الانقلاب العسكري الإسلامي وانتهازية المثقفين

 


 

 

 

 

 

(1)

عبد الوهاب الأفندي
التيجاني عبد القادر
عبد الله علي إبراهيم
الطيب زين العابدين
خالد التيجاني النور.
هذه مجموعة كبار المثقفين الإسلاميين الذين نفذوا عملية الاحتيال الواسعة النطاق، وثبتوا الخداع والتدليس، خلال الفترة منذ الأيام الأولى للحراك الشعبي عند نهاية شهر ديسمبر 2018، في إطار الاتفاق بين الإسلاميين، بجميع مكوناتهم، لتنفيذ هذا الانقلاب العسكري.
كل واحد من هؤلاء المثقفين الخمسة كان له دور، وهو أدى دوره، وجميعهم مستمرون في برنامج الاحتيال، الآن قصد التغطية على مشاركتهم الثابتة في التخطيط للانقلاب العسكري، ودعمه، والتدليس على حقيقته، ومن ثم التزام الصمت إزاءه، باستثناء بعض المكلفين بالتصريحات الكاذبة.


(2)
لكن، يتعين علينا أولا ترتيب أمرنا، نحن الذين نعتقد في بديل للدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة/نظام الإنقاذ، نتاج فكر وتخطيط ورعاية الحركة الإسلامية السودانية.
وهو ترتيب أمرنا، على مستويين:
ألف، مستوى الشباب، من حيث مهامهم الأساسية، في هذه المرحلة وما بعدها، وهي المهام التي أورد بعضها في نهاية هذه المقال، في الخاتمة، وأعود إليها في مقال لاحق، وهي كذلك مناط هم كتاب آخرين.
باء، مستوى البالغين مقدمي الدعم، والمشاركين أحيانا في الحراك الشعبي، ومن بينهم المثقفون العلمانيون والديمقراطيون واليساريون، وقيادة تجمع المهنيين السودانيين.


(3)
فأركز في هذا المقال على دور هؤلاء المثقفين العلمانيين واليساريين والديمقراطيين، ودور قيادة تجمع المهنيين، من الذين كانوا طالبوا الجيش بالانحياز والتدخل، دورهم في الإسهام في تهيئة مناخ عام لمقبولية تدخل الجيش، مما أفضى إلى وضعية تسهيلية للانقلاب العسكري الإسلامي الثاني، والذي كما أسلفت خطط له ونفذه الإسلاميون، بكل طوائفهم، بما فيها أولئك الذين ينكرون مشاركتهم، مثل حزب المؤتمر الشعبي، وحزب غازي صلاح الدين.


انتهازية المثقفين
(1)
فجميع المثقفين اليساريين والديمقراطيين والعلمانيين، تحديدا أولئك الذين كانوا طالبوا بـ "انحياز الجيش"، وجدوا أنفسهم يَسَفون التراب سَفًّا، حتى بعد أن تحقق لهم مرادُهم، "انحياز الجيش"، الذي كانوا يدعون إليه، متوسلين مبتهلين، ليل نهار، لدى العسكر.


(2)
سفوفتُهم الترابَ اليوم هي ذاتُها سَفَّة رصفائهم الانتهازيين المصريين، الذين كانوا مثلهم توسلوا إلى الجيش، لينقذهم من أول حكومة ديمقراطية في تاريخ مصر جاءت بانتخابات حرة، صحيحة، ونزيهة، تحت المراقبة وتأكيد الصحة والنزاهة، من قبل أعدائها المحليين والدوليين، حكومة محمد مرسي، التي لم يكن يعاب عليها شيء يدعو إلى الانقضاض عليها بقوة الجيش.
ولا يغير من هذا التقدير حقيقةُ فساد الإسلامية، كعقيدة سياسية، فالموضوع هنا مجاله الأخلاقية، وهو احترام قواعد اللعبة الديمقراطية إن أنت كنت قبلتَها، بعلاتها، وشاركت فيها، لكنك خسرت في انتخاباتها، وحالة مصر ليست حالة السودان، لكن الموضوع هو هو، انتهازية المثقفين العلمانيين والديمقراطيين واليساريين، والاستثناء متاح لمن يريد الصياح أنه ليس من بينهم.
...
فبعد استجابة الجيش المصري لتوسلات أولئك العلمانيين المصريين، وتنفيذه الانقلاب، وبعد اقتراف الجيش المصري وقوات الأمن مذبحة رابعة العدوية وتقتيل الإسلاميين المعتصمين، مما كان هلل له عديمو الأخلاق من علمانيي السودان، ألحق عبد الفتاح السيسي بأولئك العلمانيين المصريين، من أهل اليسار و"الديمقراطية"، شر العذاب، ونكل بهم تنكيلا، مما كان جزاء استحقوه بجدارة، لا يلومون إلا أنفسهم، كعلمانيين انتهازيين متعجلين كسالى.


(3)
لن يكون السيسي السوداني، الفريق أول ركن عوض محمد أحمد بن عوف، نائب أول رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، إلا ما هو السيسي الأصل، بفارق إسلامية السيسي المقلِّد.
وفي جميع الأحوال، شهدنا كيف خلع زعيم الإسلاميين المكلَّف، عمر البشير، جلابيته وعمامته وعباءته، وهي كانت القشب الأولانية المقترحة من ثلة المثقفين الإسلاميين المعروفة، للتمويه والكاموفلاج، لإخفاء طبيعة الحدث، الانقلاب العسكري الإسلامي، ثم شهدنا كيف بعد ذلك ارتدى عمر البشير بزته العسكرية، وظهر يتصنع صرة الوَش، للتعويض عما في دواخله من الفزع والخوَر.
وكذا شهدنا مجموعة الجنرالات المقبوحين، الملطخة أيديهم، جميعهم بدون فرز، بدماء المدنيين السودانيين، ضحايا الجرائم العالمية، التي كانت هذه العصابة العسكرية شاركت في التخطيط لها، وتنفيذها، وتغطيتها، جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، ومفظعات التطهير العرقي والتعذيب، في دارفور، ومنطقة النوبة، وقبلها في جنوب السودان.
ولا ننس الجرائم العالمية عبر الحدود الدولية، ضد شعب اليمن الصديق، المقترفة بمشاركة قيادات الجيش المليشيا الإسلامية، في دور المرتزقة المُكاتَبين بالمال السعودي.


(4)
فهذه هي، أمامنا، مجموعة العسكر الإسلاميين الحاكمة، برئيسها الحاضر، وبما سنلاقيه تباعا، من أذنابها، ومن فروعها، دائما بمادية العسكر والإسلاميين المعروفة لدينا، على مدى ستين عاما ويزيد، مادية الإجرام والاستبداد والخداع، المركوزة في الوقائع الثابتة في الأرشيف.
وكذا ينتهي الفرق بين الإسلامي المدني والعسكري، فهما سيان، في كيان موحد، تجمعهم "الإسلامية"، بشرها، ويجمع بينهم هذا الانقلاب العسكري الإسلامي الثاني.


(5)
فليعترف المثقفون الديمقراطيون واليساريون والعلمانيون، المحددون بأسمائهم وبهوياتهم وبعناوينهم، الذين كانوا فلقوا رؤوسنا بدعوتهم إلى انحياز الجيش وتدخله، فليعترفوا الآن بملكيتهم هذا الشطن الإسلامي الجديد، لكنه المجدَّد، وليعترفوا بدورهم، كدعاة انحياز الجيش وتدخله، في تهيئة مناخ عام، وتخليق هيئات عقلية، داخل الجيش، وفي المجال العام، حتى بين بعض الشباب، لتسويغ ذلك تدخل الجيش في الأمر السياسي السوداني.


(6)
وليعترف هؤلاء المثقفون، المحسوبون على العلمانية، بينما العلمانية محورها التفكير المتعمق، والأخلاقية، لا المنفعية، بملكيتهم هذي مراسيم الطوارئ، والتوجيهات العسكرية، وتعليق ما تبقى من وعد ألهبته عبقرية ثورة الشباب، بشأن الحريات.
وها هي الثلة العسكرية اللئيمة الماكرة تستدعي ذات أولئك دعاة الانحياز والتدخل، من العلمانيين عديمي القدرة على التفكير، أن تعالوا للحوار، لكن الآن تحت الجزمة العسكرية، في قطعيتها لا ترقى إلى مقامية النعل من صنعة حذَّاء.


(7)


فلماذا يتباكى هؤلاء العلمانيون دعاة انحياز الجيش؟
هل كانوا يتوقعون أن مطلبهم قبل أيام قليلة، "انحياز الجيش"، سيأتيهم في رسالة حب بالواتساب؟
أم كانوا يظنون أن "الانحياز" يقتصر معناه على مجرد تعبيرات في مفردات خاوية، تأتيهم من طرف الجيش، عن النوايا العسكرية الطيبة، وعن فهم العسكر مطالب الشباب، وعن رؤية الجيش للتغيير السياسي؟


(8)
وللتمثيل لهؤلاء دعاة تدخل الجيش في السياسي، من المثقفين العلمانيين/الديمقراطيين/اليساريين، وهم كثر في خيبتهم، أحدد ثلاثة، الحاج وراق، ياسر عرمان، وقيادة تجمع المهنيين، حتى لا يزوغ هؤلاء الثلاثة، لأنهم كانوا الأكثر ضجيجا في ولعهم بالعسكر، وحتى لا يلتبس الأمر بشأنهم في فوضى التفكير لدى كثير المصطفين دعاة تدخل الجيش.


(9)
على المستوى الظاهري، يبدو أن الذي يجمع بين شتات دعاة تدخل الجيش، من المحسوبين على العلمانية، هو تصديقهم "خرافة الجيش السوداني"، التي أنتجها ذاتهم هؤلاء الدعاة، بأنفسهم، ثم صدقوا خرافتهم، ومن بعد، نسجوا منها روايات عددا، تجد بعضها منثورا تم تخليقه تخليقا، من العدم، في التسجيل الصوتي للحاج وراق، وفي خطاب ياسر عرمان.
وبدون حياء، حوَّلت قيادة تجمع المهنيين هذه الخرافة مثيرة السقم إلى هتاف ممعن في البذاء، "جيش واحد شعب واحد"، فرضته قيادة التجمع على الشباب في مظاهرة أم درمان، فالتقطه منها عملاء جهاز الأمن المندسون بين المتظاهرين، وحتى لوري الجيش، وفيه شباب مدنيون مع عساكر يهتفون، كان خدعة إسلامية. وحسنا فعل الشباب المقاومون الذين أدركوا هرائية الهتاف ونبذوه.


(10)
لكن، وعلى المستوى الأعمق، فإن الذي يجمع، حقيقة، بين العلمانيين دعاة تدخل الجيش مصدقي الخرافة، هو استحواذ أدمغة هؤلاء الدعاة بذكورية عسكرية مفترضة، يراها الدعاة مُجَسْدَنة في رجال الجيش الأشداء، القادرين، في تصورات هؤلاء مسخ العلمانية، على حسم النزاع السياسي الدائر، حسمه بالقوة العسكرية، لمصلحتهم هم، العلمانيين، دعاة انحياز الجيش وتدخله.
فلكأنهم، هؤلاء العلمانيين المغرورين، الخيارُ الأوحدُ، والمفضلُ، لدى العسكر، بينما لدى العسكر طلابُ انحيازٍ أشكالٌ وألوانٌ، من المحلي إلى الأجنبي، ومنهم من هو مستعد للبذل، مليارات الدولارات رشاوى لكبار الضباط المفروشين للبيع، وكله عند الإسلاميين مفروش للبيع، خاصة القوات النظامية، المخصخصة بالكامل.
وفي نهاية الأمر، ليس هؤلاء العسكر في الجيش، اليوم، إلا المليشيا الإسلامية، ومن ثم لا يمكن أن يكونوا إلا كما هو معروف عنهم، بإسلاميتهم أو بدونها، وهو عداؤهم للشعب السوداني. والأرشيف حاضر، بوقائعه الدامغة، منذ بدايات استقلال السودان.
فللنظر، بتفصيل أوفى، في خطاب العلمانيين دعاة انحياز الجيش وتدخله، وفي مسارات تفكيرهم، وواضح القصد مما قد يبدو تعميما على كل العلمانيين، والاستثناء دائما متاح:


أولا، ياسر عرمان
(1)
لم يعد ياسر عرمان سياسيا مهما، ليس بسبب تجريده من كل سلاح، وقد كان تجريده من كل سلاح أفضل ما حدث له، وإنْ هو لم يفهمه؛ بل لم يعد ياسر سياسيا فاعلا، بسبب إثبات الشباب المدنيين المقاومين فشلَ كامل برنامجه، وعدم جدوى "النضال المسلح" مما يظل ينادي به.


(2)
أما ادعاء ياسر بدعمه الحراك الشعبي، فلا قيمة إضافية تذكر لهذا دعمه المدعى به، وينقضه من أساسه خطاب ياسر المهادن للصادق المهدي، الثابتة جرائمه العالمية، بما فيها الرق والمذابح العرقية وتجويع مواطني جنوب السودان.
وحيث لم يعد من مكان، في مجال ثورة الشباب، لمثل هذي انعدامية الأخلاقية السياسية، عقيدة السياسيين المعارضين المحترفين أهل النظام القديم. وقد تجاوزت ثورة الشباب جميع هؤلاء السياسيين المعارضين المحترفين، مثل ياسر عرمان، واعتمد الشباب القطيعة الفكرية والتنظيمية، مع كل الكيانات القديمة، بما فيها الحركات المسلحة.


(3)
وبالدرجة الأولى، لم يعد من قيمة لهموم ياسر عرمان أو مُزازاته وراء سرابيات المجتمع الدولي، بعد أن ظهرت جموع السودانيين في المهجر، كالقوة/المعرِفة المدنية الشعبية، الموزعة عبر الفضاءات الجغرافية والأسفيرية، وغير الخاضعة لاحتيال كيانات المجتمع الدولي، من أمبيكي، إلى الترويكا، إلى الاتحاد الأوربي، إلى مجلس الأمن.
فثورة الشباب لا تحتاج هذا المجتمع الدولي، بتركيبته الراهنة، وأجندته الوحشية، وبعدم أخلاقيته، بل أصبح هذا المجتمع الدولي خصما لثورة الشباب، عبر الدول العميلة في مصر والسعودية والإمارات وقطر، وعبر عملائه في الاتحاد الأفريقي، اتحاد حكام أفريقيا الطغاة الفاسدين، وكذا عبر عمالة الإسلاميين أنفسهم، بل مباشرة عبر دعم الاتحاد الأوربي مليشيات حميدتي الإجرامية، التي تسوم المهاجرين الشباب من الجنسيات الأفريقية المختلفة صنوف العذاب، وليست حركة الشباب السودانية معزولة عن هموم الشباب المهاجرين، من كل الجنسيات.


(4)
منذ الأيام الأولى للهبة الشبابية، وبتاريخ 25/12/2018، بدأ ياسر عرمان يصدر البيانات والأقوال يتوسل فيها إلى الجيش أن ينفذ انقلابا عسكريا، ضد عمر البشير.
لم يفهم ياسر عرمان، مثله مثل بقية العلمانيين المنادين بتدخل الجيش، أن المؤسسة العسكرية هي أهم كيانات نظام الإنقاذ/الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، وهي ليست خارج النظام وليست مستقلة عنه، وهي أصلا مؤسسة إسلامية، وتمت خصخصتها بالكامل قصد ضمان حماية مكاسب الحركة الإسلامية في السودان، وهي مكاسب مالية واقتصادية ورمزية.
بينما الإسلاميون يفهمون جيدا هذه الحقيقة البسيطة، أن الجيش مليشيا إسلامية، لكنهم بالطبع يدلسون عليها، قصد خدع الغافلين والمغفلين.


(5)
خلص ياسر عرمان، من تحليلِه الوضعَ الراهنَ، مباشرة بعد ظهور الشباب في الشوارع في شهر ديسمبر، إلى أن "الجيش" لا محالة سيتدخل ليُمسك بمقاليد الأمور (بيان ياسر في صفحته في سودانايل 25 ديسمبر).
وقد ثبت فعلا ما توقعه ياسر، ليس بسبب ذكاء سياسي قد يدعيه، وإنما بسبب قرار الإسلاميين تنفيذ انقلاب عسكري من نوع لم يكن ليخطر بذهن ياسر عرمان، وذهنه مشوش بسبب غشاوة خرافة الجيش التي يعتمدها ويروج لها.
فالذي كان استحق أن نتوقف عنده، في ذلك الوقت، هو ادعاء ياسر عرمان، بغير أساس، أنه "عند لحظة حاسمة، لابد أن ينحاز الجيش لإحداث التغيير"، وهو لم يقصد، عندئذ، إلا التغيير لصالحه أو صالح معسكره، ولم يفكر قط في أن الجيش سيتدخل لصالح قبيلته.
فها قد جاءت اللحظة الحاسمة، بعد شهرين من ترحيب ياسر عرمان بأي تدخل للجيش، لكن بغير ما كان أراده ياسر عرمان، فقد كانت اللحظة الحاسمة هي إدراك الإسلاميين، والجيش كالمليشيا الإسلامية، التهديد الوجودي لدولتهم الإجرامية الفاسدة، التهديد يأتيهم من الشباب المخيفين، فتدخل الجيش، منحازا إلى مجموعته العرقية-الطبقية، مجموعة الإسلاميين، مما كان أمرا طبيعيا.


(6)
نلاحظ أن اللغةَ كانت استعصت على ياسر عرمان، عند كتابته ذلك بيانه، المنشور أيضا في سودانايل 25/12/2018.
ولأن اللغة تُلَغْوِنُ (هايديجر)، أي إنها تتحدث أصالة عن نفسها، فهي بيَّنت لياسر عرمان، حتى قبل شهرين، وعلى لسانه، أن فكرته الغريبة، وتوقعاته غير المنطقية، وغير المسنودة بدليل من التاريخ أو من الحجة أو من سداد التفكير، لم تكن أصلا ذات قابلية لأن تَنْكَتِب، أي هي كانت فكرة مستعصية، بسبب خطلها الذاتي، على الكتابة الصادقة، فاختار لها ياسر الكتابة الاحتيالية، التي لا مفر منها، حين يريد الكاتب غصب اللغة لتعبر عما هو غير صحيح وغير حقيقي.
في ذات خطابه في ديسمبر 25/2018، واصل ياسر عرمان تلك الكتابة غير الصادقة، وأضاف إلى فكرته المتهافتة بعض "حركات"، منها تَخريجة ابتدعها ياسر لتسويغ رغبته التحتانية الجامحة في أن يتدخل الجيش، وياسر مغرم بالجيوش.
عندئذ، كتب ياسر، لتبرير ما كان واضحا تهافته، أن "الوجود الفاعل والكثيف للجماهير"، عند "تدخل الجيش وانحيازه لإحداث التغيير"، سيعين الجيش ليمضي في ذلك انحيازه وإحداثه التغيير! وهي لغته في ذلك بيانه بتاريخ 25 ديسمبر 2018.
لكن لم تكن من صحة موضوعية لأي من ادعاءات ياسر أن الجماهير كانت ستكون قادرة على ضمان أن الجيش، المسحور به ياسر، سيكون منحازا لهذه الجماهير، لتحقيق ما أسماه ياسر حلم التغيير المنشود، هكذا، بعد أن يقبض هذا الجيش، المجرد عند ياسر من كل تاريخية سياسية، ومن إجرام، على ما يسمى "السلطة"، لصالح معسكر ياسر عرمان.


