الإصلاح السياسي في السودان (19)

 


 

 



بين هيمنة جهاز الدولة وتعددية قوى المجتمع
أن بساطة ووضوح التعريف الذي أعطيناه لمفهوم الحكم الاتحادي، لا يستلزم بساطة التنظيم الإداري فيه، إذ يجب أن تأخذ الدولة السودانية بنظام اللامركزية السياسية والتشريعية والإدارية، حيث تتوزع اختصاصات الوظيفة الإدارية في المجتمع بين السلطة المركزية وبين هيئات منتخبة، محلية، تباشر اختصاصات تامة محدودة بطريقة استقلالية عن السلطة الاتحادية وإن كانت تخضع لقدر من الرقابة أو الإشراف من جانب هذه الأخيرة، وانتخاب الهيئات المحلية شرط لتمييز اللامركزية من نظام اللا وزارية أو نظام عدم التركيز الإداري.
على أن استقلال الوحدات الإدارية المحلية «الحكم المحلي» لا يصح أن يصل إلى حد الاستقلال الكامل تجاه السلطة الاتحادية «الحكومة الاتحادية»، وإلا انهارت وحدة الدولة، ولذلك تعد رقابة السلطة المركزية «الحكومة» الاتحادية على الهيئات اللامركزية الولائية والمحلية كناً أساسياً في تعريف اللامركزية التخطيطية والإدارية، وفي تمييزها من اللامركزية السياسية، متجاوزة بذلك نظام المركزية الإدارية، حيث لا تتجمع المظاهر المختلفة للوظيفة الإدارية في الدولة في أيدي السلطة الإدارية المركزية، أي الحكومة القائمة في العاصمة، عندما يترتب على الأخذ بنظام المركزية، إخضاع جميع الهيئات الإدارية المنبثة في أقاليم الدولة المختلفة للولاية الرئاسية في العاصمة، وتدرج تلك الهيئات فيما بينها تدرجاً هرمياً، قمته السلطة المركزية «الحكومة» في العاصمة، وقاعدته صغار الموظفين في القرى وفي المصالح المختلفة، وعلى العكس ويلزم التنبيه إلى أن وحدة السلطة في الدولة لا يمنع تعدد التشريعات والهيئات فيها، فاختلاف التشريعات والصلاحيات من ولاية إلى أخرى داخل الدولة الواحدة لا ينفي بقاءها موحدة، وأن السلطة فيها موحدة، مادام مصدر التشريع الدستوري واحداً، هو ولاية المجتمع من خلال استفتاء الشعب.
بعبارة أخرى، انه تكفي وحدة ولاية الحكومة والجهاز التشريعي لوصف الدولة بأنها موحدة، فالجهاز التشريعي الواحد يستطيع أن يصدر عهود خاصة تسرى في أجزاء معينة من ولايات الدولة دون الأجزاء الأخرى، أو أن يستثنى مناطق معينة من البلاد من الخضوع لبعض العهود العامة للمجتمع التي تسري على بقية الأجزاء الأخرى في البلاد، فيحرص المشرع على الإبقاء على بعض التشريعات والصلاحيات التي كانت سارية في تلك الولايات، لارتباطها بموروث مذهبي أو بعادات أهل تلك الولايات أو تقاليد سكانها.
بيد أن الدولة ليس اتحاداً بين أقطار بمعنى الكلمة كما تقدم، ولكنها ولاية سياسية مركبة تتكون من عدد من الأقاليم والولايات اتحدت معاً، فهو على خلاف الاتحاديات المعروفة في الفكر السياسي، تكون ولاية فوق سيادة الولايات، ولذلك فهو اتحاد يجسد العهد والميثاق الدستوري الموحد، أي هو اتحاد «ميثاق عام»، ومن الطبيعي إذاً أن تستند الدولة (بوصفها اتحاد ميثاق) إلى عهد مكتوب «الدستور»، أي إلى عمل عهد وميثاق داخلي، فليس هو اتحاد نشأ بمقتضى معاهدة دولية، ومن ثم تكون العلاقات المركزية بين الولايات علاقات تعاهد داخلي تخضع للميثاق الوحدوي.
