البرامج الحِوارية: هُجران المثقفين وجُرأة المتغولين

 


 

 

دكتور الوليد آدم مادبو
في عالم يشهد تزايدًا في الضغوط الإعلامية وتقلص المساحات الفكرية، نجد أن كثيراً من المثقفين السودانيين اختاروا الابتعاد عن البرامج الحوارية، خصوصًا في القنوات العربية، إيثاراً للعافية أو بعداً عن الضوضاء التي يحدثها التداخل غير المنهجي وغير العلمي مع الغوغاء والمقصود بهم هنا أنصاف المثقفين أو المتغولين الذين دفعت بهم الصدفة إلى محاولة الإسهام في شتى القضايا دون خبرة أو دراية يعينهم في ذلك الفراغ الذي خلّفه هروب أو تقاعس المقتدرين، ویزید من تفاقمه التشجيع الذي یتلقاه المتواطئون مع أفانين الجهل والرذيلة والذي وصل هذه الأيام حد التحريض على القتل خارج الأطر القانونية، من الغرف الإعلامية المُعدة لتخذيل الفريق الرافض لمبدأ المساجلة والمقر بمفهوم المثاقفة.
رغماً عن ذلك فإنا نرى أن أداء الشعوب العربية الأخرى في كافة القنوات يعتبر أفضل بكثير من أداء السودانيين، إذ لا يمكن مقارنة أداء سياسي أو عسكري أردني أو مصري بأداء زميله ولا أقول صنوه السوداني. أما المقارنة مع القنوات الناطقة بالإنجليزية فذلك شأن أخر سيما أن مستوى النضج الحضاري والثقافي والمعرفي والإنساني يتطلب خطاباً عقلانياً ينأى بطرفيه، المُخاطَب والمُخاطِب، عن العاطفة والعدمية الجدلية.
عندما يتحدث اللواء الأردني فايز الدويري مثلاً يمكنك ان تلحظ ذخيرة لغوية وبُعد مقاصدي وبنية معرفية وأسلوب خطابي ومظهر عسكري حقيقي؛ أمّا عندما يتحدث واحدٌ من أولئك "الخبراء الاستراتيجيين" من ربعنا، أو الجنرالات المتحاربين المترصدين ببعضهم أو بالشعب، فهناك خطاب كسيح أكثر ما يميزه الخواء الفكري والعجز اللغوي والالتواء، والهياج والإفلاس. قد يعزي البعض هذا الأداء البائس لفترة الإنقاذ التي حرّضت جل المعوزين فكرياً والمشوهين أخلاقياً للظهور دون خجل أو وجل في الفضاء العمومي، أو يتعلل بظرف الحرب الذي يحدث انزياحا عاطفياً ووجدانياً، بيد أنني أعتقد أن هناك إشكاليات حقيقية في الشخصية السودانية تحول دون قدرتها للتعبير عن رأيها بشجاعة وثبات معرفي ومنهجي.
وأول النواقص هو أن هذه الشخصية شخصية مهزوزة تتأثر برأي القطيع وتجبن عن تحمل التبعات التي قد تنجم من تقلد الرأي المخالف، وهذا الأمر في نظري مردّه إلى التربية العاجزة التي تقوم على المجاملة وتخشى المفاصلة أو حتى مجرد المناظرة، بل وتستسهل الأمور إلى حد التسيب. ثانيها، إن السودان افتقر ولعقود عديدة إلى مؤسسات بحثية أو ثقافية تحث المساهمين والمنتمين للفضاء المعرفي على التفكير النقدي والجمعي المتسم بالصبغة التشاركية. والنتيجة أننا ما زلنا نسترشد بهدي أقاويل ورؤى هلامية تفتقر إلى المعلومة الفاحصة والسند الإحصائي الدقيق. الأخطر، إننا نلحظ تعمّداً من قبل بعض الجهات للإسهام في نشر المعلومات الخاطئة والأخبار الكاذبة، الأمر الذي يزيد من انعدام الثقة في المصادر الثقافية والإعلامية.