(7)
وفعلا، قبض الجيش على "السلطة". ووجد ياسر عرمان نفسه يسف التراب سفا، مثله مثل غيره من المثقفين اليساريين المنادين بانحياز الجيش وتدخله.
ولأن ياسر عرمان يعتمد السياسة لعبة غير أخلاقية، يتقلب فيها السياسي كيفما يشاء دون مبدئية ودون اكتراث لما هو خارج الذات، فهو قرر ألا يعترف بخطل ذلك قراره دعوة الجيش إلى التدخل، وألا يعترف بخطل تقديره وفيه وعده أن الجيش بل سيتدخل "لصالح الجماهير"، بينما الجيش، نكرر دائما، لم يكن إلا تلك المليشيا الإسلامية، وهي لم تكن لَتنحاز، أو لَتتدخل، إلا لصالح المجموعة العرقية الدينية، مجموعة الإسلاميين.


(8)
بعد هذا الانفضاح المدوي لضعف التفكير والتقدير، قرر ياسر عرمان نسجَ تحليلٍ مراوغٍ أدخل في الكذب، لتفسير معنى هذا الانقلاب العسكري. أدخل في الكذب، لأن ياسر يعرف حقيقة هذا الانقلاب العسكري، ومع ذلك قصد إلى الالتفاف حولها، بالمراوغة، ومن ثم تثبيت ما هو مدرك أنه محض خداع.
وفي ذلك تحليله، أنشأ ياسر منظومة متكاملة منسوجة بالغش، لتحل محل الحقيقة المعروفة لديه، وهي الحقيقة تصرخ تقول لياسر إنْ هذا إلا انقلابٌ عسكري إسلاميٌ، لصالح جميع فصائل الإسلاميين، وضد شباب الثورة، وهو ليس انقلابا ضد أي من السياسيين المعارضين المحترفين، لأن النظام القديم كان أصلا عارف ليهم، وعارف كيف يجيبهم، في اللفة، للحوار، تحت الجزمة، كما كان الحوار في الخرطوم أو في أديس أبابا.


(9)
تلك كانت منظومة الاحتيال بالكتابة، في المقال الذي كتبه ياسر عرمان، بعد الانقلاب العسكري الإسلامي مباشرة، في سودانايل، بعنوان (خطاب البشير محاولة شراء الوقت من الجميع .. الطوارئ في مواجهة الثورة، والجيش في مواجهة الإسلاميين .. المؤتمر الوطني في خبر كان).
فلا نتحدث هنا عن أخطاء في الكتابة غير مقصودة بسبب سوء التقدير أو نقص المعلومات، بل عن الكتابة العارفة القاصدة، تتحدث عن نفسها، وتفصح عن حقيقة الاحتيال المنسوج فيها، رغم أنف كاتبها.
والجواب من عنوانُو، فقد اختزل ياسر الأمرَ الخطير، أمر الانقلاب العسكري الإسلامي الثاني، في نص "خطاب البشير"؛ ثم قدم تحليلا باهتا مشحونا بمُقحَماتٍ لا يصدقها ياسر، وحدد، بالغش، ما اعتمدهم بأنهم المستهدفون بإعلان حالة الطوارئ:
الجيش؛ بينما الجيش، يا ياسر، هو صاحب الانقلاب، ومنفذه، وحاميه، وهو الذي يقول لك الآن، بالواضح: تعال للحوار، تحت الجزمة!
الإسلاميون؛ بينما الإسلاميون إنما هم سعداء أيما سعادة، بهذا الانقلاب العسكري، الثاني، وقد تحقق حلمهم في الجيش، المليشيا الإسلامية التي كانوا أنشأوها ورعوها، وها هي تدخلت قصد إنقاذهم من ثورة الشباب، ومن المحاكمات، ومن التجريد من الأرصدة والممتلكات المنهوبة؛
والآن ستمنع هذه المليشيا الإسلامية كل محاولة للمساس بأهم مكاسب الإسلاميين، "الدولة الإسلامية العميقة"، وفي هذه الدولة العميقة تهيمن عضوية الحركة الإسلامية في جميع المؤسسات الحكومية وغير الحكومية؛
المؤتمر الوطني؛ وهو ليس إلا من عضوية الحركة الإسلامية ومن أعوانها المذعورين، لم يصدق أي منهم، من قبل، أن الله موجود، وفي صَفهم، وها هو البيان جاءهم في هيئة المليشيا الإسلامية الرائعة، "الله في!"
وقد تحدث الأستاذ محمد الحسن الأمين عن المؤتمر الوطني، ودافع بقوة الكذب الإسلامي عن الانقلاب العسكري؛
المجتمع الإقليمي والدولي؛ وهما كيان موحد لا أهمية له في المنعطف الراهن، غير قدرتهم على الخداع ودعم نظام الإنقاذ. ويبدو جليا أن ياسر عرمان يعيش الحسرة على غيبة المحتال الأفريقي أمبيكي، عميل الإسلاميين، وصنعة الاتحاد الأفريقي، دائما اتحاد حكام أفريقيا الطغاة الفاسدين المجرمين، كله ثابت بوقائعه في الأرشيف.
• انتخاب البشير، وهو المستهدف الأخير في قائمة ياسر لم يكترث له أحد أصلا.


(10)
فخلاصة الأمر هي أن اعتماد ياسر عرمان عقيدة الانقلابات العسكرية، ودعم هذه العقيدة بالترويج لخرافة الجيش، وبنسجه الروايات غير القابلة للتصديق، كله يبين هوية ياسر عرمان وماهيته، كالسياسي المحترف المشغول بالسياسة كلعبة قذرة، لعبة ليس فيها مكان للأخلاق أو المبدئية، أو الحقيقة.
وما لجوء ياسر عرمان إلى المراوغة، في الكتابة الاحتيالية، إلا لكي يمرر علينا ما هو تَصَنَّعه أن تقديراته الأولية كانت صحيحة، وهو مدرك أنها تقديرات مسكونة بالخطأ وبالخطل.
ينحصر تفكير ياسر عرمان، مثله مثل الدعاة الآخرين، بشأن تدخل الجيش، في المنفعية والغائية، على المدى القصير، مما هو أصلا تفكير غير أخلاقي، فيه الضيق والضجر بالتحليل السديد، وفيه طرد مقتضيات التفكر والتأمل، وهو من نوع الهرولة المتسارعة إلى استبدال ما هو محض خرافة عن "الجيش"، بما هو واضح وضوح الشمس، أن الجيش السوداني ليس إلا تلك المليشيا الإسلامية، ذاتها التي اقترفت الجرائم ضد الإنسانية، وجريمة الإبادة الجماعية، وجرائم الحرب، وشتى المفظعات الجماعية والفردية (جنوب السودان، دارفور، منطقة النوبة، واليمن).


(11)
فعند ياسر عرمان، كل المواقف غير الأخلاقية مقبولة، ما دامت هذه المواقف تحقق أغراضه السياسية، وحتى هذي أغراضه السياسية تظل متناقضة وغير مفهومة، من مبهمات الأحلام بالعودة إلى العسكرية، وإلى ما يسمى النضال المسلح، و"الجيش الوطني"، وبقية الكلامات الخاملة.
فهذي أفكار ياسر، بشأن الجيش، والنضال المسلح، والتغيير، لم تعد تجد إلا أذنا واحدة من أذنين، أذنا فاردة لدى الصادق المهدي، مكافأةً من الصادق لياسر عرمان على قبوله أداء دور ضابط العلاقات العامة، مهمته تزيين صورة الإمام، بمثل خدعة أن الصادق المهدي "جزء من النسيج الاجتماعي السوداني"، فيتعين قبوله في صفوف المعارضة.
أقول لياسر، وماذا عن قادة الإسلاميين المجرمين الفاسدين المحتالين، جميعهم، أليسوا مثل الصادق كذلك من ذات هذا النسيج الاجتماعي السوداني اللعين؟
والثابت هو لزوم اعتماد معيار الأخلاقية، عند اتخاذ القرارات الصعبة.


