الاقتصاد السياسي لكأس العالم

 


 

 

الاقتصاد السياسي لكأس العالم:
إستضافة كاس العالم كصناعة علاقات عامة لتلميع وتبييض وأنسنة سلطة الدولة المضيفة وإخفاء قبح ممارسات فيفا والعولمة المعاصرة

الفاضل الهاشمي
٢٩ يناير ٢٠٢٢

سياق كأس العالم الاجتماعي السياسي:
أزعم في هذا المقال أن إستضافة كاس العالم كصناعة علاقات عامة تكسب الدولة المضيفة سلطة ناعمة وتلمّع وتؤنسن صورتها لإخفاء أزماتها وتجميل وجهها الحقيقي القبيح من جهة، كما أنها تخترع مسرحاً لإعلاء الشعور الوطني/القومي الخفيض بعد أن ضعضعت كرامته الشركات العابرة للأوطان كسردية، بالإضافة الي أن تلك الشركات تستثمر الفضاء لقضاء حوائجها الدعائية وإعادة غسيل سمعتها. لا غرو فإن مشهد كؤوس العالم إختراع تخفي به العولمة المعاصرة خيباتها حول الجوع واللامساواة وبيع الأسلحة والأعضاء والتخلي عن مهمة إنهاء الإبادات والموت المجاني للمهاجرين في البحار ؛ وكأن سادة العولمة يتناجون عبر برنامج بارني الأمريكي ويقولون لنظارة المستهلكين في العالم (مقابل المواطنين) كما يصدح بارني الأمريكي في برنامج الأطفال "نحن أسرة سعيدة" نهتم ونشارك بعضنا في السراء والضراء وحقوق الإنسان والعمال المهاجرين كما نروّج للبضاعة والمجد للشركات في الأعالي.
خلقت اللبرالية الجديدة المعولمة، كفلسفة إقتصادية سياسية إجتماعية تجاوز عمرها الآن نصف قرن من الزمان، خلقت حرباً طبقيةً ضروساً وفراغاً عريضاً يتخلّق ضمنه شكل من أشكال الفاشية الجديدة حسب نعوم شومسكي، لا سيما وأن هناك صدام بنيوي متأصل بين الراسمالية والديموقراطية. لم تعد اللبرالية ذلك النموذج الآيدلوجي النظري وحزمة سياسات تعلي من قيم الأسواق الحرة التنافسية ودور رشيق محدود للدولة، وإنما تعني عملياً سيادة احتكارات أخطبوطية عضوض وشركات ضخمة سيطرت بنفوذها وسلطاتها علي جهاز الدولة وهمها المقدس هو مراكمة الارباح دون وازع وكابح ودون أخلاق. بمعنى آخر خلقت حرباً طبقية جامحة فانهارت المنظومة الإجتماعية وتخلّق التطرف والعنف وخطاب الكراهية والبحث عن كبش فداء أو متسلط فاشي يعمل كمخلّص. وتمكّنت ظاهرة توريق وأمْوَلة الإقتصاد فى الأسواق المالية ومضاربات وعمليات إحتيال تطلب الربح السريع لا علاقة مباشرة لها مع فضاء الإنتاج المادى ومخاطر يعاقب عليها السوق بالخروج منه حين تخسر المؤسسة، وإنما تقوم الحكومات فى الشمال الكوني بدعم تلك الشركات الكبري فى اقتصاد الإنقاذ والكفالة (bailout economy). هذا هو قوام الحرب الطبقية المعاصرة الذي أنتج عمل رخيص وأرباح راكضة وأجور راكدة وطبقة جديدة تسمي بريكاريا (precariat) تحت شروط عمل ودخول غير آمنة وغير مضمونة. تلك هى حزمة سياسية-إجتماعية فاسدة تُبرم ضمنها عقودات كؤوس العالم بعيدا عن قوانين حقوق الإنسان والعمال المهاجرين ليس فى قطر وحدها وإنما فى الشمال الكوني وامريكا وجنوب افريقيا والصين وروسيا. لذلك فان الصورة الكبري يجب أن تتجاوز نقد قطر وحدها كون الأزمة شاملة.