والحق أن مثل هذا التصور للاتحاد، تظهر فيه الولايات الحاضرة اليوم فاقدة لولايتها في المجال الخارجي، لكنها تحتفظ بجانب كبير منها في المجال الداخلي، فيكون لكل ولاية أو ولاية ميثاق خاص، وقوانين خاصة، ومجالس تشريعية خاصة، ومحاكم خاصة، وجهاز إداري خاص...الخ، ولكن الولايات المختلفة لا تحتفظ بكامل ولايتها الخارجية، بل تفقد جانبا منها لمصلحة حكومة الاتحاد المركزية كذلك، فإلى جانب الهيئات المحلية والحكومات المحلية الخاصة بكل ولاية من الولايات، تقوم هيئات أخرى تابعة لولاية الاتحاد المركزية، ويكون لها سلطاتها المباشرة على الديار والرعايا في الولايات المختلفة، وتسري العهود التي تصدرها الهيئات المركزية على جميع سكان الولايات أو الأقاليم التي تتكون منها الدولة السودانية، فرعايا ولاية الاتحاد هم رعايا جميع «الولايات» المكونة للاتحاد، كما إن ولاياتها يتكون من جملة الولايات للأقاليم القائمة اليوم.
بعبارة أخرى، إن دولة السودان الاتحادية تقوم على أساس توحيد الولايات دون أن يجعل منها نسخة واحدة، فيبقي على بعض مظاهر التنوع ويجعل لكل منها وجوداً ذاتياً عن الاتحاد، أي أن الولايات الداخلة في الدولة تحتفظ بجانب من ولايتها الداخلية، فيمكن الاعتراف لها بهذه الصفة نظراً إلى ما تتمتع به كل منها من ذاتية في ولاية شؤونها وفي وضع القواعد التي تحكمها وفي تحديد نظامها التعاهدي، سواءً بصفه مستقلة وخاصة، أو بالاشتراك مع بقية الولايات الأخرى، ولكنها في ذلك لا تتمتع بولاية كاملة، فالولاية المعينة لها ولاية التنفيذ وبعض القضاء، وتخضع هذه الولايات لنصوص الميثاق الخاص بالولاية، ومن هذه الزاوية تظهر الولاية الواحدة بمظهر الدولة بحيث لا يميزها من ولاية الدولة الاتحادية، إلا الاختلاف في نوع ما تتمتع به كل منها من صلاحيات إذ أن الولاية في الدولة لا تتمتع باستقلال مطلق.
ويترتب على استقلال الولايات إلى جانب تمتعها بأجهزة وسلطات تنفيذية خاصة بكل منها أي أن الهيئات السياسية التي توجد على رأس كل منها تعد هيئات حاكمة وليست مجرد هيئات إدارية، وأنها مستقلة في ممارسة اختصاصاتها، فلا تخضع لرقابة أو وصاية من جانب السلطات المركزية.
والحق إن التراتيب السلطانية الحالية، وهي تخضع إلى ولاية واحدة هي «ولاية المجتمع»، فإنها تخضع لولاية الاتحاد ولكنها في وظائف أخري فإنها تحتفظ باستقلاليتها، ولتحقيق ذلك يلزم توضيح مستويات الحكم الاتحادي ما له وما عليه من منظور توزيع الولايات والوظائف, ومن هنا يكون المطلوب هو توضيح واضح لعلاقات ووظائف مستويات الحكم الثلاثة وصلاحياتها، بناء على مبدأ توزيع الولايات في الولاية العامة المشار إليه قبل قليل، بحيث يكون الحكم المحلي هو صاحب الحظوة الأكبر من قسمة السلطة بالمقارنة بحظوظ الحكمين الولائي والاتحادي فيما يخص السلطات والوظائف الاجتماعية للولاية السياسة الداخلية. وعندنا أن ذلك يكون كالاتي.
الأول: مستوي الحكم المحلي، ذلك انه من المعلوم, أنه ليس هناك ثمة نصوص دستورية خاصة بالحكم المحلي في دستور 2005م الانتقالي، مثلاً وإنما أوكل أمر الإشراف على الحكم المحلي إلى مستوي الحكم الولائي يتصرف فيه كيفما أراد، مما يجعله أشبه بالإدارة المحلية منه بالحكم المحلي وشتان ما بين المفهومين. فكانت النتيجة هي ضعفه ومن ثم ضعف النظام السياسي بالتبعية، ولذلك فان من المهم إصلاح نظام الحكم في السودان - من خلال الدستور القادم - بحيث ينشأ الحكم المحلي بتشريع ونصوص دستورية خاصة به، لتكون له شخصيته الدستورية الموازية للمستويات الحكم الولائي والاتحادي، لها الاعتبار الدستوري والقانوني والمالي والإداري والسياسي...الخ، على أن يعاد تشكيل تقسيم وتقليص عدد المحليات في البلاد على معايير موضوعية، كعدد السكان ومطلوبات الإعمار ومتاح الموارد الاقتصادية والاجتماعية.
ودلالة ذلك إن إطار الحكم المحلي، هو نموذج «الدولة مصغراً» كونه الإطار السلطوي الذي تمارس فيه وعبرة وظائف الحكم السياسي، وكونه الإطار الثقافي والسياسي والاجتماعي، الذي يعمل على صهر الروابط العرفية والعرقية للتحول إلى روابط ثقافية كون إن الحكم المحلي كفضاء مكاني يقبل القبيلة والشعب والطريقة الصوفية، إلا أنهم مع ذلك وفيه محتفظين بروابط النسب والحسب في إطار الشعب والقبلية والرحم وتكون العشائر والبطون والأسر، وهي الروابط التي توظف إيجاباً للقيام بأمور الحياة وفقاً للقواسم الثقافية المشتركة بينهم.
والحق إن نظرية الحكم المحلي لا بدوان تقوم على اعتبار نطاق الحكم المحلي بوصفه "الدولة مصغرة" وهي وحدة متحدة، وهي وان لم تكن متجانسة في الحاضر ولكنها في طريقها للتوحد والتجانس بحكم وظيفة المسؤولين فيها أنفسهم، ومن هنا تظهر فكرة أهمية الوظيفية في المحلية تجسيداً لفكرة وحدة الولاية العامة في السودان وعدم تجزئتها، فالولاية عن الحكم المحلي تكون مهمة جدا طالما بقى النظام الاجتماعي يتجه نحو المقصد المرتجى للمجتمع السوداني ككل متوحد متجاوز لحالة الانقسام والتفرق الاجتماعية والعرقية والثقافية.
فضلاً عن تشجيعه على الأعمار الاقتصادي والاجتماعي والثقافي على المديين المتوسط والطويل، عندما يتم تجريب المشاريع المختلفة على المستويات المحلية الصغيرة، قبل تبنيها كسياسات اتحادية أو ولائية شاملة ومكلفة، وعندما يجعل من السلطات قريبة من يد المواطنين، فيحتوي تطلعات المجموعات الصغيرة قبل الكبيرة، كما أن هكذا نمط اتحادي للحكم ذو الخصوصية في حكمه المحلي، سيحد من إمكانية استطالة الاستبداد والطغيان، ومنع إمكانية سيطرة وهيمنة مجموعة صغيرة على شؤون الحكم، عندما تستولي على مقاليد الأمور في هرم السلطة الاتحادية.
وهي الوظائف المتجانسة التي يمكن توضيحها على النحو التالي: أولاً: الوظيفة الأخلاقية والتربية المتمثلة في إقامة شعائر الدين فضلاً عن الوظيفة التربوية والأخلاقية والتزكية والخدمة التعليمية والطبية ورسالة الأمر بالمعروفات والنهي عن المنكرات.
ثانياً: الوظيفة المالية والاقتصادية، المتعلقة بتوسيع قاعدة التجارة وخلق فرض العمل ومواجهة البطالة والفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية بإعادة توزيع الثروة الاجتماعية عبر آلية الزكاة، في حدود المحلية بجمعها من أغنياهم وصرفها على فقرائهم فضلاً عن الإشراف على الصدقات، والتجارة وأموال الاستثمار …الخ.