ثانيا، الحاج وراق
(1)
طلع علينا الحاج وراق في الأول من فبراير 2019، قبل أيام قليلة من الانقلاب العسكري الإسلامي، ببيان مسجل صوتيا، توسَّل فيه الحاج وراق إلى الجيش أن يتدخل، وطالب الحاج وراق اليساريين والعلمانيين والديمقراطيين أن يقبلوا تدخل الجيش، وأن يطرحوا جانبا ما اسماه هو "الأوهام" التي يعتمدونها عن الجيش، في تصوره.
https://www.youtube.com/watch?v=Mymj3ZL_1SA


(2)
قال الحاج وراق، يتفلسف، قصد إقناع نفسه، إن ضباط الجيش والجنود "في النهاية، هم بشر، وعندهم أهواء ومصالح ومشاعر، وما دام هم بشر، في لحظة ما، يمكن يتخذوا موقف غير الموقف المطلوب منهم من النظام".
تلك كانت أماني الحاج وراق، أن يتدخل ضباط الجيش والجنود لصالح موقف سياسي يخالف مصلحة نظام الإنقاذ؛ أي، أن يتدخل الجيش لصالح الموقف الذي يعتمده الحاج وراق!


(3)
اِستخدمَ الحاج وراق لغة الفيلسوف الألماني كارل شميت عن حتمية الصراع بين الطرفين المتناقضين، هنا العلمانيين والإسلاميين، وعن لزوم التمييز بين "العدو والصديق"، وسأل الحاج وراق ناس الجيش:
"من هو العدو؟ أهو الشعب أم مجموعة الخمسين [قادة الإسلاميين]؟"
ثم عزز الحاج وراق سؤاله إلى قيادة وضباط وجنود الجيش، وفصَّله على النحو التالي:
"مُش جا الوقت المناسب، بحيث إنو الجيش يتخذ موقف، لصالح شعبو، ضد مجموعة اللصوص [الإسلاميين] دِيَّة؟"
باختصار، يعني أعملوا انقلاب عسكري!


(4)
يعرف الحاج وراق، الآن، أن الجيش رد مباشرة، وبصورة حاسمة، على سؤاله، ومطلبه، وعلى حذلقته بالتفلسف.
رد الجيشُ على الحاج وراق، بأن انحاز هذا الجيشُ، بطريقته، وتدخل بانقلاب عسكري، انقلابٍ فيه دحض نهائي لكافة أشكال المحاجة بالمغالطة والتمنيات والأوهام، مما كان سجله الحاج وراق، صوتيا، مع صورته الفوتوغرافية، في اليوتيوب، بعنوان "رسالة إلى القوات المسلحة السودانية، الحاج وراق، سياسي وكاتب".


ثالثا، قيادة تجمع المهنيين
(1)
عندي، يظل تجمع المهنيين السودانيين؛ حتى بعد هذا المقال، هو الكيان الممثِّل لثورة الشباب، لكنه المتعين عليه إجراء تغيير في القيادة ومكوناتها، لضم ممثلين للشباب غير المهنيين.
وذلك بصرف النظر عن انتقادي قيادة التجمع، أو اقتراحي للشباب تنحية الطبيب محمد ناجي الأصم والأستاذ الجامعي د. محمد يوسف محمد.
ليس عندي، لتبرير موقفي من قيادة التجمع الحالية، غير ما تفرضه الكتابة الصادقة، في مسار كتابتها، وهي تركب إنشاءها متماسكا بالصدقية وبالأمانة، ومركوزا على ما يتوفر من وقائع حاكمة، والتزوير هنا أعتمده واقعة حاكمة.
وبسبب خطورة الموقف السياسي، يجب ألا نخاف من القفزة الاستدلالية، وهي بناء مستخلصات بالرغم من غياب كامل الأدلة والبينات، وعندما تكون القفزة سائغة، وهي ليست بالطبع قفزة مجانية، بل لها أسبابها، في سياق محدد بوقائعه الحاكمة، وبالأخلاقية.
ولأن القفزة الاستدلالية ذات قابلية للدحض، يجب أن نذكر أنه لا يمكن دحضها إلا بتناولها في تفاصيلها وفي منطقيتها، والرد الصريح عليها، وإلا ثبتت.
فأنطلق من أهمية الأخلاقية في الكتابة، أن أكتب فقط ما أعتقد أنه صحيح في ذاته، غير مكترث إلى ما إذا كانت النتيجة الخارجية على الكتابة ستكون جيدة أم سيئة، على المدى القصير، والصحيح يحمل قوته وديمومته على المدى البعيد.


(2)
بعد بيان ياسر عرمان في ديسمبر 25/2018، بأيام قليلة، بدأ تجمع المهنيين السودانيين يمهد لتسويغ فكرة تدخل الجيش منحازا إلى الجماهير، وجاء التمهيد في "إعلان التحرير والتغيير" الذي نشرته، مزوَّرا في جزء محوري فيه، قيادةُ التجمع.
فلنتذكر هنا أن الطبيب محمد ناجي الأصم قيل إنه "تم اعتقاله"، وكان القول جاء في بداية شهر يناير 2019، بعد قليل من تقديمي الإثبات أن محمد ناجي الاصم زوَّر إعلان الحرية والتغيير، وبعد أن تحديته، كتابةً قرأها قبل "اعتقاله"، أن يرد، بصورة شافية، بشأن أية لا علاقة له بالإسلاميين، أو بجهاز الأمن.
وكان التزوير ثابتا، بدليله، فلا يمكن إنكار حدوثه.


(3)
ولنتذكر أن ما زوره محمد ناجي الأصم كان حذفه من إعلان التحرير والتغيير، في الفيديو، عبارة "أولا، التنحي الفوري لعمر البشير".
وواضح الآن، أن ذلك التزوير، غير المفهوم تماما في حينه، في بداية يناير 2019، وهي كانت بداية التخطيط لهذا الانقلاب العسكري الإسلامي، لابد كان جاء ليكون متسقا مع ذات ما نراه اليوم، وهو قيادة عمر البشير للانقلاب، وكذا اليوم نرى التزوير متسقا مع التصريحات عن فتح أبواب الحوار مع الشباب وتجمع المهنيين، حيث لابد سيكون الطبيب محمد ناجي الأصم حاضرا، ليمثل التجمع والشباب.


(4)
ومما يدعم إثارة الشكوك، المشروعة، عن الطبيب محمد ناجي الأصم، المقال في سودانايل الذي كتبه الإسلامي د. عبد الله علي إبراهيم، من العدم، بدون أية مناسبة، بتاريخ 10 فبراير 2019، حين صعَّد المثقفون الإسلاميون حركتهم، بالكتابة الاحتيالية، أيضا لابد في سياق الإعداد لذات هذا الانقلاب العسكري الإسلامي الثاني.
وجاء مقال عبد الله بعنوان: "وا حلاتي دا ما الأصم: دعوا الرصانة ترفرف فوق سماء الوطن".
والترجمة هي: أليس هذا هو محمد ناجي الأصم، الرصين، .....؟ ويمضي المقال في التهيئة إلى أن محمد ناجي الأصم مؤهل تماما لقيادة "الشباب"، بالإضافة إلى قيادة تجمع المهنيين التي عرفناه في سكرتاريتها.

(5)
قال عبد الله إنه راجع "النِّتْ"، بعد أن نبهه الأستاذ عبد العزير حسن الصاوي، إلى "كتابات للدكتور محمد ناجي الأصم، العضو القيادي بتجمع المهنيين، حبيس جهاز الأمن القومي، منذ الرابع من يناير الجاري. وتتواتر الأخبار بأنه يخضع لتعذيب أشفق الناس على حياته".
علما أن الصاوي أحد المثقفين المقبولين لدى مجموعة المثقفين الإسلاميين، ويرد اسمه كثيرا لدى الأفندي، وشارك في ندوة الدوحة.
والبقية من النسج الاحتيالي لتلميع الأصم موجودة في مقال عبد الله، من مصدره في مقالين وحيدين لمحمد ناجي الأصم، منشورين في صحيفتين، النيلين، وهي جريدة جهاز الأمن، وسودانيزأونلاين، غير المعروف أمرها.
كتب عبد الله:
"راجعت النت، ووجدت كتابات للأصم عن التغيير تامة النضج. وطمأنتني على فكرة ... أن ... مثل الحراك الاستثنائي، الذي يؤجج بلادنا، إما أنتج قادته، وأما أنه بسبيل إنتاجهم.
ولم يصدُق قولي عندي، إلا حين ... قرأت للأصم. ورأيت رصانة تأسرني في الشباب، وحسا بالقيادة شفيفا ورحبا".


