الإنصرافية: متلازمة السياسة السودانية

 


 

 

دكتور الوليد آدم مادبو

لقد عانى السودان على مدى العقود الماضية من صراعات مسلحة أحدثت أثرا عميقا في الشخصية السودانية جعلها أقرب إلى الإنصرافية والعشوائية والغوغائية منها إلى العقلانية والموضوعية. هذه الظواهر لها ارتباط وثيق بنظام الإنقاذ الذي استمر لثلاثة عقود عمد فيها إلى خلق بيئة من السيولة السياسية وأنتج نهجاً شمولياً أسهم في تفكيك النسيج الاجتماعي وتسبب في تآكل القيم الأخلاقية والفكرية. وإذ تفتقر النخب الإنقاذية إلى الوازع الأخلاقي وإلى الضمير الوطني فإنها تستغل الفراغ الفكري الناتج عن سنوات القمع لتوظيف المواطنين ضد بعضهم البعض وتعوِّل على يأس المواطنين من العملية السياسية التقليدية خاصة تلك التي لم تنتج غير الفشل المتكرر والطمع والعجز الذي كان سمة ظاهرة للفترة الانتقالية الأخيرة. لابد أن نقر بأنّ الضبابية الأخلاقية والأداء التنفيذي البائس للمجلسين (مجلس السيادة ومجلس الوزراء) تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشرة في اندلاع الحرب، لحظتئذ يلزمنا تحسس الخطى في المرحلة القادمة كي لا نكون ضحايا لعاطفة جارفة أو مكر كيزاني مقيت. وذلك يقتضي تحمل الكل لمسؤوليته وتوقع المساءلة على قدر الجرم الذي ارتكبه.

بيد أن هذه النخب لا تدعو إلى ابتكار نظمٍ جديدة للتفكير والنظر في كيفية تفاعل الأفراد مع الأحداث السياسية والاجتماعية أو استكشاف سبل بناء مجتمع أكثر وعياً وقدر على التغيير، إنما تعد المواطنين بنظام أكثر شمولية وتتمسك بالبطش والتنكيل وسيلة لترويض المعارضين وتشنيف آذان المخالفين برؤاها العقيمة التي جلبت الهلاك والدمار للبلاد كافة، تعينها في ذلك الغوغائية التي امتثلت للبروباغندا وارتضت الشعبوية وسيلة للالتفاف حول شخصيات وهمية وأخرى هلامية. يشير الفيلسوف الأمريكي نعوم تشومسكي إلى أن " البروباغندا تمثل أحد أساليب السيطرة على العقول، حيث تستخدم لتوجيه الرأي العام نحو أهداف معينة".

ليت الأمر اقتصر على الغوغاء لكنه وللأسف شمل أكاديميين ومثقفين ساهموا في تعزيز الفوضى، حيث يغلب على المشهد التباين والارتباك، بدلاً من أن يقودوا الشعب نحو التغيير الإيجابي الذي يتطلب التوافق حول المباديء وليس التراشق بالكلمات وتنميق اللافتات تجميلاً لصورة الحرب وإيذاناً بخلق مجتمع معافى من هيئة "الآخر". لا توجد حرب نظيفة في التاريخ كما لم تفلح كافة السبل في نفي "الأخر" من المخيلة أو الذاكرة الجمعية، عليه فلابد من إيجاد صيغة للتعايش بين كل السودانيين واستنهاض همة الكل للإسهام في رفعة البلاد.

وفقاً للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، فإن "المعرفة والسلطة متلازمتان". يظهر هذا المبدأ في الكيفية التي استخدمتها بعض النخب في توظيف المعرفة لخدمة السلطة دون أن ترعوي أو يكون لها رادع بل التباهي أحياناً بالألقاب العلمية لدعم الحجة الواهية من مثل "أنا بروف، هل ممكن اكذّب عليكم"؟ هذا العجز يعكس افتقار النخب إلى الفهم الحقيقي لاحتياجات المجتمع، ممّا يزيد من عمق الفجوة بين المواطنين والنخب. المجتمع يحتاج إلى الصدقية وإلى الموضوعية بغض النظر عن تبعات ذلك المنحنى ولنا أسوة في الشيخ فرح الذي قال يوما "لو الصدق ما نجاك الكضب ما بنجيك"!

