الاحتفاء بالمبدعين: لانا هارون نموذجاً

 


 

 

استمعتُ بعناية للفنانة (Artist) الشابة لانا هارون على اليوتيوب، وهي تروي قصة التقاطها لمشهد طالبة العمارة في جامعة السودان العالمية، آلاء صلاح، بعدسة هاتفها الجوال، عندما كانت هذه الأخيرة تقف بشجاعة منقطعة النظير على سطح سيارة في وسط الحشود الثائرة في ساحة الاعتصام أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة بالخرطوم، قبل ثلاثة أيام من إسقاط الرئيس البشير (8 أبريل/ نيسان 2019)، ويكسو قامتها الممشوقة ولونها الأسمر ثوبٌ سوداني أبيض ناصع البياض، وتتدلّى من أذنيها أقراط هلالية ذهبية. وقفت آلاء بهذا الكيف والمظهر وسط أمواج الجماهير الثائرة، التي كانت تردد معها: "الطلقة ما بتكتل ... بكتل سكات الزول ... وأنا جدي ترهاقا ... حبوبتي كنداكة ... وعبد الفضيل ألماظ".
وفي روايتها التي نقلتها شبكة سي. أن. أن (CNN) الأمريكية، تقول لانا "عندما رأيتُ (آلاء) ركضتُ نحوها، والتقطتُ عدة صور لها"، بالرغم من "أنني لا أملك كاميرة تصوير، سوى هاتفي الذكي." وفي حينها أدركتُ أنَّ آلاء بوقفتها الشامخة قد أعطت "الجميع الأمل والطاقة الإيجابية"، و"ألهمت كل امرأةٍ وفتاةٍ في ساحة الاعتصام" آنذاك. وبهذا الحدس الفني والتوثيقي المرهف قدرت لانا أن صورة آلاء سيكون لها شأن في وسائط التواصل الاجتماعي، وتأثير واسع في الإعلام المرئي والمسموع، ولذلك انتقتها بعناية من بين الصور التي كانت تختزنها ذاكرة هاتفها الجوال، ووضعتها على حسابها الخاص بتيوتر (Twitter)، فصدق حدسها؛ لأن المشهد الدرامي المتحرك لآلاء صلاح قد جذب أنظار المشاهدين والإعلاميين في معظم أنحاء العالم إلى الثورة السودانية. فوصفتها صحيفة الغارديان البريطانية بأنها "أيقونة الثورة السودانية"، كما وصفتها صحف أخرى، وهي في قمة أدائها المسرحي وسبّابتها متجهة نحو السماء، بأنها "رمز الحرية" في السودان، قياسًا بصورة تمثال الحرية في نيويورك. وفي حوارها مع إذاعة صوت ألمانيا (DW)، ترى الناشطة هالة فقير أن مشهد آلاء صلاح وغيرها من الشبان والشابات في ساحات الاعتصام قد أكَّد بأن الثورة السودانية قد قلبت "الكثير من الموازين" والمعادلات السياسية المتعارف عليها في المجتمع السوداني؛ لأنها أبزرت وجوهاً جديدةً في الساحة السياسية، قوامها الشباب والمرأة. الأمر الذي جعل الكثيرين يتطلعون إلى دورٍ ريادي لقوى إعلان الحرية والتغيير، التي قادت الثورة، يكون أكثر تماهياً مع أهداف الثورة وشعاراتها والتحديات المحيطة بها، وأكثر وعياً بإسقاطات المحاصصات السياسية التي أفسدت الثورات السابقة لها، وأوسع إدراكاً بمتطلبات عملية التغيير التي من المفترض أن تستند إلى دراسات فاحصة ورؤى واعية وقادرة على إعادة سودان ما بعد البشير إلى موضعه الصحيح بين دول العالم الناهضة.
حقاً شدني التسجيل الذي وضعته لانا هارون على قناة اليوتيوب، وذلك لأربعة أسباب رئيسة:
أولها، الوعي بتوزيع الأدوار، بمعنى أنَّ الفنانة لانا هارون ترى أن دورها يتسق من طرفٍ مع دور آلاء صلاح، بحكم أنهن قد خرجن إلى ساحة الاعتصام في ظرفٍ سياسيٍ حرجٍ، بعد أن كسرن حاجز الخوف، واشتركن بجسارة في الاحتجاجات الشعبية، ثم وقفن بصلابة في ساحة الاعتصام من أجل إسقاط النظام دون وجلٍ من أجهزته الأمنية-القمعية؛ ومن طرفٍ آخر أنها قد أفلحت في تصوير المشهد الدرامي، الذي جعل آلاء صلاح تُوصف بأنها "أيقونة الثورة السودانية" في الوسائط الإعلامية، دون أن تبخس شهرة آلاء صلاح من دورها شيئاً.