(6)
كنت كتبت عن ظاهرة الجزوليدفعلية، وموضوعها انتهازية واحتيال الطبيب الإسلامي الجزولي دفع الله، الذي تسلق إلى رئاسة وزراء حكومة الانتفاضة 1985، بعد أن كان أخفى عضويته في تنظيم الإخوان المسلمين، ومن بعد أنكر عضويته في الجبهة الإسلامية.
ومن ثم كنت أقصد أن الطبيب محمد ناجي الأصم قد يكون من معسكر الإسلاميين، مثله مثل الجزولي دفع الله.
(7)


فرد رد عليَّ د. عبد الوهاب الأفندي، وكان يدافع عن محمد ناجي الأصم، دون أن يذكر اسمه أو اسمي، في مقاله (البشير يريد إسقاط النظام)، بتاريخ 5 فبراير 2019، وهو المقال في تاريخه الذي يسجل، وفق متابعتي وقراءتي اللصيقة خطاب الإسلاميين، الشروع في الإعداد الفعلي للتهيئة لتنفيذ الانقلاب العسكري، المتفق عليه بين الإسلاميين.
هذا ما كان كتبه الأفندي، في تسويغ واضح لتقديم محمد ناجي الأصم، في المستقبل القريب، كممثل ثورة الشباب، يفاوض نيابة عنهم، وليمثلهم في أية تركيبة حكومة تكنوقراط يفرضها الجنرالات قادة الانقلاب العسكري الإسلامي:
كتب الأفندي:
(ويمكن أن تضطلع شخصياتٌ ذات جذور نقابية [اقرأ الأصم]، وحتى عسكرية، بدور انتقالي مشروط، ولكن لا الجيش ولا النقابة هما أداة حكم ديمقراطي.
(وعليه من السذاجة استغراب [اقرأ، استغراب عشاري في سذاجته] غَلَبة توجهات النقابيين [اقرأ، ناجي-الجزولي] السياسية، لدى انخراطهم في الحكم الانتقالي، فالحكم شأن سياسي، لا نقابي، والخيارات التي تتخذ فيه خيارات سياسية.
(وقد وقع الشيء نفسه في ثورة أكتوبر عام 1964، حين انكشف انحياز كل ممثلي النقابات والمنظمات المهنية في حكومة أكتوبر لخيارات الحزب الشيوعي، الذي أصبح له ثمانية وزراء في الحكومة، مقابل ممثل واحد لباقي الأحزاب!)
وهكذا، كان الأفندي يعد لظهور الأصم على حقيقته السياسية، بعد تسلق سلم النقابة إلى الوزارة، مثله مثل السلف، بمن فيهم من الشيوعيين.


(8)
أما د. محمد يوسف محمد، فأعرفه وأثق فيه. لكن الكتابة الأخلاقية تفرض فرضا أن أعرض إلى ما أراه غريبا، بشأن د. محمد يوسف في قيادة التجمع.
فلنتذكر جيدا أنه كان تم "اعتقال" د. محمد يوسف ثلاث مرات على الأقل، وفي كل واحدة من المرتين الأوليين كان د. محمد يوسف، "المعتقل"، يظهر، فجأة، هكذا، من السماء، دون إنذار سابق أنه كان تم إطلاق سراحه، في المرة الثانية أو في المرة الأولى.
فما يتعين تسجيله هنا هو أن مثل هذه الخدع، من قبل قيادة التجمع، لا تليق بمن يتصدى للعمل السياسي العام، بمخاطره المعروفة، خاصة ممن هو في مقامية د. محمد يوسف محمد.


(9)
فيتعين على د. محمد يوسف محمد، الآن، أن يفسر بصورة واضحة، وكافية، ومقنعة، ملابسات اعتقاله مرتين، وإطلاق سراحه في كل منهما، ثم اعتقاله مجددا، ولا نعرف اليوم ما إذا كان يظل معتقلا، كما كان تم نشره، أم تم إطلاق سراحه.
كذلك سيتعين على د. محمد يوسف أن يفسر، الآن، سر تزوير الفيديو، تحديدا تفسير مسح النص "أولا، التنحي الفوري للبشير". خاصة وأن ذلك المسح التزويري يمكن تفسيره، الآن، بطريقة مختلفة، في سياق هذا الانقلاب العسكري الإسلامي، بقيادة ذات عمر البشير، مما كان مفاجأة، خاصة وأن بيان التحرير والتغيير كان زَوَر بالتحديد العبارة "أولا، التنحي الفوري لعمر البشير"، بأن مسحها. فهل كان الطبيب محمد ناجي الأصم على صلة بمجموعة الإسلامية التي كانت، في نهاية ديسمبر 2018، تخطط للانقلاب العسكري، وتناقش دور عمر البشير؟
أي، هل كان مسح عبارة "التنحي الفوري لعمر البشير" بسبب تغيير لدى الإسلاميين بشأن دور عمر البشير، من الدعوة إلى تنحيه، إلى قبوله قائدا للانقلاب العسكري؟
والنصوص المختلفة تتحادث فيما بينها، كل نص يسائل النصوص الأخرى أن تفصح عن حقيقتها، بإزالة التناقضات وأسباب التشكك.


(10)
جاء تمهيد قيادة التجمع لـ "انحياز الجيش" في عبارات فضفاضة متهافتة في ذلك "إعلان التحرير والتغيير"، وهو كان إعلانا هزيلا ذا قابلية أن يقبل التوقيع عليه حتى المؤتمر الوطني ذاته، لأن لغة الإعلان كانت تُبقي على استمرارية الدولة الإسلامية العميقة، كما هي، دون تغيير، وكانت اللغة في الإعلان تُغازل القواتِ النظاميةَ، ذاتها الإجراميةَ الفاسدةَ، معذبة الشعب السوداني، وتناديها باسم الدلع، "إخواننا وأبناءنا"، تعالوا معانا، بس ما تضربونا عليكم الله، ولكأن ثورة الشباب كانت عند تجمع المهنيين لعبة هزلية:
(وندعو إخواننا وأبناءنا، في كافة القوات النظامية، للانحياز إلى جانب الشعب، ومصلحة الوطن والمواطن، وعدم التعرض للمواطنين العزل، بالقتل أو التنكيل، لحماية البشير ونظامه الذي سقط فعلياً أمام إرادة الجماهير الباسلة.)


(11)
يجب أن نقرأ نص "إعلان التحرير والتغيير" في تناصه مع كل نصوص الخطاب الإسلامي، ومع نصوص الممارسة الإسلامية، بشأن الانقلاب العسكري الثاني:


(12)
الآن يمكن أن نقارب بصورة جيدة فهم سبب تزوير محمد ناجي الأصم النص "أولا، التنحي الفوري لعمر البشير"، بقراءة جديدة: أن محمد ناجي الأصم كان تم توجيهه من قبل الإسلاميين بحذف عبارة "أولا، التنحي الفوري لعمر البشير"، في سياق لابد كان تم فيه الاتفاق بين الإسلاميين على قبول عمر البشير رئيسا للانقلاب العسكري.


(13)
والآن يمكن أن نفسر حركات مجموعة المثقفين الإسلاميين، منذ بداية الحراك الشعبي، بما فيها الكتابات الاحتيالية من قبل المثقفين الإسلاميين الخمسة الكبار، التجاني عبد القادر، عبد الوهاب الأفندي، خالد التجاني النور، عبد الله علي إبراهيم، والطيب زين العابدين.
والآن يمكن أن نفسر حتى الظهور المفاجئ لتجمع المهنيين السودانيين وإقحام نفسه في تسيير المظاهرات، مباشرة عندما اتخذت ثورة الشباب منحى لم يكن يتوقعه أحد، في الأسبوع الأخير من ديسمبر 2018.


(14)
ولا يعني ذلك أن تجمع المهنيين كذبة كبرى، وأراه كيانا له أساس في الواقع، إذ لا يمكن اختزاله في الطبيب محمد ناجي الأصم، لكن لابد من الحذر، ومن إجراء تغييرات، أهمها تنحية محمد ناجي الأصم ومحمد يوسف محمد، وكلاهما مفترض أنه "معتقل"؛ وضمان تمثيل الشباب، في عضوية قيادة التجمع، حيث وصول الشباب إلى موقع اتخاذ القرار.
وما لم يحدث هذان التغييران، فورا، يفقد تجمع المهنيين مشروعيته.


(15)
لقد انطوى كامل خطاب تجمع المهنيين، (وندعو إخواننا وأبناءنا، في كافة القوات النظامية، للانحياز إلى جانب الشعب، ...)، على فهمٍ فاسد أَطَّرَ العلاقةَ بين القوات النظامية وتجمع المهنيين، فهمٍ مفاده أن تجمع المهنيين قرر، من وراء ظهر الشباب أصحاب الحدث الثوري، "إعادة تأهيل" القوات النظامية، وفيها الجيش بماضي جرائمه العالمية، وفيها الشرطة الفاسدة، حتى النخاع.
وكذا شملت إعادة التأهيل، من قبل تجمع المهنيين، قوات جهاز الأمن، التي ظل كاملُ برنامجها، على مدى ثلاثين عاما، منذ إنشاء حسن الترابي بيوت الأشباح 1989، متمحوِرا في تعذيب المعارضين، على الطريقة الإسلامية: بالتجسس عليهم، وملاحقتهم، والقبض عليهم، وضربهم، وحبسهم، وتجويعهم، وإهانتهم بالألفاظ البذيئة من قاموس الإسلاميين الخاص، واغتصابهم جنسيا، واستهدافهم بالقتل، بشتى الوسائل، من بينها القسوة المفرطة في التعذيب المفضي إلى الموت، وأخيرا القنص بالبنادق ذات المناظير، والدهس بالسيارات المتحركة.