إذا تفهمنا حالة الامتعاض التي يعيشها المهجَّرون وعزينا ذلك إلى ظروفهم الاقتصادية والمعيشية الصعبة، فما بال أولئك المهاجرين الذين يعيشون في دول مدنية تعنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان مثل إنجلترا يساندون الأنظمة الإجرامية الإرهابية في بلادهم؟ هل هذه حالة هذيان ذهني وانفصام نفسي أم أنها حالة تخلف عقلي وحيرة حضارية؟ كيف تفسر حالة الإسفاف التي وصلت له جموع السودانيين التي احتشدت مؤخراً للتظاهر ضد حمدوك؟ كيف امتثل الشعب لموجهات إعلامية أقنعته يوماً بأن حمدوك هو "المنقذ"، وآلان تريد ذات الجهة إقناعه بأن حمدوك هو "عميل" مزدوج في أحسن الفرص وخائن لوطنه في أسوأ الفروض؟ متى بطل مفعول السحر الأول حتى يعمل مفعول السحر الثاني؟ كيف يمكن أن يحدث هذا الانقلاب في المواقف؟ هل يعود ذلك إلى ضعف القدرة على التفكير النقدي، أم أنه نتيجة لصراع القوى السياسية التي تسعى للاستفادة من حالة الفوضى؟ هل هذه نتيجة ثلاثين عاماً من السيطرة على العقول أم أنها تعكس حاجة عميقة إلى الهوية والانتماء كما تقول الباحثة السودانية نجلاء فضل؟ كيف يمكن فهم حالة التيه التي يعيشها المثقفون الذين يفترض فيهم قيادة التغيير؟ ما الذي يمكن أن يلعبه المجتمع المدني في تعزيز الهوية الثقافية السياسية؟ ما هي الاستراتيجيات الممكنة لتحقيق توافق وطني بعيدا عن حالة الفوضى والانحياز غير المنطقي على أسس عقائدية أو إثنية او مناطقية؟

يمكن بهذه الأسئلة فتح المجال لنقاش أعمق حول واقع السودان ومستقبله، على أمل أن تسهم الأفكار المطروحة في إيجاد حلولٍ للتحديات التي تواجه البلاد. لا يكفي توجيه الانتقاد لتنسيقية تقدم واتهامها بأنها تتحرك دون قاعدة جماهيرية، فمجرد الانتهازية لا يوفر حجة موضوعية لدى المتلقي، سودانيّا كان أم أجنبيّا. بل يجب أن نخلق قنوات للتواصل بين كافة الهيئات المدنية التي تسعى لإنهاء الحرب فسمة التدافع المدني أنه لا يعتمد المعادلة الصفرية. إن من واجب الكل أن يسعى للحد من معاناة السودانيين التي لا تنتهي إلا بإيقاف الحرب والنظر في كيفية استعادة الاستقرار والتخطيط لمستقبل السودان بطريقة سوية. نحن أبعد ما نكون اليوم عن الديمقراطية، فعلينا أن نستحدث معادلة حكمية تعفي طرفي النزاع من الإسهام في تعقيد المشهد وتوفر فرصة لداعميهم الشعبيين للتفكير في طرائق الحكم المدني الذي يُفضي إلى الديمقراطية بعد توفر البنيات التحتية، المعنوي منها والمادي.

يلزمني في هذه السانحة تسليط الضوء على قضايا حيوية أهمها نزع المشروعية عن هذه الحرب اللعينة وتبيان خطل المرافعة عن الجيش بإنه الجهة السيادية أو المؤسسية وفضح نوايا الداعمين للحرب باسم القومية أو الوطنية. هذه الحرب كان القصد منها قطع المسار على الثورة السلمية والمدنية ومن ثمّ الاستئثار بالثروة والسلطة. لا يهمني من بدأ الحرب، فكلاهما منغمس في تلك الشهوة أو متلبس بتلك النشوة. وإذ إنّ الدّاعمين لها يريدون التكسب وإحراز بعض النقاط السياسية فإنه لا يروعهم حجم المآسي التي حاقت بالأمة السودانية، بل يحلو لهم معاينة الجيل الذي نبذهم وناهضهم العداء وهو يعاني محنة التشرد والنزوح فيما تظل قيادتهم ترفل في نعيم دول المهجر وهي لا تكف لحظة عن تأجيج نيران الفتنة ورصد أعواد البغضاء والتي من عجب تجد من يستجيب لها من البسطاء.

وفقاً للباحث الأمريكي باري غلاير، فإن "الشعبوية تنمو في أوقات الأزمات، حيث يلتف الناس حول شخصيات تعدهم بالتغيير". تعتبر الشعبوية ظاهرة سياسية معقدة، شهدنا تجلياتها في الولايات المتحدة من خلال انتخاب ترمب. لكن المؤسف أن الشعب السوداني يلتف حول "الإنصرافي" فيما يلتف الأمريكان حول "الإنحرافي"، الأول مجهول الهوية يتظاهر بالرجولة ويفتخر بسبه للدين والثاني معلوم الهوية وقد ثبتت إدانته في قضايا جنائية، بمعنى آخر هو أخفق في إثبات رجاحته الأخلاقية لكنه على الأقل نجح في إثبات فحولته الإنسية.

إن الحديث عن سيادة الدولة السودانية من قبل الداعمين للجيش أمر جلل لا سيما أن هذه السيادة لم تنتهك يوما مثل ما انتهكت في عهد الإنقاذ الذي حفِل بوجود أكبر بعثة أممية في العالم على غرار ما حدث من إبادة للشعوب السودانية في جنوب البلاد وغربها. أما الحديث عن المؤسسية في الوقت الذي تستولد فيه العصاية الإنقاذية المليشيات من بطون القبائل السودانية فأمر محير، إذ دأبت دوماً على تفعيل التناقضات بين الزرقة والعرب، بين العرب والعرب وبين الزرقة والزرقة، إلى آخر الانتهاكات التي أسهمت في تدمير الوجدان السوداني وساعدت في تمزيق عرى النسيج الاجتماعي. كما يشير الباحث السوداني علي بابكر إلى أن " النظام عمل على إضعاف التماسك الاجتماعي عن طريق تسيس الدين واستغلال الانقسامات القبلية".

إن مؤسسة عسكرية وسياسية هذه أبرز سماتها لا يمكن أن تؤتمن على مستقبل الأمة السودانية. عليه فلابد من توفر الضغوط الدولية، بل الحث على استقدام القوات الأممية للفصل بين المتحاربين والمطالبة بحظر الطيران الذي تستخدمه الدول المجاورة والجيش السوداني للنيل من أمان الأمم السودانية الرافضة لوصاية العصابة الانقاذية والمطالبة بحقها في مناقشة العقد الاجتماعي، مراجعة بنية وهيكل الدولة وصولاً إلى تسوية وطنية شاملة تضع حداً للاحتراب وتؤسس لنظام اقتصادي واجتماعي وتنموي مستدام.

بالنظر إلى طبيعة الصراعات العسكرية في السودان، فإن الحسم العسكري يعتبر سراباً بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب. لا أدري كيف يبرر الكيزان المفسدون لأنفسهم فكرة استثمار الحرب والقفز فوق جماجم المواطنين وصولاً إلى سلطة زائلة ونعيمها زائل!

ختاماً، لا أتفهم كيف تعتزم جماعة أو حزب اعتزال أو مقاومة جهد مدني الهدف منه توحيد جهود السودانيين لمناهضة الحرب إلا أن يكون حليفاً باطنياً لإحدى الفريقين المتقاتلين أو إنصرافياً غوغائياً ينشد الشهرة، باستصدار بيانات أو تلاوة مقررات، على حساب النظر في كيفية حماية المدنيين من الدمار والهلاك. لابد إذاً من استنباط العبرة من الحروب السابقة في السودان التي لم تتوقف إلا من خلال الضغوط الإقليمية والدولية التي طوقت التحاربين من خلال التفعيل للوعي الجمعي الذي حرم المتحاربين من الشعبوية/الإنصرافية، كواحدة من أفتك الأسلحة التي يعتمدونها في ترويج الأكاذيب باسم القومية تارة أو باسم الوطنية تارة أخرى، وألزمهم سبل السلام التي يجب أن تكون من تصميم واشراف الجهات المدنية بالتعاون مع العسكريين كي نتفادى الأخطاء التي وقعت في نيفاشا وأبوجا والتي جعلت السلام مغنما للعسكريين دون الآخرين.

 

auwaab@gmail.com

 

آراء