استضافة كأس العالم: رافعة السلطة الناعمة وتلميع الصورة
يزعم مقال مجلة فورين افيرز الامريكية (كخبيرة متخصصة فى فضاء السياسة الأمريكية) المنشور في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٢ تحت عنوان "مخاطر القوة الناعمة ووعدها"، يزعم أن دولة قطر استثمرت نحو ٣٠٠ مليار لاستضافة كأس العالم على أمل أن يتم ترفيع صورة قطر عبر ذلك المشهد ويعيد تشكيل تلك الدولة الخليجية الصغيرة لتوطينها عالمياً كوجهة كوزموبوليتانية ، بمعنى أنها دولة معاصرة غير مغلقة محلياً بإحتضانها مفاهيم وقيم وممارسات التعدد الثقافي والإثني والنوعي وتحترم حقوق الإنسان ومحاذير البيئة. كما تزعم المجلة أنها تشك فى نجاح مهمة تلك الاستضافة كون سِجل قطر يطفح بانتهاكات حقوق الإنسان بإستغلال فظ للعمال المهاجرين. تطرح الميديا الغربية هذه الشريحة من الإستغلال والقمع وتعمل عليها "زوم آوت" وكأن ما يجري فى فضاء العولمة المعاصر في الشمال الكوني يقوم جوهريا على إحترام حقوق البشر والمظلومين ، ودوننا سجل موثق من البحوث الاكاديمية فى الجامعات ومراكز البحوث فى أمريكا واوروبا حول هوان وخيبة نماذج الإدماج القسري والتعدد الثقافي الزائف للمهاجرين في الشمال الكوني. تأمّل معى عملية تبنّي عبارة "إستغلال العمال المهاجرين" الماركسية وكأننا نقرأ من مانفستو شيوعي جديد تخترعه صحافة القارديان ونيويورك تايمز وفورين بوليسي. ليس ذلك فحسب، إنما نحن ازاء اختراع مخاتل جوهره أن قطر ودول الخليج الظالمة تعمل بعيداً عن منظومة العولمة المعاصرة الظالمة وضمنها مؤسسة فيفا الرياضية التي يعلم الجميع فسادها.
نعلم أن جوهر انتهاكات حقوق الإنسان المعاصرة ينطلق بنيوياً من منظومة معولمة تقودها شركات تنتمي للشمال الكوني عابرة للقارات هاجرت للعمالة الرخيصة لإستغلالها والتبشيع بها فى عقر دور الدول الاسيوية والأفريقية الفقيرة فى جميع القطاعات الصناعية (النسيج والأحذية والمعادن النفيسة والنفط)، بل فى تجارة الأعضاء والبشر وغسيل الأموال والأنفس واستلاب الأرض و واستحوازها. حين نقرأ نقد المجلة الأمريكية يجب أن نغمض أعيننا عن قهر الشعوب عبر آليات مؤسسات اللبرالية الجديدة وعن الغسيل الأخضر البيئي والتلوث من جهة وإضمحلال مؤسسات الديمقراطية مع نموء سلطان وجبروت الشركات علي الدول النامية وشعوبها. قطر وجميع دول الخليج ليست نبتاً شيطانياً خارج منظومة العولمة والشركات الامريكية والاوروبية والصينية التي إرتوت من نفطها وغازها، وليتها تركت بقلها وقثائها وفـــــومها وعدسها وبصلها للعمال المهاجرين.
حسب مجلة فورين افيرز أن الدول تريد تكبير كوم "سلطتها الناعمة" لكسب الرأي العام العالمي، والسلطة الناعمة هي "مجمل أشكال النفوذ والتأثير المائعة وغير الملموسة من إعلام وثقافة وآيدلوجيا وقيم". وحتي يتسني للدول أن تعلى من شأن نفوذ سلطتها الناعمة عالمياً، لا بد أن تعتني بقيمها الداخلية حول الحقوق والقيم المعاصرة حسب المجلة. يزعم المقال أن واشنطون تضع القيم والمثل الديمقراطية في قلب صيرورتها للترويج لقوتها الناعمة، فى حين تعمل بكين بطريقة براغماتية للترويج لنموذج تنميتها الاقتصادية وكفاءتها الادارية وتفوقها التقني.
تستغل وتستثمر وتصمم الأنظمة المتسلطة الاستبدادية مشهد الاحداث الرياضية العالمية مثل كأس العالم والالعاب الأولمبية خصيصاً لخلق واختراع صورة وردية ناعمة على المسرح الدولي، وفي زعمي أن تلك الدول، بلا استثناء، تستخدم طرائق ملتوية فاسدة مزيّفة وهي تخترع تلك الصورة. اوردت فورين بوليسي، عبر الاستشهاد باراء كتاب صحفيين، إن استضافة الصين للاولمبياد الشتوي السابق كان القصد منه أن الحزب الشيوعي الصيني دبّر ذلك الاولمبياد بعناية فائقة وبدون حدوث تفاصيل محرجة يمكن أن تشوه كمال جاذبيتها لتوصيل رسالة يظهر فيها للعالم ان الصين دولة ديمقراطية وهي بصدد إعادة ميلاد عظمتها وخلاصها.
تفصح محكيتا الصين وقطر عن سيناريو محكم متفقٌ حوله من منظومة العولمة المعاصرة حول تبادل الفضاء الاقتصادي السياسي الاجتماعي الرياضي حتي تروّج الشركات متعددة الجنسيات بضاعتها، حلالها وحرامها، عبر تلك الأحداث الرياضية باستثمار المشاعر القومية بصرف النظر عن بشاعة حكام تلك الدول. هذا ليس من ضمن اولويات مقال فورين بوليسي الذي يرمي فى النهاية الى ضرورة أن تتناسق سياسات تلك الدول الداخلية والخارجية والترويجية عبر تلك الأحداث الرياضية حتي تسلس عملية سلطتها الناعمة وتنجح في ترفيع وتلميع صورتها.
يخلص مقال المجلة الى أن بانوراما حملات وسياسات السلطة الناعمة المنظورة عبر تجارب قطر وتركيا وكوريا الجنوبية وتركيا تصطدم بحقيقة واقعها الداخلي البشع الذي يتناقض مع ما تود نشره علي العالم وتتناسى ان تلك البشاعة على صعيد حقوق العمال والشعوب الأصلية تمارسها حكومات ملكية مطلقة وحكومات غربية وشرقية وشركات أكبر نفوذا ناعما ودموياً. أما على صعيد مشاهد سلطة الولايات المتحدة الامريكية الناعمة فان عليها معالجة الفجوة بين خطابها الخارجي ولعلعتها البلاغية ودوعالها الفارغ، عالم حر يدوعل فوقنا على قول الشاعر القدال، حول قيم حقوق الانسان والديمقراطية وبين ممارساتها الداخلية حول حقوق الانسان تجاه الكثير من فضاءات حقوق العاملين والفقراء والعنصرية المؤسسية البنيوية وقمع الناخبين وعدم تكافؤ الفرص وكشف حقائق المقابر الجماعية لشعوبها الأصلية.

