الاقتصاد السوداني: العواصم السياسية والقواصم الاجتماعية

 


 

 

دلف وزير المالية السابق علي محمود في العام ٢٠١٢ الي أحد المرافق الحيوية الهامة المعنية بالحماية الاستراتيجية للبلاد ليشرح لمنتسبي ذلك القطاع سياسات الحكومة للسحب التدريجي ورفع الدعم عن السلع والخدمات، وقد واجه في ذلك الاجتماع حملة عاصفة من الإنتقادات، خاصة حول المخاطر السياسية والاضطرابات الاجتماعية المتوقعة في ظل القفزة الهائلة في أسعار السلع والخدمات. وخرج وزير المالية السابق متحسرا من ذلك الاجتماع ليقول (اذا كان منسوبي الحكومة الذين يعول عليهم في شرح وتطبيق هذه السياسات غير متفهمين لدواعيها فكيف نقنع المواطن العادي)؟. وكانت احد ابرز المظاهر السياسية لتلك السياسات هي مظاهرات سبتمبر ٢٠١٣. اما الآثار الاجتماعية غير المنظورة فإنها ظلت تسري كالسرطان في الجسد العليل. 

مع اعلان وزير المالية بدرالدين محمود عن إستمرار الحكومة في رفع الدعم عن السلع والخدمات في ميزانية ٢٠١٧ تلوح مجددا في الأفق بعض المخاطر السياسية والاجتماعية. ويبقي السؤال: هل استنفد معدوا السياسات الاقتصادية كل الحلول والبدائل الآخري ولم يتبق لديهم اي خيار سوي رفع الدعم عن السلع والخدمات؟. ولماذا تم تجاوز رأي بعض الاقتصاديين بالرفع التدريجي غير المحسوس لمدي طويل من الزمن يستغرق عشر سنوات، واللجوء الي الرفع المؤلم والقاسي لهذا الدعم وفي وقت وجيز مما يترتب عليه آثارا اجتماعية وخيمة علي قطاع الفقراء ومحدودي الدخل وهم حوالي 70% من جملة سكان السودان.
حرر الدكتور سليمان علي بلدو تقريرا مطولا لمنظمة ( كفاية) الأميريكية التي يديرها جون بريندرقاست تحت عنوان: (الاقتصاد السوداني وكعب أخيل:التقاطعات بين الحرب والمصالح والاطماع)، وجاء مترافقا مع هذا التقرير المذكرة الاقتصادية للسودان التي اصدرها البنك الدولي الشهر الماضي، والتي حض فيها حكومة السودان بإعادة هيكلة الاقتصاد وتسريع تنويع مصادر الاقتصاد السوداني. وفي استجابة لروشتات البنك الدولي المتوالية أعلن وزير المالية عن سحب الدعم عن السلع والخدمات في ميزانية ٢٠١٧ مع زيادة معتبرة في مرتبات القطاع العام.
في تقريره عن كعب أخيل اقتصاد السودان يشير الدكتور سليمان علي بلدو لملامح الهشاشة في الاقتصاد السوداني الذي يعاني من أزمات هيكلية بفعل العقوبات والعزلة المالية الدولية، مما جعل أولوياته تتحول من اعفاء الدين الخارجي الي تخفيف العقوبات. ونسبة لهذه الهشاشة التي يعاني منها الاقتصاد السوداني يعتقد كاتب التقرير انه يمكن للولايات المتحدة ان تعيد بناء تأثيرها ونفوذها من بوابة الاقتصاد لإعادة تشكيل الخارطة السياسية في السودان نحو السلام و التحول الديمقراطي.
ونحت منظمة كفاية وكاتب التقرير باللائمة علي سياسات حكومة السودان، وما اسماه النهب المنظم للاقتصاد السوداني عن طريق الخصخصة، وبناء شبكات لما اسماه الاقتصاد الرمادي لدعم أركان الدولة العميقة التي يسيطر عليها الموالون للحكم حسب زعمه.
ويعتقد التقرير انه توجد سانحة مواتية للولايات المتحدة لتعظيم نفوذها وتأثيرها لإجراء التسويات السياسية اللازمة من خلال استخدام سياسة العصا والجزرة والمغريات لرفع العقوبات. ولكن فات علي كاتب التقرير ومنظمة (كفاية) في تقريرها ان اكبر كرت منح واشنطون نفوذا وتأثيرا من قبل كان إجراءات التسوية لقضية جنوب السودان واتفاقية السلام الشامل. و كان جون بريندرقاست قد سبق وان أكد لكاتب هذ المقال ان إدارة كلنتون بنت نفوذا وتأثيرا علي حكومة السودان، لكن لم تستثمره في وقتها مما أتاح فرصة اكبر لإدارة بوش ان تستخدم الرأسمال السياسي لأمريكا في السودان مما قاد لتوقيع اتفاقية السلام الشامل. وكان الرئيس الاسبق جيمي كارتر قد كشف في السابق انه لبي دعوة البيت الأبيض للإحتفال بتنصيب الرئيس بوش الابن حتي يهمس في أذنه ان السلام في السودان ممكن،وان اكبر دواعي استمرار الحرب في السابق هي سياسة الولايات المتحدة الأمريكية.