ثالثاً: الوظيفة الثقافية والإعلامية والتعليمية المتعلقة بالنشر الحر للثقافة السودانية الجامعة، وهي الوظيفة المتعلقة بالدفاع عن قيم المجتمع والتصديق بها. عندما يعمل الحكم المحلي على تعزيز ثقافة الحوار لا ثقافة الكراهية، بين مكونات المجتمع السوداني الاثنية والعرقية والثقافية في المحلية، بوصفها تقوم بدور هام وبدرجة عالية من الكفاءة والفعالية في تأدية وظيفة السياسية في المبادرة والتصدي لدرء الخلافات وتصفية النزاعات ومعالجة الصراعات، فهي وظيفة مطلوبة ومرغوبة باستمرار، بل ويزيد الإلحاح على الوظيفة الثقافية كما تزداد الحاجة للثقافة الحوارية لاسيما في سياق ضعف الثقة والاحترام المتبادل بين الدولة والكثير من الأفراد والشرائح والفئات والجماعات في المجتمع السوداني، بسب انحيازات النخب غير المبررة وعدم جديتها وعجزها المستمر عن معالجة قضايا وأوضاع الحياة، بالطريقة الفعالة التي تنتهي إلى تجاوز النزاعات والخلافات المتجددة.
رابعاً: الوظيفة السياسية والمعنية بالتعزيز والمناصرة السياسية لرسالة المجتمع والدولة في الحياة العامة، والعمل على الوفاق السياسي وإجراء المصالحات المجتمعية ونحو ذلك.
خامساً: وظيفة العمل الطوعي بالإقراض الحسن ودفعة الإنفاق والأعمال العامة الطوعية الصالحة،  أعماراً للمكان والوجدان...الخ.
أما الأصل الذي يبني عليه هكذا فقه لوظيفة الحكم المحلي، هي ما يمكن استلهامها من هداية الآية في قوله تعالي: وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ {المائدة/12}، فالآيات قد حددت الوظائف المحلية في الحض على إقامة الصلاة في قومهم وإيتاء الزكاة والتصديق بالرسالة والدفاع عنها والدعوة إليها والتصدق بالمال في سبيل الله بالإقراض الحسن ونحوه وهو كما يظهر في معاني جامعة تجعل من رؤساء المحليات هم الباحثون المنقبون وسط قومهم وهم المدافعون عنه، وهي الوظائف التي تناسب طبيعة الحكم المحلي. وبذلك تستوعب جميع الحكم المحلي شعوباً وقبائل بواسطة مجموعة وظيفة المحلية الذي يتابع رؤساؤها تنفيذ بنود عقد الدستور والدفاع عنه وتعليم الناس وتربيتهم على هدى الثقافة العامة السائدة، ويظلون مرتبطين بمستوى الحكم الاتحادي والولائي.
وهي كما يظهر وظائف جامعة تجعل من رؤساء المحليات ولاة يتولون شئون الحياة وسط قومهم ويدافعون عنها وهي تشابه إلى حد كبير وظائف رئيس الجمهورية العام إلا أن هذا الأخير يؤديها عند المجتمع السوداني بعامة ورؤساء المحليات يؤدونها بمحلياتهم بخاصة. وإذا وضعنا في الاعتبار أن الدستور الاتحادي قد حوي حلولاً لمشكلات الجماعات الاقتصادية والسياسية ونحو ذلك، وهو مصدر الوحدة، فان فكرة المحلية في الحكم المحلي تتأكد، كون أن رئيس المحلية المنتخب هو من يمثل المجتمع المحلي في مجموعه، وبالتالي فانه يكون ملتزماً بموجهات الدستور وأحكامه وقوانين الحكم المحلي المنظمة للعلاقات والوظائف، فمهمته إذن هي إزالة الخلاف بين الفرد والمجموع في مجتمعه المحلى, أما إذا خالفوا عهد الدستور المرسوم فإن مجلس المحلية يقوم بعزلهم ليختار ذات القوم رئيساً آخر.
الثاني: مستوي الحكم الولائي. أما مالا يقوي عليها الحكم المحلي من الوظائف والاختصاصات فتحال إلى مستوى الحكم الولائي، المعنى بالشؤون الاقتصادية والمالية وتطوير العصر البشري والخدمات والشئون الثقافية والاجتماعية والدينية فضلاً عن الزراعة والثروة الحيوانية والتخطيط العمراني، دون أدني توسع في الأمور السيادية والرئاسية والأمنية والشرطية، التي تترك للمستوى الاتحادي في الحكم. وعندئذ فان سائر الولايات والأقاليم ستحتفظ بنوع من الاستقلال في مستوي الحكم الولائي لتسيير أمورها الخاصة، ومن ثم يلزم وجود هيئات ولائية وعهود خاصة بكل ولاية.