كاس العالم كفضاء جيوسياسي
يتقاطع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الثقافي في محافل وأنشطة كاس العالم لذلك يتم تأمين وتأميم دقيق للوسائط اللبرالية العالمية حتي تتحشّم في تناول سرديات قوانين وحقوق وممارسات العمال المهاجرين فى قطر الذين قامت على عَرَقهم وأجسادهم البنيات التحتية للكاس من ملاعب وطرق. وعندما تكاثرت التقارير حول سجل حقوق الانسان في قطر اضطرت فيفا فى ٢٠١٧ أن تعتمد مبادئ وموجهات الأمم المتحدة بشأن الأعمال التجارية وحقوق الانسان، غير أن قطر لم تجتهد فى اصدار تلك التقارير (راجع:كيف تنقذ قطر سمعة مجريات كأس العالم ، فورين بوليسى نوفمبر ٢٠٢٢). ونحن بصدد تناول الفضاء الجيوسياسي لايغيب عنا وضع المهاجرين الرديء فى الشمال الكوني.
تعمل الدول المضيفة والمشتركة فى نهائيات كاس العالم على رفد راسمالها الرمزي عبر الاستثمار المالي والسياسي والاجتماعي فى تجهيز فرقها، كما يتم توظيف الرموز الوطنية (النشيد الوطني وعلم الدولة) والدينية (الإشارات والصلوات الدينية اثناء دخول اللاعب الميدان وبعد إحراز الاهداف) فى تجييش العواطف. ولأن لا شيئ يعلو علي ويشتغل خارج الجيوسياسي رغم أنف قوانين فيفا التي تمنع التصريحات والعبارات السياسية أثناء المباريات، سمعنا رغم أنف فيفا هتافات من نوع المجد لأوكرانيا فى كاس العالم السابق، وتغطية اللاعبيين الألمان أفواههم كناية عن أنه تم تكميم أفواههم ومنعهم لبس شارة دعم المثليين فى كأس العالم الحالي. ستستمر مقاومات حقوق الانسان ضد الظلم ومقصات الرقابة ومنغصاتها رغم حصار الجيوسياسي لكل شيئ ، كما شكل كأس الركبي فى ١٩٩٥ فى جنوب افريقيا ومضة فى تاريخ الصراع العنصري على عهد نلسون مانديلا فى مرحلة مابعد الابارتايد (كأس العالم جيوسياسياً ، فورين بوليسي ، نوفمبر ٢٠٢٢). لم ينس المشاهدون ورواد إستاد كيب تاون الذى يطل على جزيرة روبن التي سجن فيها آلاف النشطاء السياسيين فى جنوب افريقيا وكونوا فريقا لكرة القدم داخل السجن؛ لم ينسوا معني ذلك المشهد الرمزي الكبير، حيث شكّل فضاء كرة القدم إضافة نوعية للصراع ضد نظام الأبارتايد.