ان دعوة منظمة (كفاية) وتقرير الدكتور سليمان علي بلدو ان تستخدم واشنطون الازمة المالية في السودان وسعي الحكومة الجاد لرفع العقوبات، ومقايضتها بشروط سياسية لإجراء التسوية اللازمة لوقف الحرب والتحول الديمقراطي، لهو ذات الخمر القديم وان تمت تعبئته في قناني جديدة، وذلك لأن واشنطون مع مطل العهود والتمادي في نقض المواثيق فقدت كرتها الرابح بعد فصل جنوب السودان، ولم يعد لها ذات النفوذ والتأثير علي توجهات السياسة الداخلية في السودان.
اما تقرير البنك الدولي عن الاقتصاد السوداني الذي صدر الشهر الماضي فقد أكد علي نجاح الحكومة في كبح جماح التضخم، والخروج من عنق الزجاجة ومعدلات النمو السالب الذي وسم الاقتصاد بعد فصل جنوب السودان وفقدان 70% من موارد النفط. وقال مايكل غيرنر الذي قاد فريق التقرير ان السودان ينتظره مزيد من العمل لتحقيق أهداف خطة متوازنة ومتوسطة الأجل، خاصة وان اكبر المعوقات تتمثل في ارتفاع معدلات التضخم، وانفلات سوق العملات الأجنبية ومعدلات سعر الصرف وضعف الانتاج خاصة القطاع الزراعي لسوء الادارة وضعف التمويل. وقدم التقرير حزمة من التوصيات والسياسات لمتخذ القرار منها رفع القيود عن سعر الصرف لتوحيد السعر الرسمي والسوق الموازي، وزيادة تمويل القطاع الزراعي وتحديد الاختصاصات علي مستوي الولايات وزيادة فعالية إدارة الموارد القومية.
هناك شبه اجماع وسط قادة الدول النامية ان سياسات البنك الدولي لم تقدم اي روشتة ناجعة لإنقاذ اي من اقتصاديات دول العالم الثالث، ولا توجد قصة نجاح واحدة في العالم في ان تطبيق توصيات وسياسات البنك الدولي ساعدت بعض هذه الاقتصاديات في الخروج من ازمتها المالية. وهذا ليس اعادة انتاج لشعارات اليسار والشيوعيين في حقبة الستين والسبعين من القرن الماضي ( لن يحكمنا البنك الدولي)، وقد فطن لذلك مبكرا رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد عندما رفض توصيات البنك الدولي للخروج من الازمة المالية للإقتصاد الآسيوي في العام ١٩٩٨.
و قد واجهت اليونان في العامين الماضيين ذات الازمة عقب الانهيار الاقتصادي واضطرارها للاستدانة من الاتحاد الأوروبي، وقد قدمت لها ألمانيا قرضا لإنقاذ اقتصادها من الانهيار بمبلغ ٣٠٠ مليار دولار بشروط قاسية منها التقشف وضبط الإنفاق ووقف الدعم الاجتماعي. وأدي ذلك الي أزمة سياسية أطاحت بأكثر من حكومة مما اضطر الإتحاد الاوروبي الي إعادة التفاوض حول شروط الدعم مع حكومة اشتراكية منتخبة. ولعل نموذج اليونان يؤكد انه حتي الدول الأوروبية لا تستطع ان تغامر بوقف برامج الدعم الاجتماعي اثناء الأزمات المالية القاسية.