بالرغم عن هذه الرؤية الناقدة لموقف المثقف السوداني عموماً، فقد يكون من الواجب علينا أن نلتمس العذر لبعض زملائنا الذين هجروا المنصات الإعلامية لأسباب موضوعية. أولاً، هناك الرغبة في التركيز على إنتاج أفكار جديدة وابتكارات فكرية بعيدًا عن الأجواء المزدحمة بالحوارات السطحية. فكما قال الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: "إن إنتاج المعرفة يتطلب مساحات من الهدوء والتفكير العميق." تتسم البرامج الحوارية، في كثير من الأحيان، بالإثارة والضجيج، ممّا يجعل من الصعب على المثقفين التعبير عن أفكارهم بوضوح وعمق. ثانياً، إنني أشعر بأن المشاركة في بعض البرامج الحوارية يجعل من المثقف مشروع Trend يتنازعه العامة. هذا الوضع يعكس أزمة حقيقية في المشهد الثقافي إذ إن تحويل المثقف إلى وسيلة للتسويق لآراء العوام، كما يقول المفكر المصري يوسف زيدان، يعد "إخلالًا بقيمة الفكر ومحتواه."
إن المثقف يجب أن يكون صوتًا للمشاكل الحقيقية التي تواجه المجتمع، وليس مجرد لاعب في لعبة الدعاية والإعلان. فالمسألة لا تتعلق فقط بالانشغال السطحي، بل أيضًا بالكرامة. يشعر العديد من المثقفين بأنهم يتعرضون للانتقاص من كرامتهم في الساحة السياسية والإعلامية. يتجلى ذلك في الضغوط التي تفرضها الموجهات الأيديولوجية والتوجهات السياسية التي تعيق حرية التعبير. والكاتب السوري هيثم المالح أكد أن "المثقف يجب أن يكون حرًا في أفكاره وآرائه، وإلا فإن صوته سيُسجن داخل أطر ضيقة."
يجب أن ندرك أيضًا دور النخبة في المجتمع. إن تحلل النخبة من مسؤوليتها الفكرية يساهم في تفشي السطحية. عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو قال: "إن الثقافة لا تتشكل في فراغ، بل تحتاج إلى نخب مسؤولة تدفع بها إلى الأمام." وعندما تغيب هذه النخب عن الساحة، تُترك الثقافة للعبث، ويتحكم العوام في مسار الفكر. إن هناك حاجة ملحة لتأسيس منصات حوارية تتيح للأفكار العميقة أن تُناقش بعيدًا عن الضغوط الإعلامية. كما يؤكد الفيلسوف البريطاني برتراند راسل، "إن الحوار الحقيقي يتطلب الاحترام المتبادل والقدرة على الاستماع." في غياب هذه الموجهات فإن اعتذار المثقف لا يعد تنصلاً من واجبه الديني والوطني، بل هو دعوة للحفاظ على كرامة تتعرض للاستهتار في خضم الغوغائية السياسية.
المثقف هو شخصية فريدة تجمع بين المعرفة والوعي الاجتماعي والقدرة على التحليل. إنه ليس مجرد حامل للمعلومات، بل هو شخص يسعى لفهم العالم من حوله، وتحليل الظواهر الاجتماعية والسياسية والثقافية. يمكن أن نحدد بعض السمات الأساسية التي تميز المثقف: التفكير النقدي، الالتزام الاجتماعي، السعي للمعرفة، القدرة على التواصل، الاستقلال الفكري، المسؤولية الأخلاقية. في هذا الإطار يجسد المثقف التفاعل بين الفرد والمجتمع، ويعمل على بناء جسور من الفهم والتواصل. في عالم مليء بالتحديات، يظل المثقف ضرورة حيوية لتحقيق التغيير الإيجابي وتعزيز الثقافة والوعي.
لا يجوز للمثقف أن يكون محايداً تجاه قضايا شعبه ووطنه، لكنه يلزم أن يظل مستقلاً لا تستخفه الأهواء ولا تستفزه النداءات الكاذبة التي تُصَوِّغ لطموحات الجنرالات الشخصية باسم القومية أو المؤسسية تارة أو تروج لمآرب القادة النافذين ميدانياً باسم الديمقراطية أو الفدرالية تارة أخرى. كلاهما لا يعدو كونه ممثلاً للأوليغارشيات المتنافسة على المال، إقليمياً ودولياً. بينما هما في الحقيقة يستغلان عاطفة الجمهور محلياً للوصول إلى غايتهما من التمكين والسلطة المطلقة.