(16)
مهما تسترت قيادة التجمع وراء الكلمات في إعلان التحرير والتغيير، فلا تعني دعوتها الجيش، أهم كيانات القوات النظامية، إلى "الانحياز"، إلا ما يفهمه الجيش بـ "الانحياز"، من لغة مثل هذه الدعوة.
ومع ذلك، فالجيش لم ينفذ هذا الانقلاب العسكري استجابة لدعوة من التجمع أو من غيره من كيانات المعارضة، بل استجابة لقرار صدر من الحركة الإسلامية السودانية.
لكن همي هنا هو أن ما فهمه الجيش من تلك دعوة تجمع المهنيين، لانحياز الجيش وتدخله، وكذا من دعوات أخرى من قبل علمانيين وديمقراطيين ويساريين، يُحسب سلبا على هؤلاء الدعاة، وهو الفهم الذي يتلخص فيما يلي:
• إن كافة جرائم الجيش، بما فيها الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، والمفظعات المريعة، مثل التطهير العرقي والتعذيب، تم غسلها، وأصبح الجيش، فجأة، عند العلمانيين وتجمع المهنيين، بريئا من كل الدماء، ومن كل استحقاقات الانتصاف والعدالة، للضحايا في قبورهم، أو في معسكرات التشريد، أو في عزلتهم في القرى والمدن؛
• إن عمالة الجيش السوداني، كجيش مرتزقة في خدمة شيوخ الخليج، في حربهم العدوانية ضد شعب اليمن الصديق، أصبحت عمالة مقبولة لدى هؤلاء أهل اليسار؛
• إن فساد المؤسسة العسكرية، واستغراق كبار الضباط في نهب الممتلكات العامة والأراضي والمال العام، واندراجهم في مستنقع العمولات، أصبحت موضوعات لا ينشغل بها هؤلاء أهل اليسار؛
• وحتى هيئات كينونة الجيش، كمؤسسة حزبية، وكمليشيا عرقية-إسلامية تتصرف بعقلية العصبية الدينية، شعارها الله أكبر، ما أخفت الشعار إلا بعد التوجيهات من أمريكا، فهذي طبيعة الجيش السوداني، حياته في ماديتها، كلها أصبحت خارج الإطار الإدراكي لدى قيادة تجمع المهنيين، أو لدى العلمانيين، جميعهم طلاب انحياز الجيش وتدخله في الأمر السياسي.
علما أن الذي يراد للسودان، المختلف، بفعل ثورة الشباب، والمنشأ من أول وجديد، هو ألا يكون فيه مكان للجيش في السلطة التنفيذية العليا، أو في محل القرار السياسي، بل أن يأتمر الجيش لتوجيهات الساسة المنتخبين، ومنها إمكان إصدار قرار بتنفيذ تغييرات في هيكلة الجيش، وفلسفته، وعقيدته، وربما حتى حله، وإنشاء قوات استراتيجية حديثة محله، وإحالة الجنود والضباط، بعد المحاكمات على الجرائم والإفساد، إلى وظائف أخرى في مشروعات الحكومة، وفي مشروعات خاصة.
• ودونك ماضي حكم الجيش خمسين عاما من بين ستين تقريبا، منذ الاستقلال، وهو ماض مصبوغ بالاستبداد، وقلة الأدب، والاستعراض الفارغ.
وبالرغم من كل الوقائع الثابتة أعلاه، نلاقي عدم قدرة دعاة تدخل الجيش في السياسة، هؤلاء العلمانيين والديمقراطيين واليساريين، وتجمع المهنيين، عدم قدرتهم على مجرد الشوف، شوف العين، دع عنك عدم قدرتهم على التفكير أصلا.


(17)
هكذا، بفعل العلمانيين والديمقراطيين واليساريين مصدقي خرافة الجيش، أدرك هذا الجيش، المطلوب انحيازه وتدخله، أن جرائمه العالمية المريعة، وفظيع فساده، وعار عمالته للأجنبي، وتصيره مليشيا حزبية دينية، واستبداده في الأرض السودانية، منذ الاستقلال، أصبحت كلها طي النسيان.
وهو مما قوَّى شكيمة العسكر لتنفيذ انقلابهم الإسلامي، لكن فعل العلمانيين بالطبع لم يسبب الانقلاب، والذي تقع مسؤوليته الكاملة على الإسلاميين.


(18)
والنقطة التي يتعين ألا تغيب عنا هي أن هذا الجيش كان دائما، ويظل، عدوا للشعب السوداني.
وما هذا الانقلاب العسكري الإسلامي، الثاني، إلا الإثبات الإضافي لمشاعر العدوان التي يكنها الجيش ضد الشعب السوداني، ممثَّلا الشعب هنا في الشباب الذين خرجوا في مظاهرات حاشدة، رفضوا بها الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، بما فيها مؤسساتها جميعها، وأهمها مؤسسة الجيش ذاتها، التي لا تختلف في إجرامها أو فسادها أو احتيالها عن بقية مكونات المُركَّب الكلي، كامل نظام الإنقاذ/الحركة الإسلامية السودانية/الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة.
ودونك الإثبات المتمثل في قيادة الانقلاب العسكري الإسلامي، المتفق عليها، منذ نهاية ديسمبر 2018 أو أول يناير 2019، وهي قيادة أوكَلتها الحركة الإسلامية مجددا إلى عمر البشير، قصد توحيد جميع الإسلاميين، وجميعهم كانوا يواجهون خطرا وجوديا من قبل الشباب الثائرين، فوحدتهم كانت ضرورية لكل منهم.


(19)
فالمسألة هنا، عن أن الجيش عدو لشعب السودان، مسألة وقائع، وليست مجرد تقريرات سبقية، أو أقوالا مبنية على أيديولوجيا.
وهذا التقدير، أن الجيش عدو الشعب، تكييف موضوعي، وقانوني، وتقييمي على مستوى الأخلاق، وإلا لم يكن من معنى لأن هذا الجيش هو الكيان الذي اقترف جريمة الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، والمفظعات من كل نوع في السودان، وعبر الحدود الدولية، وهو الجيش الذي يتحمل المسؤولية الكبرى في تدمير السودان، وفي إقامته استبداد الحكم الشمولي وضمانه استمراريته، خلال خمسين عاما من ستين منذ استقلال السودان.


(20)
ما أن أدرك هذا الجيش، المليشيا الإسلامية، أن تجمع المهنيين، وفيه تحالف اليساريين والديمقراطيين والعلمانيين، وبعض السياسيين التقليديين الذين لا وزن لهم، غفر للجيش، كمؤسسة، وكضباط أفراد، إجرامَه وفساده واحتياله، حتى استبطن هذا الجيش فهما سوَّغ له المضي قدما في تنفيذ المخطط الانقلابي المتفق عليه منذ نهاية ديسمبر 2018، وربما قدرت قيادة هذا الجيش أنها ستتمكن من الدفاع عن قرارها بالإشارة إلى دعوات العلمانيين والتجمع وقبائل اليسار إلى الجيش لينحاز وليتدخل في فضاء السياسة، مجددا.
ويظل همي التدمير النهائي لفكرة تدخل الجيش في السياسة.


(21)
كانت طريقة الانحياز والتدخل من قبل الجيش هي الطريقة الوحيدة التي يعرفها الجيش، طريقة الحكم العسكري، بالمراسيم والتوجيهات، والقمع والقهر والعنف المقنن، مما هو الآن بين أيدينا، لا يُلغي حقيقتَه البينةَ بهدلةُ العلمانيين، أو تذاكيهم بالقول إن الطوارئ ليس فيها شيء جديد.
إن استهبال هؤلاء المثقفين اليساريين والديمقراطيين والعلمانيين، استهبالهم بلغة الاحتيال، في رد فعلهم على الانقلاب العسكري الإسلامي، استهبال لا يعرف حدودا.
وأرى أن المثقف الانتهازي، خاصة من معسكر العلمانيين، أكبر التحديات أمام الشباب في ملاقاتهم التفكير في "البداية الجديدة"، لإنشاء السودان من أول وجديد. وكان عنوان مقالي الأول عند بداية الهبة الشبابية هو "لزوم الحذر من المثقفين ...".


(22)
لقد كانت تلك التوسلات للجيش، من العلمانيين الانتهازيين، هي الأكثر أهمية لقيادة الجيش، بالمقارنة مع مطالبة المثقفين الإسلاميين للجيش، وأغلبها سرية، أو هي خداعية بعد فعل الاتفاق بين الإسلاميين على تنفيذ الانقلاب العسكري، المطالبة أن يتدخل الجيش لحسم فوضى الشباب المعارضين المقاوِمين.
فهؤلاء الأخيرون، المثقفون الإسلاميون، هم أصحاب الحق في الجيش المليشيا الإسلامية، بينما لم يكن أهل اليسار عند الجيش إلا ناس قريعتي راحت، ولا قيمة لهم عند الجيش، المليشيا الإسلامية، إلا بمقدار غبائهم في دعمهم "خرافة الجيش"، وترويجهم شعار "جيش واحد شعب واحد".


(23)
فلنقبل أنه ما جعلَ قيادةَ الجيش تُنفذ الانقلاب العسكري الإسلامي، في معية الإسلاميين، وأن تقبل بعمر البشير رئيسا للانقلاب، رغم سقوطه إلى الحضيص، إلا التفافُ جميع الإسلاميين، بمن فيهم المثقفين، حول فكرة "الانقلاب العسكري الإسلامي الثاني"، هذه المرة لإنقاذ السودان من "الفوضى"، وحيث لم يكن للإسلاميين من مخرج غير هذا الانقلاب العسكري.
ولا يهم كثيرا إنْ كان عمر البشير، كقائد الانقلاب، دلدولا، أم هو كان فاوض الإسلاميين المتآمرين بالحجة والتهديد أو بالابتزاز، ومن ثم كسِب موقعه قائدا للانقلاب المتفق عليه لدى الإسلاميين جميعهم، وهو أفضل السيناريوهات لجميع الإسلاميين، بسبب أن عمر البشير لديه بطانته، بما في ذلك في الجيش نفسه.