هامش:
البريكاريا مصطلح جديد في علم الاجتماع والاقتصاد لتوصيف طبقة اجتماعية تتكون من أشخاص يعانون من عدم القدرة على التنبؤ بما سيحدث لهم في صيرورتهم الاقتصادية المعيشية وأنهم غير آمنين ومطمئنين، مما يؤثر على رفاهيتهم المادية و/أو النفسية. تخيّل معي خريجين/ات يعملون في أكثر من وظيفة مؤقتة في المطاعم والفنادق او المصانع كما في الشمال الكوني، أو شباب لجان المقاومة في السودان هم أساسا خارج أسواق العمل والتاريج الإنساني. إرتبط مصطلح البريكاريا مع سيادة وترسيخ الرأسمالية النيوليبرالية وهو توليفة تعبّر عن بروليتاريا غير مستقرة، مشتتة الذهن وفاقدة للأمل.
المصادر:
نعوم شومسكي "نحن مقبلون نحو فاشية جديدة"، مقابلة مع بوليكرونيو ٨ ديسمبر ٢٠٢٢.
https://truthout.org/articles/noam-chomsky-were-on-the-road-to-a-form-of-neofascism/?eType=EmailBlastContent&eId=737609a0-b4e0-4917-a985-3e12bea56a7e
Guy Standing “The Precariat, the Dangerous Class”, 2011, Bloomsbury Publishing.
تعرية فيفا ، فيلم وثائقي، ٢٠٢٢
FIFA Uncovered, Documentary, Netflix, 2022. From power struggles to global politics. What it takes to host a world cup:
https://www.netflix.com/ca/title/80221113
مخاطر القوة الناعمة ووعدها
The Backstory: The Perils and Promise of Soft Power

كأس العالم جيوسياسياً ، فورين بوليسي ، نوفمبر ٢٠٢٢
https://foreignpolicy.com/2022/11/20/fifa-world-cup-2022-qatar-soccer-tournament-geopolitics/
https://foreignpolicy.com/2022/10/25/qatar-world-cup-media-journalism-freedom-migrant-labor/
https://foreignpolicy.com/2018/07/13/how-a-wwii-era-chant-found-its-way-to-world-cup-2018/
https://foreignpolicy.com/2010/06/07/how-soccer-defeated-apartheid/

elsharief@gmail.com

 

آراء