الإرادة هي رحلة العقل من الذات للوطن

 


 

 

كتب الفيلسوف الأمريكي و الأستاذ الجامعي جون هيرمان راندال عددا من الكتب إحداها بعنوان ( تكوين العقل الحديث - جزئين) و هو كتاب يتناول مراحل التطور التاريخي للعقل الإنساني حتى بناء الحضارة التي تعيشها البشرية اليوم. و من أهم محطات الكتاب تطور العقل عند مارتن لوثر باعتباره يمثل أهم زاوية في عملية بناء النهضة الإنسانية من خلال مواقفه التي كانت تدعو لتحرر الإنسان من قبضة الكنيسة، و لوثر استطاع أن يخوض معارك فكرية و دينية لكي تكون العلاقة بين الإنسان وربه هي علاقة مباشرة لا تحتاج إلي إي وساطة،
إلا أن راندال لم يتعرض إلي الجانب الأخر لمارتن لوثر، و الذي كان يعيش أزمة نفسية جعلته مأزما و منطويا، الأمر الذي أثر في سلوكه و تصرفاته و حتى إطلاعه، و قبل أن يخوض مارتن لوثر معاركه الفكرية و الدينية داخل الكنيسة، بدأ في مشواره الأول أن يواجه الذات بقوة، و يصر للخروج من أزمته النفسية، و أصراره جعله يعبر من الأزمة التي اعادت له حيويته و نشاطه، و بالصورة التي جعلته يواجه خصومه الذين انحرفت بهم المساجلات إلي التعرض له شخصيا و على حالته المرضية السابقة. و من أهم نتائج هذا الصراع الفكري حرر ريع العمل التجاري من تحكم الكنيسة فيه، فأصبح الناس أحرارا في تصرفهم في هذا الريع، الذي نتج عنه ما يسمى في الاقتصاد (فائض القيمة) و به انتعشت التجارة و الصناعة و الزراعة و الحرف اليدوية و غيرها من تنوعات التنمية، أنتجت فيما بعد الطبقة الوسطى و التي قادت إلي مشروعات الاستنارة في المجتمع الأوروبي و ظهور النظم الديمقراطية.
أن الإرادة و الإنتاج الفكري و المباديء من أهم العوامل التي تجعل القيادات تنجح في تنزيل شعاراتها على الأرض، و تضع حجر الأساس للنهضة في دولها، و التجارب التاريخية زاخرة بالأمثال و النماذج في ذلك. منهم لويس إيناسيو لولا داسيلفا و الذي أصبح رئيسا للبرازيل عام 2002م حتى 2011م و جاء من صفوف القيادات النقابية البرازيلية، حيث كان صاحب أفكار، حيث أوقف الصناعات الحربية في بلاده و اتجه إلي معلجة الفقر من خلال برامج اجتماعية داعمة إلي المشاريع الصغيرة، و استطاع بها أن يخرج نسبة كبيرة من المجتمع من دائرة الفقر، و هذه المشاريع هي التي جعلت البرازيل تحتل المرتبة الثانية عشر اقتصاديا في العالم. و هذه التجربة نفسها مر بها الدكتور مهاتير محمد في مليزيا حيث استطاع أن يخرج مجتمع الملايو 60% من السكان الاصليين من دائرة الفقر لكي ينافسوا المجتمعين الصيني و الهندي الذين كانوا يسيطرون على ثلثي الثروة و من خلال أفكار الرجل أنه فكر لوضع اقتصادي جديد للملايو حتى لا يشعروا بالغبن الاجتماعي الذي يسبب تعطيل العقل. و من خلال جعلهم يديرون مشروعات صغير استطاع أغلبيتهم الخروج من دائرة الفقر. و ظل الزعيمان يحتفظان بموقعهم في الطبقة الوسطى، فالشفافية و النزاهة أكبر مساعد للنهضة في أي دولة.
إذا رجعنا إلي القارة الأفريقية نجد أن دولة رواندا شهدت أكبر مجذرة للصراع العرقي في القارة حيث راح ضحيته مليون شخص، و لكن الجبهة الوطنية السياسية ربطت بين مفهومي الوحدة الوطنية و المصالحة و من خلال هاذان المصطلحان بنيت العملية السياسية، لآن المصطلحان يشكلان الأرضية التي يجب أن يؤسس عليها الدستور و كل ما يتعلق بقضايا النهضة و التعليم و القانون و غيرها لذلك جاء شعار المستقبل معبر و هو ( رواندا واحدة لجميع الروانديين) و أصبحت الجنسية الرواندية هي المرجعية الأولى و الأخيرة في الدولة و ليست الجهوية ( التوتسي و الهوتو) التي ذهبت مع رياح الصراع السابق، و بيقت رواند هي الجنسية و الدولة و المرجعية لأي فرد هناك. هذه التجارب قاموا بها رجال اعتمدوا على الفكر أساسا لعملية التغيير في تلك المجتمعات و ستطاعوا أن يصعدوا بدولهم إلي أماكن متقدمة في السلم الحضاري الإنساني.
أن العقل السياسي في السودان الذي لم يستطيع أن يخرج من دائرة صراعاته الأولية، و شعارات الإقصاء، و محاولات تجذيرها في المجتمع، لا يستطيع أن يقدم أي مبادرات مفيدة تقود إلي الاستقرار و الأمن و التنمية في البلاد. فالعقل السياسي السوداني مكبل بقيود عديدة منها صراع الأيديولوجية الذي يوصل لنتائج صفرية، أو صراع الهامش و المركز، و الذي أيضا يسطبتن داخله الصراعات الأثنية و الجهوية و المناطقية كلها عوامل مؤثرة سلبا في عملية البناء الوطني. و أيضا مؤثرة سلبا في عملية الحوار الوطني الذي يجب أن يقود لتوافق بين كل مكونات المجتمع. و إذا نظرنا للساحة السياسية في ظل الحرب الدائرة الآن نجد أن القوى السياسية في حالة اصطفاف عاجزة أن تقدم أي مشروعات سياسية تجعلها ضوء في أخر النفق. متى تفق هذه القيادات و تخرج من دائرة الذات و الحزبية للوطن؟
أن الصراعات بين القوى السياسية (حرية ديمقراطي و حرية مركزي و ثوار و شيوعيون و إسلاميون و حركات مسلحة و غيرها من التنظيمات الأخرى.) كل يحاول أن يقنع الآخرين بأنه هو الأفضل دون الأخرين. كيف يحل هذا الإشكال؟. هذا هو واقع السودان أي تفكير داخل الصندوق لا يساعد على الحل، لأنه يرجعنا لموقف الواحد ضد الأخرين، و جميعهم يرون أن الوطن يقف على حافة التمزق. يحتاج لعقليات تقدم مبادرات من خارج الصندوق. هل نملك مثل هذه العقليات أم الأفضل نقف على شعارات تجرنا إلي الإنهيار؟ نسأل الله حسن البصيرة.

 

zainsalih@hotmail.com
///////////////////////////

 

آراء