الانتخابات قولة حق لباطل وقفز على المشهد

 


 

 

ليس الذي تمر به بلادنا أزمة سياسية من نوع التي كنا نتداعى لفضها على أيام الإنقاذ مثلاً. ووجب التنبيه والالحاح على هذه الحقيقة لأن الفهم من وراء تكاثر المواثيق التي تتبارى الجماعات لصوغها هي إننا حيال أزمة أخرى مما انتاب بلادنا لعقود أوصلتنا إلى حرف جرف هار. وفي مثل هذا الفهم فرضية انحطاط: أي أن تاريخنا حالة كاملة من النكسة فلنتداعى جميعاً (بلا فرز عند بعضهم) لاستنقاذه قبل أن نصحو غداً ولا نجده.
كنا قبل الثورة حقاً في أزمة ضروس من تكاثر الديكتاتوريات علينا وويلاتها. وأعظم محنها إطلاقاً لم تكن في تسبيبها لتلك الأزمات فحسب، بل في احتكارها تعيين الأزمة في ميقاتها الخاص، ووضع شروط الحوار حولها، وانتداب من يكون في زريبة الحوار ومن لا يكون، وإجازة الحلول التي ناسبتها، وتحريم ما لم يتفق معها وشرعاً. كانت موسماً لفك التسجيل ومسح الشوارب. وواقع الحال أننا لم نتخط بالثورة ركام الأزمات الموروث ولكن من المؤكد أننا صرنا بها إلى فضاء انطلقت فيه عقدة لسان الأمة لتفكر طليقة في ترتيب بيتها.
نحن في خلاف تاريخي مع قوى الردة المستحيلة. فليس الذي نحن فيه خلافاً يستصرخنا إلى إجماع وطني فننحيه جانباً. فبدا من الدعوة لهذا الاجماع أنه، في نظر دعاته، هو نفسه الحل الزِلال. وعليه فهو في البادي إجماع وطني من أجل الإجماع الوطني مفرغاً من نشأته الأولى في صراع المشروعات السياسية عما نريد للسودان. فلسنا نختلف مع التنادي لاجتماع الكلمة من أجل الوطن. ولا يزايدنا كائن من كان حول خصلة حب الوطن. فشباب الثورة هو من يضرج الشارع الآن عزة بالوطن لأعوام ثلاثة كما لم يحدث منذ معركة كرري في ١٨٩٨. وكفى أحشو.
فلا يعني تمسكنا بحقيقة الخلاف بيننا وبين القوى الأخرى أننا لا نرغب في الاجماع الوطني. فالثورة وحدها من عرض سبيلاً لهذا التآخي السوداني بمطلب الديمقراطية والمدنية. فلسنا نذيع سراً إن قلنا أن الديمقراطية هي الإطار المعاصر المجرب لاحتواء الخلاف بحد البرلمانية. وهي نظام لم يعد يجد حماسة من القوى المضادة للثورة بدليل أنها فشلت خلال ثلاثين عاماً من مقاربة أي شعيرة ليبرالية بقدر ما هرجت بالانتخابات والحوارات السدى. فبلغ الإفلاس بمشروعها إنه لم يعد قابلاً للتحقيق إلا بأداة العسكرية. فالنظم العسكرية ليست عقوبتنا المناسبة لارتجالنا الديمقراطية كما يزعمون. إنها بالأحرى التجسيد الحي لقلة حيلة برنامج سياسي لقوى اجتماعية لا قيام له اليوم إلا بالديكتاتورية. وعليه فمطلب الثورة في الديمقراطية هو الطريق المؤسسي لوطن يحسن إدارة خلافاته لا تنحيتها.
وتقترن دعوة الانتخابات المبكرة الرائجة في دوائر الثورة المضادة بالترهيب من كارثة الوطن المنذرة التي لا شفاء منها إلا بالإجماع الوطني لأجل الإجماع الوطني. والدعوة غش صراح. قالت عنها أماني الطويل إنها حل يقفز على المشهد وهي تخدير لا غير. ويقول بهذا الهراء استعجالاً للديمقراطية هذه الأيام من لم يطأ جمر غيبتها لثلاثين عاماً. فعندك عبد الله مسار الذي كان رأى حل أزمة البلاد في يوم غير هذا في تنصيب الفريق البشير رئيساً يحكم من القبر. وكان البشير نفسه قال وهو في سكرات الثورة إن التظاهرات ليست الحل، فالحل في الانتخابات: ٢٠٢٠. وبالطبع لم يسمع منه أحد.
فالانتخابات (الأندروس الروشتة لشفاء الوطن من أزمته في نظر الثورة المضادة) نفسها موضوع للخلاف بيننا وبين القوي الأخرى. فمن رأينا أن نتواثق قبل قيامها على قانون انتخابي نطمئن به بأن البرلمانية العائدة جاءت هذه المرة لتبقى لا أن يتخطفها المغامرون من لن يجدوا حتى من يقول لهم "جر" إذا تقحموها. ولنخرج بهذه الديمقراطية المستدامة مرة وإلى الأبد من الدورة الخبيثة الموصوفة: ديمقراطية فانقلاب.
فالإجماع الوطني عند دعاته طلس. والانتخابات طيلسان. إنهما شغل ثلاث ورقات يُخلى المحتال يدك منها جميعاً. وتقعد ملوص.
واتطرق في كلمة عاقبة لمفهوم الديمقراطية التوافقية كما مارسناها في دوائر الخريجين والتمثيل النسبي في جامعة الخرطوم.

IbrahimA@missouri.edu

 

آراء