كون أن النظام الاتحادي يقوم على أساس فكرة توزيع السلطات بين الحكومة المركزية، والحكومات الولائية الأخرى في الدولة، فهو يتميز بهكذا نظام يعطي الحق لكل ولاية، بأن تكون لها سياساتها الخاصة بها، بما لا يتعارض مع الدستور الاتحادي، ولا يتعارض مع سياسات أو اتفاقيات الدولة الاتحادية، عندما يعطي الولايات المختلفة الحق في تبني سياسات تعليمة، أو إسكانية، أو صحية، أو ثقافية مختلفة عن بعضها البعض، بما لا يتعارض وسياسات الحكومة الاتحادية ومبادئ الدستور الاتحادي، ولذلك فنحن نعتبره أفضل أنواع النظم السياسية ملائمة لحل مشكلة الحكم في دول كبيرة الحجم السكاني وواسعة المساحة الجغرافية كالسودان.
الثالث: مستوي الحكم الاتحادي. وتكون مهامه منصبة على الوظائف السيادية: الأمنية والعلاقات الخارجية والتخطيط الاقتصادي...الخ. وفيه يكون اشتراك الولايات على قدم المساواة في القرارات التي تهم الاتحاد بأكمله، وهذا الأمر يستلزم وجود هيئات اتحادية لرعاية المصالح المشتركة للأقاليم السودانية. وعلى هذا فالدولة الاتحادية الموحدة تظهر كمجتمع واحد في المجال السياسي العالمي، بينما هي على المستوي الداخلي تتكون من عدد من الولايات احتفظت كل منها بجانب من صلاحياتها وعلى الأخص في الشؤون التنفيذية والتشريعية.
وعندئذٍ أيضا سيلاحظ أن مظاهر التكامل والوحدة بتوزيع سليم للولايات السياسية في المجتمع هي الغالبة على ولاية الدولة السودانية، في اطار سلطوي واحد ومتكامل، فالسلطة المركزية «الحكومة» تسمو على ولاية الولايات، ليس فقط لما لها من اختصاصات سيادية فحسب، ولكنها أيضاً تمارس هذه الاختصاصات بطريقة ملزمة في الولايات، ولأن عهودها المركزية التي تجب كل ما يتعارض معها من عهود الولايات في هكذا اختصاصات، على أن تنص سائر المواثيق على ذلك صراحة وتقرر سمو المواثيق الاتحادية على مواثيق الولايات.
كما أن السلطة المركزية «الحكومة» (بواسطة أجهزتها السيادية) هي التي تحدد اختصاصاتها بنفسها بموافقة استفتاء جمهور الدولة دون حاجة إلى الحصول على موافقة ولاية الولايات، فالميثاق العام «الدستور» وإن تطلب لتعديله موافقة غالبية الولايات، بل أحيانا غالبيتها الكبرى، فإنه لا يستلزم أبداً الموافقة الكلية لهذه الولايات، بل يكفي إجماعها، ومن ثم يمكن تعديل الميثاق «الدستور» وتوسيع اختصاصات السلطة المركزية «الحكومة» على حساب الولايات، برغم معارضة بعض هذه الولايات، ودون أن يكون لهذه الولايات المعارضة حق الانفصال عن الاتحاد.
ويجري هذا التعديل بواسطة الأجهزة الخاصة بالسلطة المركزية «الحكومة»، أي أنه يكون وفقاً لإجراء داخلي من عمل السلطة المركزية «الحكومة»، وليس وفقاً لاتفاقية أو معاهدةً بين الولايات، وأخيراً فإن الهيئات المركزية هي التي تفصل في المنازعات التي تنشب بين الولايات المختلفة، أو بين إحدى هذه الولايات وولاية الاتحاد، فهيئات الاتحاد هيئات عليا تسمو على الهيئات الخاصة بسلطة الولايات.
وبالنتيجة فإنه وعند نقل أهم الاختصاصات والوظائف إلى نظام الحكم المحلي، فإن الأنظار والتنافس على السلطة سيتركز حوله كونه محور التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية...الخ، وسيقل الصراع نسبياً على هرم السلطة،  في المستويات الأعلى «الولائية والاتحادية»، كما أنه بإعادة دمج وتوسيع رقعة المحليات الجغرافية فإنه سيقل الصرف على النظام السياسي ويقل الضغط على الموازنة الاتحادية، فضلاً عن توجه الموارد والأموال العامة نحو التنمية الحقيقية في الحكم المحلي.