(24)
وكل ما عداه، من نوع انتقاد بعض الإسلاميين، مثل غازي صلاح الدين، أو الطيب زين العابدين، لحالة الطوارئ، أو لعمر البشير قائدا للانقلاب، لا قيمة له، وكله خداع إسلاميين، وجميع الإسلاميين، أكرر، متحدون خلف الانقلاب، على أقل تقدير، لأنه يعطيهم مساحة للتفكير في الخطوات القادمة، قصد حماية أنفسهم من كل محاكمة على جرائمهم الثابتة، ومن كل تجريد من الأرصدة والممتلكات المنهوبة، وقصد ضمان استمرارية الدولة الإسلامية العميقة باقية في المؤسسات الحكومية والخاصة.


(25)
فلأغراض الخداع، قبل أيام قليلة، أوكل الإسلاميون إلى د. الطيب زين العابدين الدعوة المرائية للجيش أن ينحاز، وأن يتدخل، بينما كان د. الطيب على علم تام أن قرار تنفيذ الانقلاب العسكري كان أصلا تم الاتفاق عليه بين الإسلاميين والجيش منذ نهاية ذلك ديسمبر 2018.
فلنسجل أن د. الطيب زين العابدين كتب مطالبة التدخل بالواضح في مقاله في سودانايل يوم 16 فبراير 2019، بعنوان ماكر قصد به الطيب عدة معان، كيدا في العلمانيين وهم كانوا المقصودين بالعنوان: "النُصح بمُنعرج اللّوى لعلهم يستبينوه ضحى الغد"، على النحو التالي:
(يتوجب عليه [الجيش]، حينئذٍ، أن يتدخَّلَ، لإزاحة هذا النظام، الذي استلم السلطة بانقلاب عسكري، واستدامها بالبطش والاستبداد ونهب الأموال. وذلك حماية لأمن المجتمع السوداني، من انتشار الفوضى والعنف، اللذان يمثلان خطراً حقيقيا على البلاد، كما حدث في بلاد أخر [جميع الشولات مضافة].)
نعرف الآن أن د. الطيب كان يخادع، وكانت كتابته أعلاه غير موجهة للجيش، فالجيش كان على علم، وكان دور د. الطيب تهيئة الرأي العام لتدخل الجيش، وهو التدخل الذي كان معروفا سبقا لمجموعة المثقفين الإسلاميين، وأيضا كان الطيب يريد الخداع والتلهية عن وشوك وقوع الانقلاب العسكري ذاته، بالإضافة إلى النكاية في العلمانيين الغافلين.
لهذا السبب كانت حجج الطيب في تبرير طلبه تدخل الجيش ضعيفة للغاية، مما اسميته استهباله واحتياله في المحاجة. حيث لم يكن الطيب يقول الحقيقة، بل كان أصلا يقصد الاستهبال على الشعب السوداني، موضوع عداء الإسلاميين.


(26)
كذلك كان قادة وضباط الجيش يعرفون بصورة جيدة وعميقة أن الطيب زين العابدين حادب على حماية الدولة الإسلامية المهددة من قبل ثورة الشباب، وحادب على حماية المؤسسة العسكرية، أهم مكونات الدولة الإسلامية العميقة.
لكن لم تكن هناك عرفة أعمق، لدى قيادة الجيش وضباطه، من معرفتهم بانتهازية المثقفين العلمانيين المنادين بانحياز الجيش وتدخله.
إذ تعتقد قيادة الجيش، وضباطه الإسلاميون، من التجارب السابقة، أن بعض هؤلاء المثقفين العلمانيين سينبطحون يلحسون بين رجلي كل ضابط في الجيش، إن هو الضابط انتصب منحازا، ومباشرة تدخَّل، كما هم المثقفون العلمانيون أرادوا له الدخول، وإنهم العلمانيون، في تقدير الجيش، سينصاعون للأوامر باللحس، ثمن انحياز الجيش إليهم، بالفهم الوحيد لمعنى عبارة "انحياز الجيش".
لسوء حظ العلمانيين، فاتت عليهم فرصة اللحس، فقد فضل الجيش عليهم الملاحسة مع المثقفين الإسلاميين، فانحاز إلى جانب القبيلة، بانقلاب عسكريٍّ إسلاميٍّ في تركيبته، وفي مقاصده.


رابعا، العلمانية غير الأخلاقية
(1)
هؤلاء المثقفون من أهل اليسار والديمقراطية، والذين تجمع بينهم العلمانية، في شكلها غير الأخلاقي، والعلمانية الأصل تعتمد الأخلاق في السياسة، تجدهم في هذه انتهازيتهم، وهي لا تتغير، وتجدهم في لولوتهم، وهي بدون طائل وبدون نهاية، وفي محاجتهم البليدة وهي من أدواتهم القارة، تجدهم اليوم يحاولون التدليس على الحقيقة الظاهرة عيانا، حدث الانقلاب العسكري الإسلامي، فيلوون عنق الحقيقة بين يديهم، يدَّعون بالمراء أن الذي حدث لم يكن انقلابا عسكريا، بل هو حالة طوارئ كانت قائمة أصلا!


(2)
لكن أسوأ مغالطاتهم هي أن "انحياز الجيش" لم يكن من النوع الذي كانوا قصدوه أو الذي كانوا دعوا إليه!
فلكأنه كان عندهم عقد زواج مكتوب مع الجيش، لينحاز إليهم الجيش يأتيهم حرثا بالطريقة التي يفضلونها.


(3)
لا يدرك هؤلاء العلمانيون عشاق الجيش، أنهم، إن كانوا يريدون دخول الجيش، بالطريقة التي يفضلونها، كان يتعين عليهم أن يفعلوا ما فعله المثقفون الإسلاميون المذعورون، المشغولون بإنقاذ الحركة الإسلامية/نظام الإنقاذ/الدولة الإسلامية العميقة.
وقد شملت طريقة المثقفين الإسلاميين توزيع الأدوار بينهم، كل منهم كان له دور محدد في مخطط محكم للخداع والتدليس وتمكين الجيش:


أولا،
التيجاني عبد القادر وعبد الوهاب الأفندي، ودورهما إجراء الاتصالات مع دولة قطر، المعادية لطموحات الشعب السوداني، ونشر أخبار عن لقاءات يعقدونها مع الاتحاد الأفريقي والمجتمع الأوروبي، بالإضافة إلى نشر مقالات تهاجم عمر البشير، وتحصر مشكلة النظام فيه، وإضافة حديث عن الفوضى المحتملة، وعن الدماء التي ستسيل مثلما حدث في الثورة الفرنسية، ومن ثم الدعوة إلى تصالح مع العلمانيين، بشروط إسلامية تعجيزية، فيها استبعاد ما يسمونه "الإقصاء"، ويقصدون عدم تفكيك الدولة الإسلامية العميقة، والإبقاء عليها كما هي دون تغيير في تركيبتها من عضوية الحركة الإسلامية؛


ثانيا،
نشر مقالات إلهائية، أحيانا للتضليل، ولإرسال الرسائل الكاذبة أو المغلفة؛


ثالثا،
عقد ندوة في الدوحة، بإيجارة رموز الحراك الشعبي، والتكليف مدفوع الثمن لبعض المثقفين الرُّحل غير المعروفة لهم من هوية غير حب الاستعراض، وخدع بعض المثقفين اليساريين ذوي المواقف، قصد تلويث سمعتهم، وكراء بعض الشخصيات غير الإسلامية، جميعهم، وغيرهم، لمشاركة عتاة المثقفين الإسلاميين، المعروفين أو السريين، في "النقاش"، وكله كان لتلهية المثقفين المعارضين عن مهامهم الملحة في دعم ثورة الشباب، ولبث انطباع خداعي عن وفاق يتم إنشاؤه بين الإسلاميين والعلمانيين، بينما كان هؤلاء المثقفون الماكرون شاركوا في التخطيط لتنفيذ هذا الانقلاب العسكري الإسلامي، قبل الندوة بأكثر من سبعة أسابيع.
كانت ندوة الدوحة امتدادا لمنتدى نيروبي، الممول من قبل جهاز الأمن، وكان التمويل لندوة الدوحة أيضا من جهاز الأمن/نظام الإنقاذ، ومن دولة قطر، المعادية لشعب السودان، والمستخدِمة المال لشراء عمالة أهل الإنقاذ، ولتعزيز وضع الحركة الإسلامية السودانية.


(4)
ومع ذلك، ما كان الجيش، المليشيا الإسلامية، لينحاز إلى صالح الحراك الشعبي، أو إلى صف العلمانيين دعاة تدخل الجيش، حتى إذا كان هؤلاء العلمانيون نفذوا ألف مرة ما نفذته مرةً واحدة مجموعة المثقفين الإسلاميين المعروفة.
فالذي قصدته، هو لزوم بذل الجهد المنظم، واعتماد الأخلاقية الصارمة، فلسنا مثل الإسلاميين.
ما كان الجيش لينحاز إلى صف الحراك الشعبي، لأن الجيش أصلا كان قالها بصراحة، أكثر من مرة، إنه لن يسمح بإسقاط النظام الإسلامي.
ولأن الجيش، وهو مليشيا إسلامية، يحتقر تجمع المهنيين، ويحتقر الشباب المناهضين للدولة الإسلامية، لا يغير منه كذب عثمان بن عوف وزير الدفاع عن رؤية للتغيير السياسي في السودان، لدى الجيش، وكان تم تكليف الأفندي بالترويج لهذه الفكرة المخترعة، أيضا لأغراض الخداع.