تعد الثقافة أحد أهم المكونات التي تشكل هوية المجتمعات، وتساهم في تطورها. لكن، في ظل التحولات السريعة التي يشهدها العالم اليوم، أصبح التسطيح الثقافي ظاهرة متزايدة. تتجلى هذه الظاهرة بشكل واضح من خلال دور الأجهزة الإعلامية، التي في بعض الأحيان تسهم في تعزيز السطحية بدلاً من إثراء المحتوى الثقافي. التسطيح الثقافي هو تراجع العمق الفكري والتحليلي في تناول المواضيع الثقافية، مما يؤدي إلى انتشار الأفكار السطحية أو السريعة التي تفتقر إلى التحليل والتفكير النقدي. يعبر عن هذا التسطيح بشكل خاص في وسائل الإعلام التي تركز على الإثارة والنجومية بدلاً من المعرفة والوعي.
يتجلى تأثير الإعلام في تسليط الضوء على الشخصيات العامة والمشاهير بدلاً من المثقفين والمفكرين. هذا ممّا يساهم حتماً في تحويل النقاشات الثقافية إلى منصات ترويجية للأفكار السطحية. كما أشار الفيلسوف الفرنسي جان-بول سارتر، "المثقفون الحقيقيون هم الذين يجب أن يُسمع صوتهم، لا أولئك الذين يبيعون الشهرة." تعمد الكثير من الأجهزة الإعلامية إلى تكييف محتواها وفق رغبات الجمهور، مما يؤدي إلى تقديم محتوى سطحي يتماشى مع الاتجاهات الحالية. هذه الديناميكية تحد من قدرة المثقفين على طرح أفكارهم النقدية، كما يشير الكاتب الإيطالي أومبرتو إيكو: "الجمهور ليس دائمًا على حق"!
يؤدي التسطيح الثقافي إلى تراجع التفكير النقدي، مما يؤثر على قدرة الأفراد على فهم القضايا المعقدة. هذا مما يعزز الانقسام الفكري ويؤدي إلى تراجع الحوار الثقافي. فعندما تهيمن السطحية على المشهد الثقافي، تتعرض الهوية الثقافية للتهديد فيصبح من الصعب على المجتمعات المحافظة على تقاليدها وتراثها الثقافي الاجتماعي، بل وهويتها القومية.
وإذ يمثل التسطيح الثقافي تحدٍ كبير تواجهه المجتمعات اليوم، فإنا ندعو إلى ضرورة إعادة تقييم دور الأجهزة الإعلامية في تشكيل الثقافة. سيما أن تعزيز المحتوى الثقافي العميق، وتفعيل دور المثقفين، وتوفير فضاءات حوارية ملائمة، جميعها تعتبر خطوات ضرورية لمواجهة هذه الظاهرة، وضمان بناء مجتمع قائم على الفكر والنقد والتنوع.
ختاماً، يتضح أن المثقف السوداني يواجه تحديات جسيمة في ظل بيئة إعلامية مشوشة تعزز من السطحية وتقلل من عمق النقاشات الفكرية. بينما يُلاحظ تباين في الأداء الثقافي بين المثقفين السودانيين ونظرائهم في البلدان العربية الأخرى، تظل الحاجة ملحة لإعادة تقييم دور الإعلام في تقديم المحتوى الثقافي وتعزيز التفكير النقدي. إن الابتعاد عن المنصات السطحية هو خيار ضروري للحفاظ على كرامة المثقف ورسالته الأساسية كحامل للمعرفة وناقد اجتماعي. يتوجب على النخب الفكرية أن تستعيد مسؤولياتها، وتساهم في بناء فضاءات حوارية تعزز من العمق والوعي، كالتي ظل يديرها الباحث/ غسان عثمان ردّ الله غربته وغربة برنامجه الوراق او تلك التي ظل يبثها الأستاذ/ صلاح شعيب، مما يضمن استمرارية الثقافة وحمايتها من التحديات التي تواجهها في العصر الحديث.

auwaab@gmail.com

 

آراء