الأستاذ محمود .. اتساق الفكر وأناقة التصور

 


 

 

كان الأستاذ محمود محمد طه يتسم بسماحة التفكير الذي ينسجم مع بعضه البعض ، كأنه يخرج من ذات ملمومة و مضمومة غير متناثرة ، و هو أمر مثير للإعجاب بالفعل .
شعر الأستاذ محمود ، منذ وقت باكر ، بالخلل الكبير في تناول الفكر الإسلامي المألوف مع فوران المجتمع البشري و سيره الحثيث في التفاعل مع الحياة ، و ضرورة التطور الذي يدفعه باستمرار إلى بلورة تشاريع تفسر حركته و تضبطها .
و لما كان القرآن هو أهم "كتاب" يستمد منه المسلمون تشاريعهم ، جاءت ضرورة الغوص في محتواه الذي يبدو بعيدا عن دينامية حركة المجتمع التي أرتقت لتساوي بين الناس من حيث هم بشر . إذ تطلع إنسان القرن العشرين لصوغ هذه المعاني ، التي وصلها عبر طريق وعر رصفته أشلاء و دماء ، فجاءت حقوق الإنسان و ما جاورها من حقوق .
اكتشاف الرسالة الثانية
غاص الأستاذ محمود في تجربة روحية كبيرة ، محاكيا طلائع الأنبياء ، في العكوف على استطلاع أزقة النفس و طرقاتها ، بعد "حرمانها" من مألوف الطعام و الشراب الذي يشدها إلى الواقع اليومي ، فسمت نفسه ، و شعت سناء ، و شحذت حواسه فصار بصره حديدا ، ليرى ذات الأمور المألوفة بطريقة مختلفة .
نظر الأستاذ محمود إلى القرآن بتلك العين التي جلتها تجربته الروحية الكبرى ، فرأى خطابين داخل النص القرآني ، لا خطابا واحدا . و رأى تشريعين ، لا تشريعا واحدا . و رأى رسالتين لا رسالة واحدة ..
و كما ترى ، فالمستويان ، في الخطاب القرآني ، واضحان بشكل يجعلك تسغرب لماذا لم يرهم أحد من قبل و هما بهذا الوضوح !! و لذلك أطلقنا عليه اكتشاف لأنه شيئ موجود بالفعل و لم يخترعه الأستاذ محمود .
استنتج الأستاذ محمود أن إحدى الرسالتين (عبر عنها القرآن المدني عموما) قد استنفدت أغراضها و أصبحت مثل الدواء الذي فقد صلاحيته ، فلم يعد معالجا لأدواء إنسان اليوم و لا متسقا مع متطلباته .. فلم يبق ، إذن ، إلا الرسالة الثانية (عبر عنها القرآن المكي عموما) ، أو البحث عن فلسفة أخرى تتناول قضايا إنسان اليوم بشكل أكثر مضاء و نجاعة .
جمال التفكير و أناقة التصور
و المدهش في الأمر ، كما لاحظ أحد الأصدقاء القدامى من اللادينيين ، أن عامة المسلمين الذين يرفضون مثل هذا التصور المبسط الذي يجعلهم مساهمين في إيجاد حلول عملية لبشرية اليوم ، كأنما هم يرفضون من يقذف لهم بطوق النجاة من الغرق في لجة التلاشي و العدم .
و التصور البسيط إنما هو صنو الأناقة و الجمال ، و هو عند العالم أينشتاين دليل على صحة النظرية . فقد جاء في أدبيات التاريخ العلمي و بحثه المستمر لفكرة توحيد القوى الفاعلة في الوجود في معادلة واحدة ، و الذي يقول لو إنك أرجعت شريط الوجود إلي الوراء ، فلا بد أن كانت هذه القوى الفاعلة ملمومة و مضمومة في نقطة واحدة فريدة قبل أن تخرج هذه القوى و تتناثر لتبدو كأنها ذات نوع مختلف - جاء في هذه الأدبيات ، إن مجموعة من العلماء ، زاروا أينشتاين في منزله (في التاسع و العشرين من مايو لسنة ألف و تسعمائة و تسعة عشر ، و هو تاريخ الكسوف الكلي للشمس في بعض المناطق كالبرايل و تنزانيا ، و كانت المراصد حينها تفرك عينيها لاختبار صحة نظرية اينشتاين) ، و قالوا له ماذا تقول إن لم تصح نظريتك عند التجربة ؟؟ قال أينشتاين ، عندها كنت سأعتذر لرب العالمين ، و تبقى النظرية صحيحة لأنها شديدة الأناقة و الجمال .