وعلى ما تقدم فانه يلزم توفير السياسات التنظيمية التالية:
أولاً: أن الدولة السودانية الاتحادية يفترض فيها توزيع الولايات الوظيفية، بعدد مستويات الحكم في الاتحاد، ففي الاتحاد حيث يكون لكل ولاية جهاز تشريعي خاص بها، تكتسب به الوحدات ولاية اجتهاد وتنفيذ، كونها ولاية توحيدية. بما يعني ضرورة وجود ميثاق «الدستور» الاتحاد الوحدوي، وهو من وضع الدولة وهو الميثاق التأسيسي الموحد، والذي له السلطة الكاملة على أنحاء الدولة وأفرادها. كونه الميثاق الذي يحدد الاختصاصات السيادية التي تتولاها السلطات المركزية، أي الهيئات السيادية العامة للمجتمع للاتحاد، كوجود قوات عسكرية مسلحة موحدة ومركزية، وكذا الأجهزة والمؤسسات الأمنية، بيد أن قوات الشرطة وخدماتها يحتمل أن تتبع جزئياً لولاية الولايات إدارياً ولرئاسة الشرطة الاتحادية إدارياً وفنياً.
فيميز بينها على تلك التي تبقى للأقاليم والولايات، وعلى هذا فمن الطبيعي نتيجة لغلبة مظاهر الوحدة في الدولة أن يكون للهيئات الاتحادية الجانب الأكبر من الاختصاصات السيادية، بينما يكون اختصاص الهيئات الولائية استثنائياً. ويمكن أن تكون البداية باكتفاء الميثاق بحصر المسائل السيادية التي تكون من اختصاص السلطة المركزية «الحكومة» ويترك ما عداها لاختصاص الولايات والمحليات. عندئذٍ تتحقق تدريجياً (وبالإرادة الصادقة) حالة التوازن في اختصاص السلطة المركزية «الحكومة» بالقياس مع اختصاصات المستويين الولائي والمحلي، حتى يصبح الاختصاص الاتحادي اختصاصاً عاماً في الواقع، ويغدوا اختصاص الولايات والمحليات اختصاصاً خاصاً عاماً، عندها يحدد الميثاق الاتحادي المسائل التي تخضع لاختصاص الولايات والمحليات، وأن يعرض لاختصاص ولاية الاتحاد، أي أن يترك لولاية الاتحاد جميع الاختصاصات السيادية التي لم يشملها نص الميثاق فيما يخص الولايات والمحليات، ومن ثم يكون الأصل بالنسبة لهذه الولايات والمحليات أن تجعل الاختصاص العام للهيئات المركزية ولا تعطي للأقاليم إلا اختصاصاً خاصاً ولكنه عام في حدودها الجغرافية.
إلا أنه من المهم أن لا تكتفي المواثيق الاتحادية بمجرد المقابلة بين اختصاص السلطة المركزية «الحكومة» السيادية واختصاص الولايات والمحليات، بل عليها أن تنص أحياناً على بعض المسائل المشتركة بينها، أي أن بعض المسائل التي تكون شركة بين الهيئات المركزية والهيئات الخاصة بالولايات، فينص الميثاق مثلاً على أن تتولى السلطة المركزية «الحكومة» وضع الأسس العامة للمجتمع التي تحكم هذه المسائل وتترك تنظيم التفاصيل ووسائل التطبيق لولايات الولايات، كل منها فيما يخصها وحسب ظروفها الخاصة، وقد ينظم الميثاق الاتحادي أيضاً اختصاصاً اختيارياً لهيئات الاتحاد، ويعطى الولايات حق ممارسة هذا الاختصاص طالما لم تمارسه تلك الهيئات الاتحادية.
