الأصوليّة وعقدة النقص تجاه الآخر

 


 

 


mohamed@badawi.de

ما أكثر قذائف الأصوليّة في عالمنا، سيما تجاه (الآخر) أقصد (الغربي). انطلاقا من محتوى الخطاب الديني الأصوليّ يمكن أن نتبين حدّة وعمق معاداة الظاهرة الأصوليّة للعالم الغربي؛ ذلك يجري التعبير عنه عبر أسلوب بدائي بسيط يمكن لكل العقول البسيطة أن تنهمه حتى تعتبره – في خطوة متقدمة - من المسلمات التي لا رجعة فيها. هاكم بعض ما قيل بشأن الحادثة الأخيرة: "بارك الله لإخواننا المسلمين الثائرين المدافعين عن عرض نبينا عليه الصلاة والسلام وعلى رأسهم أحفاد عمر المختار في ليبيا النخوة والغيرة والإسلام ونقول لهم: إن قتل السفير الأمريكي لهو أحسن هدية تقدمونها لحكومته المتغطرسة الظالمة لعلهم يفيقون من غيهم ويعودون إلى رشدهم ويدركون حقيقة معركتهم مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم".

أهل نحن في معركة مع الغرب؟ أهل هذا هو السكون الذي يسبق معاركاً جديدة؟ لقد هدأت حدة الاحتجاجات يا سادتي وانقشع  بعض غبارها. لكنها الحقت دون أدنى شك ضررا جسيما بصورة المسلمين والقضايا العربية والاسلامية ومن بينها الاوضاع في السودان وسوريا، حيث تراجع الاهتمام الشخصي للشعب من جهة، وتبعثر اهتمام الإعلام من جهة أخرى، لما شهدناه من اعمال قتل وتهجير وتدمير طغت على حوادث الساعة. لنأخذ بعض من الوقت لتحليل اسباب اندلاعها ومنبع تفجرها. إن الأمر لم يكن مجرد ثورة غضب واحتجاج  ضد عرض ١٣ دقيقة من مقاطع فيلم ساذج وقبيح  - لم يشاهده أغلبية المحتجين - بل تعداه إلى أعمال اجرامية تضمنتها شتى أنواع الهمجيّة والبربريّة الرعناء. عندما اصطفت الأفواج كانت كأنها خرجت لتحتج على قضية بعينها! لقد خرج الكثيرون من العوام. أغلب الظن زجّ ببسطاء القوم للدفاع عنها، أو قل زج بهم ليشفوا غليلهم وليجدوا منفذا آخرا لمشاكلهم وضغائنهم وأحقادهم المتراكمة. هل كان الخروج في خضم هذه الاحتجاجات حجة لتفريغ ما تكدس بالنفوس ومخرج ومتنفس اعتباطي لمشاكل تراكمت منذ زمن زهيد؟ هل تعرفون قصة "العزابة" الذين لم يجدوا مخرجا  لحقدهم وضغينتهم على أحد المزعجين من أولئك الذين يزورن القوم ليل نهار؟ كان يوما في زيارتهم وكان الكل – كالعادة - مغتاظ منه. وجد الزائر ثقيل الظل عقربا فقتلها لكنهم لم يشكروه بل همّوا بطرده قائلين: "دي عقربنا ما لك كتلتها"؟ هكذا نتعامل مع الغرب وننتظر أوهن الحجج لنثور عليه!

لقد ابتعدت تلك التظاهرات رويداً رويدا عن هدفها ومقصدها الرئيس وهو الاحتجاج وأصبح الأمر انفلات خرج تماما عن سيطرة العقل السليم وعن ميزان التفكير القويم. هل أصابت هؤلاء حالة انفصام في الشخصية؟ فنحن نثور ونغضب على ما يفعله نظام الإنقاذ والرباطة وعلى أمن الأسد والشبيحة وعلى إتاوات حسني مبارك والبلطجية لكننا للأسف لا نحفظ لمن هو تحت حمايتنا حقه ولا نحمى تلك الجاليات التي تعيش بيننا مسالمة في أمن وسلام، لكن ندوس علي أملاكها وحقوقها ونقتل أفرادها قتلاً. ندوس على مصالحهم وممتلكاتهم بالأرجل كما تدوس أنظمتنا على مصالحنا وممتلكاتنا منذ ٢٣ سنة ونحن لا نحرك ساكن. نسئ لأناس لم يسيئوا إلينا ونقتل أناس لم يتعدوا علينا ونسلب حقوقهم في الحماية بأبخس الأثمان وكل ذلك على مرأى ومسمع من القوات النظامية. لا أقول لكم كيف كان وقع هذه الطامة على أفراد الجاليات المتضررة، لكن بحمد الله كان هناك من أهل الخير بالبلد، من أولئك الذين لم يتوانوا في التعزية والتواصل والتراحم والاعتذار. لقد ملأت مشاهد الفيلم قلوبنا غضبا وزعلا لكننا يا سادتي وبكل صدق وأمانة بل  - أئمتنا خصوصا -  لا نكف عن سب وتجريح والتمسخر مِن وعلى الطوائف الدينيّة الأخرى إلى درجة الإسفاف. فخطب الجمعة لا تخلو أبدأ من اللهم أهلك اعداء الدين اللهم ... اللهم ... اللهم ..... الخ فصنعنا أعداء في مخيلتنا لأننا لم نصل لما وصلوا إليه من رقي وحضارة وظللنا نتحسر على تاريخ مضى.

أهل يستطيع أن يعيش أحد هؤلاء المهرجين دون حضارة الغرب: التلفون، التلفزيون، الجوال، الفاكس، الإنترنت، الغسالات، الطائرات، القطارات، السيّارات، الساعات، الكاميرات، الراديوهات، اللاسلكي، المواد الغذائية، الفنادق، علم الطب، الصيدلة والدواء والعقاقير، الجراحة وكل مظاهر الحضارة  الحديثة الخ الخ. أهل يستطيع أحد منا أن يعيش دون هذه الأشياء التي صنعها هؤلاء (الكفرة) كما نسميهم؟ الإجابة لا. ولا حتى حجاج البيت الحرام، فهم لا يبلغون ضالتهم إلا على أحدى دواب الغرب (الكافر)، برا أم بحرا أم جوا. فلماذا هذا الحسد وهذه الحقد الدفين؟ لا أحد منّا يُنكر أن الدول المسماة "دول العالم الثالث" أو "الدول الإسلامية المتخلفة" تعيش عالة وعبء على الحضارة العلمانية اللبرالية في شتى وسائل الحياة. بالنظر إلى حال عالمنا البائس فنحن نجد أن حتى حكوماتنا الظالمة ورغم تكفيرها لكل ما يأتيها من الغرب، تلجأ في حلّ مشاكلها إلى تلك الأنظمة الليبرالية المسيحية. إذ لا توجد دولة اسلامية واحدة تمتلك القوة السياسية أو الاقتصادية التي تعطيها حقّ الطموح لقيادة العالم واصلاح شأن الدول الأخرى كما تفعل دول الغرب المسيحيّ. وبطبيعة الحال نجد نوع من الإحساس بالفجيعة والضياع يغلب على خطابات وسلوك الأصوليين. فالحسد والكراهية وحدهما يقفان وراء سلوك الأصولية في حوادث مقتطفات الفيلم الأخير، لذلك يمكن القول بأن هذه الضجة لا تعزى لأسباب أخلاقية أو سياسيّة تتعلق بسلوك الولايات المتحدة بل تحركها نوازع ثقافية تنهل من صميم فكر الأصولية المبني على نفي الآخر وهلاكه. هكذا شكّل الخطاب الأصوليّ المعادي للغرب محوراً اساسيّاً لنشر صورة استريوتيب عن انسان الغرب وعن عالمه الآثم، فكان الخطاب الموجه (لهؤلاء الكفرة) مليء بالكراهية والبغضاء. أهل هذا دليل لأعراض داء شيزوفرينا الأصوليّة الإسلامويّة؟

بعد هذا العرض يمكننا أن نسأل أنفسنا:
- هل ساهمت موجة الاحتجاجات العارمة في تحسين صورة الإسلام وأمته في العالم الغربي؟
- هل اتخذت الاحتجاجات طريقة مثلى للتعبير عن احاسيس الأمة التي خدشتها لقطات للفيلم؟
- هل أضرت هذه الاحتجاجات بقضايا هامة على الساحة السودانية، والسورية على الصعيد العربي؟
- هل صارت الدول الغربية  اكثر تحفظا في دعم دول الاحتجاجات كالسودان؟
- هل ينبغي علينا اتخاذ أنواع أخرى من الاحتجاجات الذكيّة كتوجيه الرسائل ومقاطعة البضائع، الخ؟
- أليس من العقل أن يكون التعامل والغرب في الخطاب السياسي والديني بالتي هي أحسن؟

 

آراء