بات السودان في أزمة إقتصادية سياسية كارثية لم يشهد مثلها منذ استقلاله قبل نيف ونصف قرن، ويتحدث جل المراقبين عن حراك شعبي لا بد من تفجره في أي لحظة، وعن شعب يكوّر قبضته ويعد المشرفية والعوالي وما استطاع من رباط الخيل، ويحفر الخنادق ويشيد المتاريس؛ وعن نظام حاكم فى حالة دفاع عن النفس، كذئب معزول حاصرته الضواري – فتراه يكثر من العواء والتقافز والتلفت والازورار والبحث اليائس عن كوة ينفذ منها. ومن آيات السلوك الذئبي استعراض قوات الدعم السريع الذى قامت به البارحة بأطراف العاصمة على صهوات آلاف الآليات ذات الدفع الرباعي، التى استهلكت أطناناً من الجازولين والبنزين فى وقت عزت فيه تلك المواد ونضبت تماماً بالعاصمة والأقاليم، فكأن استعراضاتها ملح يضاف للجرح السوداني؛ ولم تكن فقط sabre-rattling ، أي تهديداً وترهيباً وردعاً فحسب، إنما (حندكة) و(مكاواة) على طريقة (ياعوازل فلفلوه!)، وكأن الحكام هداهم الله يتمثلون الطاغية نيرون الذى أشعل النيران في عاصمته روما وطفق يعبث بأوتار قيثارته غير مبال بما يحدث لبلده وللقاطنين بها.
بيد أن ما يحدث الآن في السودان يهم أهله قاطبة، ولا بد على الأقل من التفاكر والتشاور حول كيفية الخروج من هذا المأزق التاريخي، ولا بد أن تدلي كافة القوى السياسية بدلائها قبل أن يطوي التاريخ صفحة بلد إسمه السودان ويقذف به إلى جوف هوة سوداء سحيقة، لاحقاً بالصومال واليمن وغيرها من سكان مزابل الزمان. وإنني لأتساءل ماذا تنتظر القوى السياسية التى احتواها قطار (الحوار الوطني) الذى مر من هنا قبل قليل؟ ألا يستحق ما يحدث الآن في السودان إجتماعاً موسعاً لتلك القوى بمعزل عن الحزب الحاكم، ثم بعد ذلك مع الحزب الحاكم لنقل رؤيتها الجماعية له؟ أم أنها كالبرغوث لا حياة لها إلا بالبرغثة بالتصاقها بجلد الحيوان المضيف. صمتها الراهن ومراقبتها للأوضاع البئيسة من حولها بسلبية وعدم مبالاة يدل على أنها مجرد شراذم من الأرزقية كانت تنتظر أول دعوة من النظام لتتهالك على عتبته وتفقد وقارها وتنخرط مع المنخرطين في مص دماء الشعب المسكين المغلوب على أمره بنهم لا يعرف الإكتفاء وبقسوة وجشع وأنانية مفرطة. على كل حال، هناك القوى الوطنية الجادة ممثلة فى المؤتمر السوداني (الدقير) ونداء السودان والحزب الشيوعي، وقد أعلنت كل منها عبر البيانات المتتالية عن شجبها لما يحدث وتضامنها مع الشعب المستغيث وقواه العاملة المطحونة. ولكنها تظل مجهودات فردية لم يتم تجميعها في بوتقة واحدة عاكسة لرؤية وتطلعات الشارع السوداني بمجمله. وبما أن المطلب واحد وهو ذهاب النظام وإحلاله بوضع ديمقراطي تعددي يحترم حقوق الإنسان، فإن إتحاد القوى المعارضة أصبح ضرورة لا تقبل التأجيل. ولقد مرت على هذا الشعب منعطفات عديدة توحدت قواه الطليعية خلالها: اتحاد السودان 1919 - اللواء الأبيض 1924 - مؤتمر الخريجين 1938 - إعلان الإستقلال من داخل البرلمان 1953 - جبهة الهيئات أكتوبر 1964 - والجبهة النقابية إبريل 1985. لا بد أن تتوحد جميع القوى المعارضة على جناح السرعة، وأن تتخذ لنفسها آلية محكمة السبك على غرار جبهة الهيئات – بل أفضل منها - لكي تدير العمل السياسي اليومي وتضطلع بقيادة وتوجيه الجماهير بالشارع، وبإعداد الدراسات الخاصة بالأوضاع التنظيمية والدستورية التى سيتم عبرها إدارة المرحلة الإنتقالية القادمة لا محالة بعد انهيار النظام. بيد أنني كما قلت في مقالات عديدة سابقة، أرى أن البشير يستطيع أن يلعب دوراً يضمن له الغفران والخلود في وجدان الشعب - إذا قام باستغلال السلطات التى بحوزته الآن، فأعلن حل الحكومة والمؤتمر الوطني والمجلس الوطني وقوات الدعم السريع، ثم اجتمع بالمعارضة كما فعل قادة الجيش إبان ثورة أكتوبر وانتفاضة أبريل، وتوصل معهم لحكومة تكنوقراط انتقالية، وفق الترتيبات الدستورية التى تتقدم بها المعارضة. فالروح التى أملت على البشير الدعوة للحوار الوطني، وقبلها التفاوض مع الحركة الشعبية في نيفاشا، ومع التجمع الوطني الديمقراطي في القاهرة في يونيو 2005 - مما نجم عنه اتفاق دخل بموجبه مناديب التجمع في الحكومة والبرلمان....