ثانياً: وجود ولاية تشريعية اتحادية، عبارة عن مجلس للتشريع يتولى التشريع في شؤون الاتحاد بأكمله، وتسرى تشريعاته مباشرة على جميع الرعايا التابعين للولايات المختلفة وهذه السلطة التشريعية الاتحادية تتمتع باختصاصات واسعة، لأنها تشمل المسائل السيادية الهمة في المجتمع التي تهم الاتحاد بأكمله، مثل العلاقات الخارجية والمواصلات ومسائل النقد والاقتصاد والدفاع والأمن...الخ، فترمى السلطة التشريعية إلى توسيع اختصاصات السلطة التشريعية الاتحادية على حساب السلطات التشريعية في الولايات المكونة للدولة السودانية جغرافياً وسياسياً، في هكذا أمور، ومن الضروري في تنظيم الهيئة التشريعية الاتحادية، الالتجاء إلى نظام المجلس التشريعي، لارتباط هذا النظام بتحقيق مقاصد الاتحاد، كونه مجلس منتخب من جمهور الدولة في مجموعها، أي أن كل ولاية تنتخب عدداً من المقاعد التشريعية يتناسب مع عدد سكانها.
ثالثاً: وجود قضاء مركزي موحد ومستقل. فلئن كانت الولايات الاتحادية تتولى القضاء في الجزء الأكبر منه، فإنه توجد أيضاً هيئات قضائية عليا تتبع الاتحاد مباشرة، أهمها المحكمة العليا التي تختص بنظر المنازعات بين الولايات الأعضاء وبين الاتحاد أو بين الولايات وبعضها، كما قد يكون لها اختصاص استئنافي أحياناً بالنسبة لأحكام المحاكم العليا في الولايات. وهو سياق يتطلب التأكيد على استقلال القضاء، بان تكون النظرة الاستقلالية تجاه السلطة القضائية، نظرة مستقلة ونهائية لا لبس ولا غموض ولا جدال حولها، باعتبارها الأساس الذي يقوم عليه النظام القانوني، إذ هي الحامي للعلاقات السياسية والميثاق الاجتماعي بما يحقق الأمن والاستقرار ويحفظ الحقوق ويحدد الواجبات، وبوصفها الفيصل عند تنازع الاختصاصات والعاصم من تنازع السلطات مع بعضها البعض، ولذا فإن استقلال القضاء مبدأ لا محيص عنه للمحافظة على الحقوق وتحقيق العدل المفضي للاستقرار ولتعزيز الثقة المجتمعية بين الأفراد والجماعات والمؤسسات في المجتمع.
ويكون ذلك إجرائياً بإصلاح السلطة القضائية، من خلال إعادة تشكيل مجلس القضاء العالي، كمجلس منتخب، يتم اختيار أعضاءه من داخل هيئة ناخبين، هم أعضاء سلك السلطة القضائية من القضاة والمستشارين ونحوهم، تعزيزا لمبدأ استقلاليته السلطة القضائية التي ينتقصها مبدأ التعيين من قبل السلطة التنفيذية أو حتى التشريعية. فيكون له صلاحيات حراسة الدستور وصون مبدأ استقلال القضاء المنصوص عليه في الدستور، كما له حق التدخل من تلقاء نفسه في المسائل التي تمس انتهاك مبادئ الدستور وحقوق المواطنين، فضلاً عن منحه سلطة اختيار وعزل رئيس القضاء والقضاة والوكلاء ومحاسبتهم، ونحوها من موضوعات ترتقي بالسلطة القضائية وتجعلها قادرة على التصدي لتجاوزات السلطتين التنفيذية والتشريعية، وفقاً لنظم قانونية تحقق العدالة. مع الحرص على ضمان درجة عالية من الشفافية والنزاهة، بعيداً عن مؤثرات الاستقطاب السياسي ونحو ذلك من مؤثرات سالبة.
رابعاً: لكل ولاية في مستويات الاتحاد المركزي الحق في كتابة ميثاق «دستور» خاص بها، كونها تتمتع بتنظيم ذاتي وباستقلال ميثاق يختلف مداه من مصرٍ إلى أخر، ويترتب على هذا الاستقلال في المواثيق، أن السلطة تتمتع بصلاحيات مستقلة، ليس في مجال الإدارة فقط، بل في مجال التشريع وفي مجال التنفيذ كذلك، فالولايات في الدولة، يمكن المساس بنظامها أو اختصاصاتها إلا بتعديل الميثاق الاتحادي، الأمر الذي يستلزم اشتراك جميع الولايات في إجرائه. وان يكون الاختيار أمراً حتمياً لولاية الدولة الاتحادية مركزياً أعني الحكومة، والأخذ بنظام الاختيار في تشكيل الهيئات الإدارية في الدولة الاتحادية، بما يعني أنها تأخذ بنظام اللامركزية، وفي عبارة أخرى، يكون الاختيار حتمياً في تشكيل الهيئات الولائية اللامركزية، في الولايات المختلفة.