ربما يكون إعلان وزير المالية استمرار الدولة في رفع الدعم عن السلع والخدمات في ميزانية العام ٢٠١٧ يتزامن مع عقد الجمعية العمومية واعتماد مخرجات الحوار الوطني مما يعني انه اعلان تم في ظرف سياسي أفضل من العام ٢٠١٣، ولكن هذا التزامن لا يحصن هذه السياسات من النقد والتحفظ عليها من قبل الرأي العام المستنير. ولا يشكك احد في ان المعالجات الهيكلية لإختلالات الاقتصاد السوداني تتطلب جراحات مؤلمة للخروج من عنق الزجاجة، لكن رفع الدعم عن السلع والخدمات يجب ان يكون آخر الجراحات وليس أولها، لأن في ذلك تكريس للإقتصاد الرأسمالي المتوحش الذي لا يكترث للآثار الإجتماعية الوخيمة علي قطاع الفقراء ومحدودي الدخل وهم الغالبية العظمي من سكان السودان. ويحاجج الاقتصاديون والخبراء في هذا القطاع الحيوي أن رفع الدعم عن السلع والخدمات خيار لا بد منه وسياسة ضرورية للإصلاح الاقتصادي وذلك حسب روشتة البنك الدولي وكذلك البرنامج الخماسي للاقتصاد السوداني. وقد دافعت القيادة السياسية عن هذه السياسات من قبل وتحملت كلفتها السياسية و واجهت آثارها الاجتماعية السالبة، لكن لم يتبين حتي هذه اللحظة نجاعة هذه السياسات في الخروج من عنق الزجاجة، اذ ما تزال ذات المشاكل والازمات والتحديات ماثلة رغم تطبيق هذا البرنامج القاسي علي المجتمع السوداني.
ربما تكون سياسات رفع الدعم عن السلع والخدمات خيار راشد علي مستوي السياسات الاقتصادية المحضة في ظل عجز العقل الاقتصادي عن استحداث بدائل موضوعية فاعلة وعملية، لكنه من حيث التوقيت خاطيء، اذ كان من المناسب تطبيقه اثناء فترة الطفرة الاقتصادية والنفطية الزاهرة ٢٠٠٣-٢٠١١، كما ان ثمار هذه السياسات علي الوضع الاقتصادي العام لا تبرر دفع الكلفة السياسية الباهظة او الاثار الاجتماعية السالبة المتوقعة ، وقد رأينا آثارها منذ العام ٢٠١٢ وحتي الآن، ولا نحتاج لزيادة في الأدلة لتأكيد ضعف مردودها في معالجة مشاكل الاقتصاد، او درء اثارها الاجتماعية الوخيمة علي المجتمع السوداني. اذ ان ارتفاع معدلات الجريمة والانحرافات السلوكية و تضعضع القيم العامة والهجرة الهائلة من الريف الي المدن وما يصاحبه من نزوح في الاعراف والقيم، يعود ضمن أسباب اخري للوضع الإقتصادي، خاصة مع ارتفاع معدلات البطالة وسط الشباب، وضعف فرص المستقبل امام الملايين من خريجي الجامعات، وارتفاع معدلات الطلاق والعنوسة في المجتمع بسبب الإعسار المادي. و لولا ان التعدين الأهلي قد رفع مستوي التشغيل وسط الشباب ، وتولدت عنه ثروة ناشطة خارج منظومة الإقتصاد الرسمي للدولة لحدثت كارثة إجتماعية في المدن والأرياف العامرة.
ان مراجعة هذه السياسيات علي ضوء الآثار الاجتماعية المتوقعة يجب ان تحظي بالأولوية في تفكير النخبة الاقتصادية التي صنعت هذه السياسات وقدمتها لمتخذ القرار السياسي، وان حزمة التدابير الاقتصادية ومنها زيادة مرتبات العاملين في القطاع العام لإمتصاص الاثار الجانبية السالبة للزيادة في أسعار السلع والخدمات، لا تفي بالغرض ، واثبتت فشلها في الماضي. ان الخطورة في مثل هذا التفكير الاقتصادي انه يُكرّس لتوجهات الاقتصاد الرأسمالي المتوحش حيث يزداد الأغنياء غني والفقراء فقرا. وكما قال الاقتصادي الامريكي الحائز علي جائزة نوبل في الاقتصاد جوزيف استغلز ان واحدة بالمائة يملكون ٩٩٪‏ من الإقتصاد. ولا بد ان تراعي حزمة السياسيات والإصلاحات الإقتصادية جوهر مشروع العدالة الاجتماعية لإزالة المفارقات والتشوهات الطبقية وليس فقط الاحتفاء بتطبيق سياسات توفر بضعة ملايين من الدولارات لخزينة الدولة. ولا بد ان يفكر خبراء الاقتصاد عن بدائل راشدة بدلا عن تقحم هذا الطريق الصعب ورفع الحرج عن مُتَّخِذ القرار السياسي،لأنه اذا كانت الكلفة السياسية لهذه السياسات يمكن درءها في ظل مناخ الحوار الوطني فإن الآثار الإجتماعية عميقة الغور وبعيدة الأثر ستمتد تشوهاتها الجينية الي اجيال المستقبل التي ما تزال تتشكل في رحم الغيب

khaliddafalla@gmail.com

 

آراء