نفس هذه الروح تملي عليه الآن أن يحاول في الزمن الضائع أن ينقذ البلاد من مستنقع الحرب الأهلية ومن ثم التشظي والإحتراب الأبدي كما يحدث الآن بجنوب السودان وسوريا. لقد جلب نظام البشير قوات الدعم السريع من نفس البيئة الإثنية التى استجلب منها الخليفة عبد الله جيش الجهادية الذى احتمي به حتى شتت شمله الجنرال كتشنر في كرري عام 1898م؛ والتى استجلب منها حزب الأمة الجيوش الأنصارية التى فجرت حوادث مارس 1954، والتى ساهمت في إسقاط حكومة سر الختم الخليفة الأولى بعد ثورة أكتوبر 1964؛ ويبدو أنه قد تم شحن هذه الجندرمة الراق تاقية بصورة مباشرة أو غير مباشرة بكميات هائلة من الغل والكراهية ضد سكان مدن أواسط السودان (أولاد البحر - الجلابة)، مما سينعكس في ضراوة الإحتراب الشرس الذى ستشهده شوارع الخرطوم فى حالة أي مواجهة بين جماهير العاصمة وهذه القوات. إن الإستمرار في الحكم لا يستحق هذه النتائج الكارثية التى ستتمخض عن المواجهات وتصفية الحسابات والفتك ببعضنا البعض. لقد حكم البشير بلادنا منذ ثلاثة عقود، أثرى خلالها حتى الثمالة، كما أثرى إخوانه وأصهاره وجميع رهط حوش بانقا وصراصر (فيما عدا المرحوم المناضل يوسف أحمد المصطفي وأبناؤه الأشاوس) وحلة كوكو؛ ووسع الله أبواب الرزق والزوجات مثنى وثلاث ورباع للكادر الأمامي للإخوان المسلمين برمته. فماذا تريدون بعد ذلك؟ لقد أفلست البلاد تماماً وأصبحت مرهونة لدي المؤسسات المالية العالمية، وينوء كاهلها بالقروض من الدول (الصديقة) مثل الصين التى اشترت نفط السودان لعدة سنوات قادمة بطريقة (بيع السلم)، أي تحت الحضور، ومن الدول العربية التى تكفلت بكبرى المشاريع مثل سد وكهرباء مروي. ولقد جربتم فوق رؤوسنا كل شعارات الحركة الإسلامية من جهاد كانت نتيجته فصل الجنوب، ثلث الوطن وموئل المخزون الرئيس لنفطه الضائع، ومن تطبيق عشوائي للشريعة كانت نتيجته جلد النساء للبسهن البنطال، وأدخلتمونا في تحالف لا ناقة لنا فيه ولا جمل مع الدولة الشيعية الكبري إيران، مما أفسد علاقاتنا مع الدول العربية التى تربطنا بها أعمق الوشائج والتى أوت واستخدمت مئات الآلاف من المهنيين السودانيين الذين قمتم بتشريدهم للصالح العام، بينما لا يوجد سوداني واحد يعمل في إيران. لقد شرقتم وغربتم وتعلمتم الحلاقة فوق رؤوس السودانيين الأيتام. ولقد آن الأوان أن تترجلوا بشيء من الشهامة والرجولة والحس الإنساني. إن الثورة الشعبية الكاسحة قاب قوسين أو أدنى، وسوف تتم تصفية حسابات لم تشهد مثلها الثورة الفرنسية عام 1789 ولا الثورة البلشفية عام 1917 ولا الثورة الصينية عام 1949. أو كما قال محمد مهدي الجاهري: (أري أفقاً بنجيع الدماء تخضب...واختفت الأنجم!) ولكن الحروب الأهلية التى تنجم عن مثل هذه الأوضاع سوف تستمر لما لا نهاية. إن الكرة في ملعب البشير الذي يستطيع أن ينقذ البلاد مستوحياً تجارب إنسانية طازجة في الذاكرة – بالتحديد ما حدث في جنوب إفريقيا عام 1991 عندما أخرج نظام الفصل العنصري المتطرف...أخرج نلسون مانديلا من سجن روبن بعد 27 سنة وتفاوض معه واقتنع بوجهة نظره ووافق على تفكيك دولة الأبارثايد وتحكيم دستور يساوي بين السود والبيض، مما تمخض عنه حكومة حزب المؤتمر الإفريقي التى كان رئيسها مانديلا عام 1994، وبعد تصرم الفترة المحددة له في الدستور لم يحرن أو يناور أو يحاور أو يلف ويدور أو (يتعولق)، إنما تخلى عن منصبه طواعية وذهب لقريته بجنوب شرق البلاد ليقضي شيخوخة هادئة سعيدة مفعمة بحب شعبه وكافة شعوب العالم له. ألا هل بلغت اللهم فاشهد. والسلام.