و لك أن تتصور الشمس و هي تجلس على ملاءة الفضاء ، فتحدث فيه تقوسا تحتها ، فيرسل نجم بعيد ضواي أصابعه الذهبية نحو الشمس ، و لن تجد هذه الأصابع بدا من الإذعان لهذا الانحناء حتى تلامس تخوم جسد الشمس ، فيبدو لنا النجم البعيد الضواي على امتداد هذا التلامس ، في غير مكانه الحقيقي الذي ولد وترعرع فيه .. واااااو ، يا للبهاء .
محاولة الإفلات من المأزق
حاول عديدون "تحديث" الفكر الإسلامي ليتعايش مع متطلبات الحاضر ، أهمهم إسلاميون سودانيون ، و ذلك للحاجة الملحة لتحديث الفكر الإسلامي في السودان أكثر من أي مكان في محيطه ، و ذلك أيضا فرضته ضرورة التنوع الوعر الذي ظل دقداقا في أرض السودان ، فحاول هؤلاء التحديثيون تسويته بالعنف حينا إن ظنوا أنهم أقوياء ، و حينا آخر بالدغمسة إن أكتشفوا ضعفهم .
و لأنهم تعاموا عن ما نادى به الأستاذ محمود ، راحوا يتقافزون بين النصوص القرآنية ، بشطارة بهلوانية ، علها تسعفهم في مأزقهم الأبدي . فها هم يتغنون بالحرية و الديمقراطية ، ويستدعون الآيات التي تدعمها و هم خارج السلطة ، و يدغمسون أمر "الجهاد" و يتغافلون عن الآيات التي تحض عليه . ثم ها هم يتغنون بهذا "الجهاد" ، و هم داخل السلطة ، و يدغمسون أمر الحرية و الديقراطية ، في بهلوانية معكوسة هذه المرة . فعلى سبيل المثال ، سأل الصحفي الكبير بشير محمد سعيد ، في برنامج تلفزيوني ، الدكتور حسن الترابي عن رأيه في "الجهاد" ، فأجابه قائلا إن "الجهاد" أمر تجاوزه الفكر الإسلامي الحديث . و بعدها ، نحو ثلاثة أعوام ، انقلب ذات الترابي على ذات الحرية و الديمقراطية و غنى لذات "الجهاد" !! و ذلك إنما هو عدم الاتساق في أقبح تجلياته . و قس على ذلك أقوال كل من يتصدى للتفكير في الشأن الإسلامي من العالم الإسلامي وغيره ، و لا يسع المجال لإيراد العديد من الأمثلة في هذا المقال .
أما عند الأستاذ محمود ، فالأمر بسيط و أنيق . فالجهاد و الرق و دونية المرأة و غير المسلم ، إنما هي تشريعات للمجتمعات القاصرة ، و لم يعد لها وجود , و تلك عنده هي مفاهيم الرسالة الأولى (القرآن المدني) . أما عالم اليوم الرشيد ، في العديد من وجوهه ، إنما تستوعب قضاياه الرسالة الثانية (القرآن المكي) ، حيث تشريع الحرية و المساواة .
و كما ترى ، فالمسلمون اليوم في حاجة ماسة إلى إعادة النظر في مشروع الأستاذ محمود لأنه يخرجهم من عزلة داعش و أمثالها ، و يجريهم مجرى الإنسانية العام ..
صدق داعش و تدليس المسلمين
الغريب في الأمر ، إن المسلمين في عالم اليوم ، يستنكرون "بشاعة" داعش و طالبان و أمثالها و يتبرأون منها بدعوى أن هذا "التخلف" ليس من الإسلام في شيء . و هؤلاء المنتقدون المسلمون إنما هم مدلسون ، و يحاولون أن يبدووا متحضرين . فلداعش فقهاء و علماء بالسيرة مدركون لأفعالهم و يرونها منسجمة مع الإسلام ، و هذا صحيح و هم في ذلك أصدق من منتقديهم . و كل ما في الأمر أنهم يطبقون مفاهيم الرسالة الأولى من الإسلام كما سادت في دولة المدينة في الماضي .
و غني عن القول ، إن التقدم الهائل الذي يعيش فيه الإنسان اليوم ، يجعل المقارنة معدومة مع مجتمع المدينة في القرن السابع الميلادي . فعلى سبيل المثال ، فإن المرأة اليوم تفجر الثورات مع أخيها الرجل و تعيش معه الآمال و الآلام في العالم الثالث ، و تقاسمه الضغط على الزر النووي في العالم الأول . فكمالا هارس نائبة الرئيس الأمريكي ، تتصدى لكل شيء في حالة غياب الرئيس ، حتى و لو أدخل المستشفى ، فتحتوي يداها الناعمتان "أرض الملعب" ، و هو الاسم الكودي للسلاح النووي ، و يمكنها بثلاث لمسات من أصابعها الرقيقة أن تحرر الجن النووي المسجون في قلب ذرة اليورانيوم و البلاتينيوم ، فتدمر الحياة و شروطها في كوكب الأرض ستة و عشرين مرة ، و لن تستطيع الأرض استقبال الحياة عليها من جديد إلا بعد مرور نحو سبعة عشر بليونا عاما و نيف ، تكون بالكاد استعدت خلالها لاستضافة حيوان الخلية الواحدة البدائي .. فكيف ، إذن ، يتسنى لك أن تطرح فكرة أنها على النصف من مرؤوسها في شهادتها للكونقرس و هى عائدة لتوها من رحلة بدون "محرم" ، وقعت خلالها تفاهمات يستفيد منها منكوبون يشملون رجالا مسلمين استولى على حقوقهم لصوص مسلمون ، أو أنها على الربع من زوجها حين تدخل بيتها ؟؟
مثل هذه الأسئلة ، ينبغي على المسلمين التفكير فيها و عدم الزوغان منها .
لغة الأستاذ محمود
تتسم لغة الأستاذ محمود بالجزالة (الجمال) و القوة (الاتساق) و الاقتضاب (الأناقة) ، و هو الثلاثي المسئول عن مغناطيسية لغة الأستاذ محمود . فهي لغة مسددة و محتشدة نحو مركز الفكرة التي يطرحها . على سبيل المثال ، هذا التنوع الواسع في ساحات الوجود الذي يبدو لا نهائيا ، "إنما هو اختلاف مقدار و ليس اختلاف نوع" عند الأستاذ محمود ، فلا تكاد تجد عبارة ضامة و أكثر احتواء منها للتعبير عن مقاصدها . أو "كل إنسان غاية في ذاته و لو كان أبلها" ، فلا تكاد تجد عبارة تعلوها تمجيدا لكرامة الإنسان و حقوقة في هذا المضمار .
و كما ترى ، ذات الاتساق و الأناقة و الجمال ينتظم كل كتاباتة ، حتى لو أنك استبدلت كلمة بأخرى ، ظهرت العبارة كأن بها رقعة و سرعان ما يتضح تطفلها على النص . انظر ، يا ابن ودي ، إلى هذا السبك الفخيم في هذه الفقرة من مفتتحات كتاب الرسالة الثانية :
"عندما استعلن النور الإلهي بمحمد الأمي من جبال مكة في القرن السابع الميلادي ، أشرقت شمس مدنية جديدة ، بها ارفعت القيمة البشرية إلى قمة لم يسبق لها ضريب في تاريخ البشرية " .
و يمتد هذا السبك الفخيم حتى في توظيف الحقائق العلمية الجافة كارتقاء الحيوان على الجماد ، لتخدم الغاية عنده ، فها هو يضع الحقيقة العلمية الجافة في عبارة أخاذة ، كأنها نغمة مخبوءة في وتر تهيأ ليضوع منه لحن باق . اسمعة يقول :
" و الكرامة عند الله للبشر و ليست للسموات و لا للأرض ، بل إن النملة عند الله أكرم من الشمس ، لأن النملة دخلت في سلسلة من الحياة و الموت ، لم تتشرف بها الشمس ، و هي تتطلع إليها ، و ترجوها بشق النفس" .
انسجام القول و العمل عند الاستاذ محمود
و لعل الذات الملمومة و المضمومة غير المتناثرة التي أشرنا لها ، في بداية هذا المقال ، تقف خلف هذا الاتساق . فهو يقول كما يفكر و يعمل كما يقول . فقد كان يتصدى للعمل بنفسه . و كان يبرز لمقام المسئولية عندما يتم اعتتقال تلاميذه و يعلن أنه خلف هذا الموضوع ، لا أن يوفر نفسه بحجة الحفاظ على "القلب النابض للحركة" . و كان تعامله مع الناس ممزوجا بتفكيره من أنهم غايات في ذواتهم و ليسوا وسائل تتخذ لتحقيق أي شيء آخر ، و كان يعيش هذا المعنى دما و لحما فيسكب عليه ، من ذاته المتصالحة مع نفسها ، تبجيلا ممتدا للإنسان من حيث هو إنسان ، و يسوقه لكل أؤلئك إدراك صاف للأحياء و الأشياء . على سبيل المثال ، قيل أن رجلا ، أكل مرض الجزام المعدي بعضا من أطرافه ، زاره في بيته المفتوح دوما ، و عندما جاء الطعام ، عاف الحاضرون مشاركة الأكل مع الزائر ، إلا صاحب الدار ، سمح النفس ، الذي برز وحيدا لمقام إنسانيته و قاسمه اللقمة ، و قال لاحقا إنه يكن تقديرا عاليا لهذا الرجل لأنه فداه ، و ذلك لأن هذا المرض أرسله الله لأهل الأرض ، فتلقاه هذا الرجل نيابة عنا !! ما هذا ؟؟ أي طين قد منه الأستاذ محمود ؟؟
يوم الرحيل
حكم على الأستاذ محمود بالقتل بتهمة الردة عن الدين الإسلامي . و كان قضاته الرسميون و غير الرسميين يعبرون عن تيارين سائدين . فأما التيار الأول ، فكان يظن أن الأستاذ محمود يعمل على تخريب الدين الإسلامي ، و يرى أن طرحه كان غريبا . و هؤلاء لم يصبروا عليه ، رغم أن الغربة إنما هي كسر للمألوف الذي لا يكون الارتقاء إلا به . فهكذا تشهد مسيرة الإنسان في رحلته الطويلة من وحشة الغابة إلى أنس المدينة .. و أما التيار الثاني ، فكان يرى في الأستاذ محمود تهديدا كبيرا لمشروعهم . و هؤلاء كانوا و ما يزالون يبثون "السم" الإسلامي لسجن العقول و الأفئدة لتقبل أن تكون وسيلة لغاياهم ، بينما يبث الأستاذ محمود "الترياق" الإسلامي لتحرير هذه العقول و الأفئدة ليكونوا هم غايات في ذواتهم .
و أما الأستاذ محمود .. فقد أدرك ، حينها ، أن هذه الذات الملمومة و المضمومة غير المتناثرة لا يتسنى لها أن تلج داخل عتبات الكمال إلا بمعانقتها لغيب ظلت دوما تشتاق إليه . فخرج وحيدا للملأ في ثوب عرسه ، يوم الثامن عشر من يناير لسنة ألف و تسعمائة و خمسة و ثمانين ، فمشى بخطى وئيدة مطمئنة ، و قيود في قدميه كأنها وضعت لدوزنة خطاه ، لا خبب ترى فيها و لا فتور ، ثم صعد سلمه اللولبي و أرسل ابتسامة طرية رددت صفحات المكان نداها ، و تكات الزمان صداها ، ومضى حينها منتشيا كأنه سيد الوجود ..

adil.esmail@gmail.com

 

آراء