزمان والتي بشجاعتها و حسن تدبيرها استطعنا ان نخرج من الظالمين سالمين فلله الحمد والمنة وشهادتها عن شخصي يراعة مضيئة ومسجلة عليها بشهادة الشهود العدول من اهل مونتري ولا سبيل لسحبها او تعديلها لاي سبب حتى لعدم المشاركة في اعداد الطعام وغسيل الاواعي, فقد  دخلتُ التاريخ بتلك الشهادة كزوج ولن اخرج من ذلك التاريخ لايما سبب. وهنا ايضا اجدد الشكرلاهل مونتري      كما أبعث بيانعه وأزكاه الى الصديق النابغة صلاح شعيب الذي قام باخراج قصيدتي الأثيرة(بعض الرحيق)  مستعينا بحناجر ستة من نجوم الاذاعة الامريكية العرب أحسنوا في الاداء وأسبغوا على القصيدة من جمال اصواتهم وبراعتها ما جعل القصيدة تلمع كالماس الصقيل. وهنا ايضا لا أحتاج لايراد الاسماء  فان تلك الاصوات   الرنانة سهل تمييزها لكل مستمعي الاذاعات العربية ومحبيها.
ولاتكتمل الصورة ابدا اذا لم نذكر ريحانة المجالس وروح الظرف والذوق والاريحية سيد الجميع (سيد القوم خادمهم)  الابن  والاخ والصديق سيف الدين جبريل الذي قدم من جليل الخدمات ما  لا يدركه الحصر فاستقبل الزوار  القادمين  وصور تفاصيل الحفل وقام بدور الماستر اوف سريمونيMC   وبعد الحفل نشر وقائعه على صفحات سودانيز اون لاين الغراء  و شكر كل من زار الموقع واجاب على اسئلتهم واستفساراتهم . وسيف الدين صديق كريم  وابن اخ كريم والذي جمع قلبي الى قلبه هو ثفاقته الرفيعة وحبه للثقافة  والمثقفين وفي احدى زياراتي لداره العامرة في سان هوزيه مددت يدي الى رفوفه الثقافية فاذا انا امام كل جديد من الاصدارات وظني انه الوحيد في امريكا الذي يقتني  االتفسير القرآني الذي اصدره الدكتور الترابي مؤخرا.وعن نفسي وعائلتي ازجي لسيف الدين اسمى أيات الشكر والامتنان.


3-  من غرب الى غرب.
قال ابو العتاهية:ان اخاك الحق من كان معك  ومن يضر نفسه لينفعك والمسألة بيني وبين الاستاذ الفاتح ابورفات لم تتجاوز الشطر الاول من البيت فلا ضرر يصيبه او يصيبني   وانما هي الالفة والمحبة الصافية وهذه "المعية" المستمرة فالفاتح لايغيب عنى لطويل زمان وهو صلة الوصل بيني وبين الاحباب في عروس الرمال وهو دائما مشجعي على الكتابة والنشر وعدم الاسترخاء الثقافي وكل ذلك من حسن ظنه وطيب معدنه وحبه الفائق لمغاني نشأته في كردفان.
عرض علي الاخ الصديق فكرة لتكريم بعض الرموز الكردفانية وسألي ان كنت استطيع حضور المناسبة فاعتذرت وعند ذلك قام الفاتح بتعديل فكرته  لتضمني  شخصيا الى قائمة التكريم. وهكذا اقيمت بجهده الخاص بمركز عبد الكريم ميرغني احتفالية جميلة على شرف مليكنا المتوج الراحل الغالي الاستاذ الفاتح النور صحفي كردفان الاول وعلى شرف نجله الراحل معاوية الفاتح النور الذي غادرنا في اوج شبابه وعنفوان عطائه ثم اضاف الى قائمة التكريم اسمي واسم الدكتور عبد الله جلاب . وهكذا امتدت الاحتفالات من مونتري الى  السهوب الكردفانية التي تعيش هذه الايام وطأة الخريف وحلاوة وعوده. ولقد تزامن كل ذلك مع تقاعدي وظفري بالحرية التي تتيح لي التجول بي تلك الأماكن الرائعة من غرب السودان العظيم الى الغرب الامريكي  الرائع وما اجمله من يوم حين تصفو العلاقات بين الغربين وتأتي آلة التنمية الامريكية الجبارة الى سهوب كردفان وانحاء السودان الاخرى لتبعث فيها الحياة وروح التقدم والازدهار التي بثتها   في كل مكان ذهبت إليه.
وختاما أجدد الشكر لكل من ذكرت ومن لم أذكر من النساء والرجال الذين احتفوا بي وبعائلتي واصبحوا بفعل االمحبة جزءا من عائلتي الكبيرة الممتدة من  قرى كردفان الى القرية  الكونية المنتظرة لتحقيق حلم الرفاهية  لكل البشرية في كل انحاء المعمور

Ibrahim Elmekki
melmekki@aol.com

 

آراء