ثانيها، إنَّ المشهد الذي جعل آلاء صلاح تُوصف بأنها أيقونة الثورة السودانية، يضع على عاتقها عبءً أثقل؛ لأنه أهلَّها لتمثيل السودان في أكثر من محفل دولي وإقليمي، فعليها أن توسع دائرة اهتمامها بتاريخ السودان، ووعيها بدوافع الثورة ومراحلها وتحدياتها. وبذلك تكون قادرةً على نقل الصور الذهنية الحية عن أحداث الثورة السودانية بكفاءة عالية، فضلاً عن دورها المتوقع في دفع مسار الثورة تجاه تحقيق أهدافها المرتبطة بقضايا الحرية والسلام والعدالة.
ثالثها، إنَّ لانا قد اشارت إلى تجاهل وزارة الثقافة السودانية لدور المبدعين من الشباب السودانيين، ودليلها على ذلك أن العديد من الوسائط الإعلامية والمؤسسات التعليمية العالمية والإقليمية قد عقدت معها لقاءات وحوارات بشأن المشهد الذي التقطته عدسة هاتفها الجوال في ساحة الاعتصام، وطلب بعضها الأذن بأن تضع صورة أيقونة الثورة السودانية على صفحاتها الأولى، أو تضمنها في مناهجها الدراسية. وفي الوقت نفسه لم تجر معها أي من وسائط الإعلام السودانية مقابلةً أو حواراً عن قصة الصورة التي التقطتها عدسة هاتفها الجوال في ساحة الاعتصام.
رابعها، إنَّ لانا هارون في تسجيلها على اليوتيوب قد استطاعت أن يجيب عن كل الأسئلة المفخخة التي طُرحت عليها، بذكاء وتصالح مع النفس رشيد؛ كما أنها مازت بلباقةٍ بين الدور التوثيقي الذي قامت به والمشهد الاحتجاجي الذي جسَّدته آلاء صلاح، دون الدخول في مقارنات غير منتجة، أو ذاهلة عن طبيعة الدورين.
تذكرني هذه الشواهد بقول فيلسوف الثورة الفرنسية فولتير: "إنَّ الخير الحقيقي للإنسانية ليس في قادتها السياسيين"، وإنما في فلاسفتها وعلمائها وشعرائها وفنانيها، وينسحب على ذلك دور الشباب من الجنسين، الذين أسهموا بجدارة في إشعال جذوة ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018م، وأثبتوا أنهم أكثر كفاءة من القادة السياسيين، الذين بدأوا "يتقاتلون على الثريد الأعفر" بعد نجاح الثورة في مرحلتها الأولى، دون أن يقدموا رؤية وطنية جامعة مانعة، لإخراج السودان من نفقه المظلم، وفق ثوابت نهضة مستحقة، تتجاوز المحاصصات السياسية البغيضة التي كانت سبباً في إفساد كل الثورات السودانية السابقة لها. وذلك علماً بأن الرؤية الوطنية الثاقبة تُشعر الجميع بأنهم شركاء في الهدف وفي عملية التغيير؛ لأن التغيير لا يأتي من فراغٍ، بل عن طريق الخطط والاهداف الاستراتيجية المدروسة التي ترتقي بنفسها فوق هامات الأشخاص، الذين صنعوا الأحداث نفسها، لتؤسس لسياسات عامة، تكون قادرة على طرح مشروعات حلول مستدامة؛ للتفاكر الفطن في مرتكزات، والتنفيذ الواعي باحتياجات المجتمع السوداني، بعيداً على القراءات الفطيرة التي تقدم الكسب الحزبي الأدنى على المصلحة الوطنية الأعلى، ولا يلتفت أصحابها إلى أهمية مشاركتهم في إنجاح الفترة الانتقالية، ولا يعبؤون بأن يفضي دورهم السلبي إلى عواقب وخيمة على كل أهل السودان.
التهنئة المستحقة للفنان لانا هارون، التي أبدعت في تصوير المشهد البطولي لآلاء صلاح، فالعلاقة بينهما أشبه بالعلاقة بين لاعب الهلال الدولي نصر الدين عباس جكسا وعمر الزين بشارة، الذي التقط الصورة الفريدة لجكسا في مباراة الفريق القومي السوداني ضد الفريق القومي مصر عام 1963م، وبعد ذلك دخلت الصورة موسوعة غينيس للأرقام القياسية (Guinness World Records)، وُصنِّفت بأنها من أجمل الصور الفوتوغرافية في مجال كرة القدم.

 

ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء