الألمان يساعدون “نهال” حتى بعد أن أحرقوا سفارتهم

 


 

 



mohamed@badawi.de
كنت يومئذ أقف أمام الحضور في إحدى المدارس المهنية بجنوب ألمانيا وكان ذاك بعد يومين، من انطلاق خبر حرق السفارة الألمانية بالخرطوم. تناقلت وكالات الأنباء العالمية سيما الألمانية فيديوهات وصور بعض "مرضى العقول" من أولئك الذين وقفوا أمام السفارة يحرقون ويصورون الحريق مهللين ملء الأشداق "الله أكبر". كنت أقدم حينها محاضرة عن التعليم في السودان وعن كيفية الخروج من هذه المحنة وما يمكن أن تفعله المدارس الألمانية التي أدرس بها في مساعدة أبناء السودان عبر التوأمة معهم. التعليم في ألمانيا رائع بمعنى الكلمة؛ وابناء الألمان يختلفون إلى المدرسة بعد زيارة الروضة لمدة ١٣ سنة أو على الأقل ١٢ ويمكن أن نقارن مستوى الطالب في الثانوي بألمانيا بمستوى خريج جامعي بالسودان، ذلك في كل المواد: العلوم، اللغات، التدريب المهني، الخ. كان التعليم في السودان في الستينيات وحتى في السبعينيات بخير ولكن تردى وتراجع بصورة خطيرة سيما في السنين الأخيرة بعد أن قللت وزارة التربية عدد سني الدراسة من ١٢ سنة إلى ١١ وحشت من المواد الواهنة ما حشت دون دراية أو خبرة. على كل انتفضت امرأة شقراء شامخة أثناء المحاضرة سائلة بعنف: "لماذا نساعد بلدك وأنتم حرقتم سفارتنا بها والكل وقف يهلل ويكبر على هذا الفعل الشائن؟ هؤلاء أبناءنا وموظفينا وأنتم الذين ألقيتم عليهم العبوات الناسفة ودلقتم على مكاتبهم جوالين البنزين؟ قل لي بربك لماذا نساعدكم؟!" فقبل أن يرتد إلى بصري لأتصدى لها، قامت مديرة المدرسة قائلة: "يا جماعة، لطفا، علينا أن نعالج هذه الأمور بالحكمة والحذق، فليس كل أهل السودان معادون للألمان ومصالحهم وليسوا كلهم من المتعصبين. وأنا أقرر مساعدة مدارس نهال الألمانية بأمدرمان (بمؤسسة الفلاح التعليمة) وسوف أبذل كل ما في وسعي لأساعد صغار السودان كي يخرجوا من محنتهم هذه ويرفعوا من شأن بلدهم الذي نعتبره من أعظم بلدان أفريقيا في تاريخه وجماله وبساطة وكرم أهله التي عشناها في شخص المحاضر الذي يقف أمامكم."
وكان كذلك إذ قرر مجلس الأساتذة دعم "مدارس نهال" بِمِنح سنوية للتلاميذ وبمواد تعليمة، وعقدوا العزم على أن يرسلوا معلمين لتأهلين معلمينا في القريب العاجل. تضافرت الأسر الألمانية بعد أن تعرفت على الوضع المعرفي والتعليمي المذري بالبلد ليهبوا منح لتلاميذ نهال بأمدرمان. على سبيل المثال تكفلت أسرة بروفسير في الجامعة بتحمل كل تكاليف الدراسة والملابس والترحيل للبنت رباب يعقوب، ابنة عامل، وأرسلت لها رسالة تحيي أسرتها بها وتشد من أزر البنت وطلبت مني أن أحمل لها عند ذهابي للسودان ملابس وكتب مصورة وألعاب.
من جهة أخرى حضر طالب من طلبتي بالجامعة (سباستيان سيل) للمساعدة وتأهيل المدرسة وسجل نفسه بكلية علم النفس بجامعة الأحفاد كمتدرب. بدأ معهم في تحضير المناهج العلمية بالكلية وتأهيل مركز العلاج النفسي الذي تزوره كل الفئات من أبناء السودان، كحالات الاكتئاب النفسي لربات الأسر التي صارت معدمة أو حالات الاغتصاب أو حالات زواج القصر أو حالات التعدي على الزوجة الخ. هذا هو ابن ألمانيا يرفل يوميا بين مدارس نهال وجامعة الأحفاد للمساعدة. والآن تتزايد رسائل طلاب الجامعة التي أدرس بها كما تزايدت تساؤلات أستاذة المدارس للحضور لأمدرمان للمساعدة وبناء صرح تعليمي ليس له نظير بالسودان. تأسيس مدرسة تضع التعليم والاعتماد على النفس وتنمية المهارات الفردية للتلاميذ قبل كل شيء.
عندما سمع مدير مدارس كمبوني الأستاذ سلوم بالمشروع اتصلنا عليه فقال دون تردد: أنا معكم. كان يدرك أن الفئة الكبرى من التلاميذ تأتي من منطقة أمبدة والعرضة فأتى إلى المدرسة بعد أن قدم استقالته بمركزه السابق لأن التعليم بها صار تجاريا: أبناء النجار الخمسة طردوا من المدرسة لأنهم لم يدفعوا المصاريف.
فالألمان ما زالوا يعملون بالسودان ويقدمون الخير له. معهد جوته بالخرطوم - في شخص مديرته الشابة ليلي كوبلا، التي تتكلم اللغة العربية بطلاقة وتحب أهل السودان -  يؤهل في ورشات عمل متتالية، عن التصوير وإدارة الأعمال وتأهيل زوجات السودانيين العالمين بألمانيا قبل السفر إليها ويعمل في تأسيس المكتبات بجامعة الخرطوم، الخ. فالأمان الآن يعملون كما عملوا سابقا في تأسيس التعليم المهني الذي صار نسيا منسيا من وزارة التربية بالرغم أننا في أشد الحاجة إليه في هذه الظروف. والسودان بخير إن علمنا أبناءه وأهلناهم أفضل تأهيل بدلا من استجلاب الأيدي العاملة من بلدان أخرى.
ندائي الأخير لأبناء أمدرمان أن يذهبوا ويروا بأعينهم مدارس نهال الألمانية جنوب استاد المريخ وما يفعله سباستيان والفريق العامل بها للانطلاق بالمدرسة الابتدائية في العام المقبل ولكل الفصول: الأول والثاني والثالث والرابع. ويروا أن قلوب أهل السودان هي أيضا كريمة معطاءة لأبنائه ولمن قدم إلى السودان من ابناء سوريا من اللاجئين. وما التوفيق إلا من عند الله.  
نشكر الأسر الألمانية وأبناء الألمان الذين أتوا إلينا ليشدوا من أزرنا في هذه المحنة.
www.nihal.org; www.streetkids-sudan.org
///////////////

 

آراء