(5)
لا ينظر الجيش إلى دعاة تدخل الجيش، من العلمانيين واليساريين والديمقراطيين المعارضين، وقيادة التجمع، إلا وهم كما كان وصفهم عمر البشير، القائد العام لقوات الشعب المسلحة، زعيم الإسلاميين، وقائد الانقلاب العسكري، بعد أن كان أهل اليسار تحدوه بدعمهم المظاهرات الشعبية.
وقد وصفهم البشير بأنهم "الخونة والمرتزقة والعملاء"، ووعدهم بالتقتيل على الطريقة الإسلامية، أنه سيقطع رؤوسهم، "حَنْجِزَّهم إن شاء الله، حنكتلهم [أو، حنقبضهم] واحِدْ واحِدْ، ونْوَرِّيكُم ليهم، واحد واحد، وحَتْشوفوهُم واحِدْ واحِدْ، إن شاء الله".
ولم ينس عمر البشير توصيف هؤلاء العلمانيين واليساريين والديمقراطيين بأنهم من "المغرضين ... الحارسين الواتْسابْ والكيبورد"، ولم ينس تكرار أنهم من الناس "العُملا والخَونة والمرتزقة".
فالكلام واضح، من هذا رئيس الانقلاب المكلف، لكن لم يفهمه في وقته دعاة انحياز الجيش وتدخله، من المعتقدين في خرافة "الجيش السوداني".


(6)
حقا، لقد كان من السذاجة بمكان، ومن الغباء السياسي، أن يتوقع العلمانيون والديمقراطيون واليساريون، المحددون بأسمائهم، أن ينحاز الجيش إلى جانبهم، وكأن الجيش كيان كما هو في خيالهم كَمٌّ مجرد، بدون تاريخية، وبدون مصالح، وبدون عضوية الأغلبية الساحقة من ضباطه في الحركة الإسلامية.
وأصلا كان الاتفاق مستحيلا، حتى إذا كانت قيادة التجمع، والشخصيات العلمانية المعارضة، ذهبت شخصيا تتوسل لدى الجيش أن يتدخل تقول له إنها ستمكنه من نفسها، دع عنك أن تكون هذه الكيانات اكتفت بإرسال القبلات عبر هواء الأسافير.


(7)
فالذي أردتُ تبيينه بهذا العرض هو أن الدعوة إلى "انحياز الجيش"، أو إلى "تدخل الجيش"، لا يمكن إطلاقها هكذا عفو الخاطر، ثم أن تتوقع، بسبب حذلقتك، كمثقف علماني، أن الجيش سينحاز ويتدخل لصالحك، وكأن الجيش كيان إلهي محايد، قاعد فوق في السماء، فلا يعيش في ذات واقع الإفساد الإجرام والاحتيال الذي يشكل جوهر العقيدة السياسية لنظام الإنقاذ، وهي عقيدة الإسلامية، التي لا تعيش ولا تنشأ أصلا إلا بهذي ثلاثية الاحتيال والإجرام والإفساد، وكلها الثلاثية مجسدنة في مؤسسة القوات المسلحة، مما كله مسنود بوقائعه الدامغة في الأرشيف.


(8)
نعم، لقد ظل الإسلاميون يعقدون الاجتماعات السرية مع الجيش، منذ بداية الهبة الشبابية في ديسمبر 2018، وخلال الأسبوع الأول من بداية يناير 2019، وخططوا لهذا الانقلاب العسكري.
وهم لابد تركوا توقيت تنفيذ القرار الأساس، وشكل استلام السلطة، والتفاصيل، لقيادة الجيش، ومجموعة الصغيرة من قيادات الحركة الإسلامية، بمشاركة علي الحاج.
ثم تلقوا الدعم التقني في كيفية الاحتيال على الشعب السوداني، وإصلاح الخطاب، وكتابة خطاب الانقلاب، من المثقفين الإسلاميين المعروفين، عبد الوهاب الأفندي، التجاني عبد القادر، عبد الله علي إبراهيم، خالد التجاني النور، والطيب زين العابدين.
وفي النهاية، تقرر تنفيذ الانقلاب المتفق عليه، بعد أن أدرك الإسلاميون في الجيش، وفي جميع كيانات الدولة العميقة، انفضاح إجرامهم وفسادهم واحتيالهم، على الملأ، وأدركوا أن ثورة الشباب، إن هم تركوها تستمر، فهي حتما ستطيح بهم وبكامل مشروعاتهم وصناعتهم في مجال الفساد، وأن المحاكمات على جرائمهم ستُعقد، وأن الأرصدة والممتلكات التي نهبوها ستُسترد إلى الشعب، وأن الدولة الإسلامية العميقة ذاتها سيتم تفكيكها.
وما كان الإسلاميون، في جميع المؤسسات، بما فيها الجيش، ليقبلوا بهذا المصير.


خامسا، التفسير النفساني لولع المثقفين بالجيش
فكيف نفسر ولع هؤلاء المثقفين العلمانيين واليساريين والديمقراطيين، الذين نادوا بانحياز الجيش وتدخله، كيف نفسر هذا ولعهم بضباط الجيش؟


(1)
الذي أراه هو توق هؤلاء المثقفين إلى ذكورية العسكر، وهو التفسير على مستوى النفسانيات، بأنه توق مشدود إلى الأشواق الدفينة، المستحوِذة على أدمغة هؤلاء المثقفين، العلمانيين، فيخرِّجونها في خطاب خرافة الجيش، خطاب الزهو بذكورية العسكر، أن العسكر، في اعتقاد هؤلاء المثقفين العلمانيين، بأسمائهم، حتى لا يتطاير الشرر يصيب المثقفين العلمانيين العارفين، هم أبطال الحل الشافي، لحسم فوضى حميدتي وكتائب علي عثمان وقوات جهاز الأمن.


(2)
ولكأن هؤلاء العلمانيين يريدون منافسة المثقفين الإسلاميين في عشق العسكر، إذ يعتقد الإسلاميون، من جانبهم، أن ذكورية العسكر هي الحل الشافي لفوضى الشباب، خاصة فوضى الشابات معذِّبات الإسلاميين.
وهكذا، كل يغني لفوضاه.


خاتمة
في جميع الأحوال، سيُلحق الشباب الهزيمةَ الماحقة بالإسلاميين، بجيشهم، وهم اليوم متحلقون حول انقلابهم العسكري الإسلامي الثاني.
أسجل هنا بعد ما أراه المهام الملحة، في هذا المنعطف في مسار ثورة الشباب:


أولا،
لزوم إدراك الشباب حقيقة الانقلاب العسكري، من حيث إسلاميته، ومشاركة جميع كيانات الإسلاميين في قبول فكرته، وفي التخطيط له، والتكتم على ماهيته، ودعمه بعد حدوثه، بما في ذلك بالتغطية على طبيعته، ونشر الخداع بتصنع بعض الإسلاميين أن لا علاقة لهم به، أو أنهم يرفضونه، أو هم ينتقدونه.
فكله كله محض خداع إسلامي مثيلٍ للخداع بشأن الانقلاب العسكري الإسلامي الأول، 1989.
وهو انقلاب عسكري هدفه الأساس وأد ثورة الشباب.


ثانيا،
أهمية التفكر من قبل الشباب بصورة متعمقة في حقيقية الإسلامي، كإسلامي، من حيث إجرامه وفساده واحتياله، واستقراء الدلالات التي يجليها هذا التفكير المتعمق، وتأثير ذلك في تكييف كيفية التعامل مع هذا "الإسلامي"، الذي تتعزز يوميا المعرفة باهترائه الأخلاقي.
ثالثا،
يتعين على الشباب قبول قدرهم، وهو المقاومة المستمرة، قصد إسقاط الدولة الإسلامية الإجرامية الفاسدة، أيا كانت الأشكال التي يتخذها هذا الكيان الشطني، لكن دون الانشغال بتوقيت السقوط ذاته. وهنالك لزوم التفكير في تطوير استراتيجيات وتكتيكات مستحدثة للمقاومة.


رابعا،
اعتماد سلمية المقاومة، بالسلمية القائمة على التفكير والتدبير، وعلى شحذ العزيمة، والتسلح بالأخلاقية، وهي سلمية محكومة بالسياق والظروف، وليست سلمية مطلقة في جميع الأحوال.
فالمقاومة العنيفة ضد قوات الأمن، وقوات الجيش المليشيا الإسلامية، المقاومة بالأجساد المتراصة، دون أسلحة نارية، أو أسلحة بيضاء قد تقتل، والتصدي بالقوة الجسدية العنيفة ضد الاعتقال، واقتحام أماكن الاعتقال، لتحرير المعتقلين، خاصة النساء، كلها أشكال مقاومة تندرج في "السلمية"، المعرَّفة بمشروعية الدفاع عن النفس، وعن ذوي القربى، وهم جميع المقاومين، بدون استثناء، في مراكز الاعتقال، أو في بيوتهم، أو في الشوارع والميادين، أو في المؤسسات التعليمية، أو في أي مكان آخر.


...


عشاري أحمد محمود خليل


ushari@outlook.com


سياتيل 1/3/2019

 

آراء