الإنسانية ما بين النبل والجنوح

 


 

 

حاشية:
في جريمة قتل الأب في "الإخوة كارامازوف" أو الإخوة الأعداء، كتب سيجموند فرويد ما يلي::
" أما الجانب الأخلاقي عند دستويفسكي فهو أكثر الجوانب قابلية للتناول. فإذا أردنا أن نضعه في مكانة عالية كأخلاقي، بحجة أن الإنسان الذي عرف الخطيئة بعمق هو الذي يستطيع فحسب أن يبلغ أعلى درجات الأخلاق، فإننا نتسرَّع في الحكم؛ حيث نجد أنفسنا أمام تساؤل عميق، فالأخلاقي هو من يتفاعل مع الإغراء بمجرد أن يشعر به، ولكن من دون أن يستجيب له. أما من يخطئ بصورة مستمرة، ثم يقدِّم خلال توبته متطلبات أخلاقية عالية، فإنه يترك نفسه عرضة لنقد يقول إنه جعل الأمر سهلاً. لأنه لم يحقق ما يتطلبه منه جوهر الأخلاق، الذي هو الأحجام.
فالسلوك الأخلاقي في الحياة له أهمية عملية بالنسبة للإنسانية. أمَّا صاحبنا فيذكرنا بالبرابرة وبغزواتهم، فهم يقتلون ثمَّ يقيمون الكفَّارة. ما يجعل الكفَّارة مجرد وسيلة لتبرير القتل. وقد كان ايفان الرهيب يفعل الشيء نفسه تمامًا، ونسجِّل هنا أن هذا الشكل من السلوك الأخلاقي هو سمة روسية بامتياز. كما أن النتيجة النهائية للصراع الأخلاقي لدستويفسكي لم تكن شيئًا عظيمًا على الإطلاق.
لأنه بعد كلِّ تلك الصراعات الحادة التي حاول من خلالها التوفيق بين المتطلبات الغريزية للفرد والمتطلبات الجماعية، نراه يصل إلى حالة انطواء، تجلت بخضوعه التام لكلا السلطتين الزمنية والروحية، أي إلى توقير القيصر والإله المسيحي من منظور المفهوم الضيق للقومية. وهي حالة كان قد توصل إليها ضعاف العقول بمجهود أقل. وهذه هي نقطة الضعف الأساسية لتلك الشخصية العظيمة.
النص:
يقول هوبز أن الأنسان كائن شهوانيٌّ فتَّاك مجبولٌ بطبيعته على الرغائبية (لو ديزيغ).. كائن مفترس جامح.. وأنه لا يدّخرُ جهدا من أجل إشباع تلك النزوات المفترسة والضارية.. إذا ما أطلق في سبيل ذلك العنان لرغباته. فهو لا يتورع إذا ما تطلب الأمر شن العدوان وسفك الدماء وتخريب مصالح نظرائه في الإنسانية، بل في مواجهة الوجود بأكمله دون استثناء.
لذلك فإنه يرى، أي هوبز، أن الإنسان يلزمه أن يُدركه الوعي بوجود سقف للحد من التمادي وراء تلك الطموحات الرغائبية الضارية ومطاردتها.. وهنا يأتي دور الدين ككابح قديم.. الإيمان في مقابل الإلحاد.. فكرة الثواب والعقاب في اليوم الآخِر من عدمهما. كرادع ربما سبق تشكُّل السلطة العشائرية ثم يأتي من بعده نشوء الدولة ثم نضجها في العصور الحديثة، في مواجهة تعاظم الطموحات الرغائبية. لذلك حتى في المجتمعات الحديثة فطالما رافقَت الفراغات التي يخلفها غياب طارئ لسلطة الدولة أو تقاصر لظل العدالة فيها، إنفلاتات وعمليات بطش وتخريب عدواني وعنف واسع النطاق. إذن فإن الإنسان بطبيعته كائن ضارٍ، لكنه تهذب وانضوى، طوعا أو كرها، تحت قيود تتمثل في كيانات ذات ضوابط وانماط أخلاقية ودينية، وعقود اجتماعية تتحكم فيه وتكف بأسه عن نفسه، وعن نظرائه وضحاياه.
يظل الأمر على تلك الحال بينما يتطور الرقي الأخلاقي بسبب الرسالات السماوية والأديان، بل يكتمل نضج التجارب الإنسانية في اتجاه الكون نحو المثال كمتناهية إفتراضية، من خلال تخلُّص الإنسان من الرغائبية ومن صفاته الطبيعية الضارية، واتجاهه نحو المثال والنضج المعرفي والتعايش. وعبر هذه الصيرورة المزمنة يتفاوت الناس حظا ما بين سفوح للإنحطاط وقمم للتسامي، بين من يرتد طرفة عين إلى ذلك الذئب البدائي الذي طالما سكنه وتحكم في دواخله، وبين آخر يبقى على إنسانيته وجنوحه للتلطف والرُقيّ، يظل عليهما لا يبرحهما أبدا، حتى إذا ما تم تحريره حينا من الدهر، من لجام السلطة الزمنية، أو من لجام الدين، أو كليهما.
إن الترقي في معارج الإنسانية وكسالكها، والتآخي والسعي لتبني المُثلِ وتنزُّلِها في سلوكيات الناس ومآلاتهم، يبلغ بفعله الإنسان حدا من النضج بحيث يظل على إنسانيته ونضجه الخلقي، حتى بافتراض إنقشاع فكرة الخوف من السلطة، فكرة الإيمان بالله أو فكرة الثواب والعقاب.. فغاية القوانين والأديان هي تهذيب هذا الكائن وقولبته وإصلاحه، تشذيبه ونضجه كإنسان.. وان ذلك التهذيب والقولبة قد أخذتا دهورا متعددة، آلافا من السنوات الطويلة.. تفاوتت فيها كما اسلفنا المجتمعات الإنسانية في حظها وأنصبتها في سلم الترقي الإنساني.. فمنها من يرتد إذا ما تراخت سلطة الرقيب إلى غلوائه وضراوته، ومنها من يظل حتى في غياب الرقيب، أو حتى في انتفاء فكرتي الثواب والعقاب، أو شحوبهما يبقى مُحسنا، متطوعا باذلا للخير والإحسان، يغرس غرسا حتى لو قامت الساعة، أو لم تقم.. أن نبادر دون تردد بالسعى لإغاثة ملهوف، لإطعام الجوعى، لإماطة الأذى، ولإيواء المُشرّدين والأسرى وأبناء السبيل، أو لإنقاذ كلبٍ جريحٍ كادت أن تدهسه سيارات عابرة.. دون أن يستدعيَ ذلك أن ننتظر بُرهة حتى يضمن لنا الفقهاء والكهنةُ ما يقابل ذلك من ثمار الجنة ومن عطاياها.
لذلك فإن هوبز يرى أن فكرة الإلحاد فكرة منافية لوجود الإنسانية وترقيها وسموُّها الأخلاقي، لأن الإنسان في غياب فكرة الإله أو في تراجع فكرتي الثواب والعقاب، قد يرتد لما كان عليه قبلهما من بأس وشكيمة لا حدود لها، لرغائبيته وطموحاته ، أن يعود لقطيع الذئاب الذي كانه وتمثَّلَهُ ذات يوم. إن من شأن ذلك أن يجعل من الكون مكانا غير لائقٍ للسُكنى.
إنتهى
nagibabiker@gmail.com

 

آراء