خامساً: وجود ولاية اتحادية تمتد باختصاصاتها إلى جميع أنحاء الولايات في الدولة،  وهى تمارس بطريقة الإدارة غير المباشرة، عندما تلقى على عاتق الحكم المحلي في الولايات مهمة تنفيذ العهود والقرارات الاتحادية، وينظم الميثاق «الدستور» الاتحادي الوسائل الكفيلة بضمان قيام موظفي الولايات بوجباتهم على الوجه الأكمل.
سادساً: إن إصلاح بنية الدولة يكون بتوزيع الاختصاص بين السلطات المركزية والأقاليم وتحديد مدى استقلال هذه الأخيرة تجاه الأولى، بناء على طبيعة ونوعية الوظائف «السيادية» و«غير السيادية» وأن يكون ذلك مبيناً في ميثاق «دستور» الاتحاد، الذي يكون أكثر ثباتاً وأشد جموداً من العهود العادية، عندها يستحيل تعديل اختصاص الولايات في الدولة إلا بتعديل ميثاق الاتحاد نفسه، وهذا لا يتم إلا باشتراك الولايات عن طريق ممثليها في مجلس التشريعية، ويستلزم أغلبية خاصة غير الأغلبية العادية التي تجاز بها العهود العادية.
سابعاً: تتميز السلطة الولائية في الدولة بكونها تشارك في التعبير عن إرادة الاتحاد، وعلى الأخص في التشريع وفي تعديل الميثاق «الدستور» الاتحادي، وذلك عن طريق مجلس التشريعية المنتخب الذي يمثل الولايات المختلفة بالنظر إلى الأكثرية العددية لسكان كل منها. كما تنفرد الولايات باختصاصات وظيفية معينه قد لا تشاركها فيها ولاية الاتحاد، وليس معنى ذلك أن الأقاليم في الدولة لا تخضع لرقابة السلطة الاتحادية، بل يعني فقط أن هذه الرقابة ليست موجودة دائماً، وأن الأقاليم في الدولة تنفرد ببعض الاختصاصات تمارسها بطريقة مانعة مستقلة، بحيث لا تكون لولاية الاتحاد أي رقابة على الأقاليم في ممارستها بيد أنها اختصاصات غير مجتمعية.
ثامناً: إن كون النظام الاتحادي نظام توحيدي فإنه يضمن قيمة شورية كبيرة، فهو يسمح بوجود تشريعات ونظم إدارية خاصة محلية فاعلة، تكون أكثر ملاءمة لمصالح السلطة التي تصدر فيها، وبالتالي يحقق صورة مكتملة للحكم المحلي دون أن يضحي مع ذلك بمزايا الوحدة المركزية التي يحفظها، إذ يجعل التشريع واحداً في المسائل التي تهم جميع أجزاء الدولة الاتحادية. فضلاً عن أنه يحقق خبرة واسعة في الشؤون التعاهدية، إذ أن استقلال الولايات في كثير من الأمور الداخلية يجعل كل ولاية مستقلة بتشريعاتها، ولكل منها ميثاقها الخاص، ولا شك أن العهود أو النظم التي ثبت نجاحها في إحدى الولايات ستسري إلى الولايات الأخرى، فتعم الفائدة.
تاسعاً: وهكذا فإن نظام الحكم الاتحادي بالنمط الرئاسي والمؤكد عليها بالرقابة التشريعية والسياسية والتنفيذية في مستويات السلطة المختلفة، يضمن تقدم وقيمومة المجتمع على الدولة في أدواره المجتمعية، فتنتهي المؤسسات الأهلية إلى إدارة شئون المجتمع، ليكون للفرد دوره، وللمسجد دوره، وللمدرسة دورها وللمنظمات والمؤسسات المدنية والحرفية دورها وللسوق دوره وللنادي دوره.


faadil1973@msn.com

 

آراء