البعد الفكري الغائب في محاربة الفساد

 


 

 

 

خبا بريق الشعارات القديمة التي جعلها الاسلاميون ترياقا ضد ارتكاسات النهوض العمراني والاخلاقي اذ جعلوا من ( بئر معطلة وقصر مشيد) ديالكتيكا إسلاميا يتجافي عن مضاجع التسليم بالتفاوت الطبقي وكسوب المجتمع الاسلامي المعافي. وكانت الادبيات حينها تتشرب من معاني الرقائق الداعية للزهد والتقشف وانتباذ الدنيا القشيبة المقبلة. كان شعار ( بئر معطلة وقصر مشيد) يماثل المقابل الاسلامي لنظرية الصراع الطبقي وفقا للتحليل الماركسي.

وسرعان ما خبا بريق هذا الشعار في غمرة التسابق لصد العدوان القادم من تلقاء جنوب الوطن و تحديات النهوض بالدولة، ومع تضخم السياسي علي الفكري اخذت الذاكرة التاريخية والمعرفية في الضمور وامتلأت بالثقوب .

شحذت الدولة من همة فعلها القانوني ، وخطابها السياسي وهي تتخذ التدابير القضائية و الإدارية والأمنية لمحاربة الفساد، في ظل صعوبات اقتصادية يعاني منها الجميع. ولكن مهما بلغت فعالية هذه التدابير القانونية والإدارية والأمنية لمحاربة الفساد من نيابات ومحاكم خاصة و تحقيقات واعتقالات طالت المتهمين ربما تتقاصر عن بلوغ هدفها النهائي دون المحضن الفكري للعدالة الاجتماعية
ان اي محاولات جادة لمحاربة الفساد تستدعي كما فعلت الدولة الان تعديل القوانين وتشديد العقوبات، و كذلك التعبير المستمر عن عزم الإرادة السياسية علي النفاذ ، لكن اذا لم يكن ذلك مصحوبا ببعد فكري يخاطب قضية الفساد و لا يقف عند تخومها الإجرائية بل يتعداها ليكون مشروعا معنيا بتحقيق العدالة الاجتماعية وليس محض إجراءات بيروقراطية وقانونية لمكافحة الفساد.

ان الذي يغذي شهوة الفساد ليس فقط انعدام الرادع القانوني او قلة العائد الوظيفي او ضعف الوازع الاخلاقي بل غياب مشروع شامل للعدالة الاجتماعية يجعل الفرد في المجتمع السوداني يشعر ان حقوقه مصانة وليس مهدرة بفعل الانتساب الجغرافي او الجهوي او القبلي.

وكنت قد صوبت نقدا معرفيا شفيفا لتجربة اليسار الماركسي في السودان الذي تخلي عن النضال الجماهيري من اجل تحقيق العدالة والاشتراكية و الانتصار لقضايا الفقراء و البلوتاريا وتبني أطروحة الهامش والثورة المسلحة للانقضاض علي السلطة المركزية، فأبعد النجعة وتخلي عن ضميره الايدلوجي في المنافحة عن قضايا الفقراء من اجل الانتصار لقضايا الهامش المزعوم بالعنف وقوة السلاح وتجييش الريف علي أسس جهوية من اجل كسب السلطة العابر علي حساب رهانه التاريخي للانتصار لقضايا البيروتاريا والطبقة العاملة. فخسر اليسار رهانه التاريخي وخان ضميره الايدلوجي في ظل معمعان كسوب التكتيكي العاجل علي النظر الاستراتيجي الآجل.

يواجه الاسلام السياسي الحاكم الان ذات المأزق التاريخي الذي زلزل ايدولوجيا وتوجهات اليسار الماركسي في السودان. اذ كان شعار ( بئر معطلة وقصر مشيد) مستمد من أفق العرفان القرآني لمقاربات الواقع ، ومحاربة التفاوضات الطبقي و إيجاد فلسفة بديلة للعمران المادي والبشري و شروط جديدة للنهضة تجد صدي صوتها في الدراسات العميقة والباكرة لمالك بن نبي. مال التخطيط الاقتصادي دون هدي او كتاب منير ليعزز من توجهات الرأسمالية المتوحشة مع عطايا رمزية للشرائح الضعيفة لذر الرماد في عيون الارامل والذراري والضعفاء.

في غمرة التدافع والتمكين لبناء الدولة وتحقيق شروط العمران والنهضة ، غاب عن الذهن السياسي ان العمران المادي زائل مهما تعاظم إنجاز الخدمات وتطاول البنيان و تلاصفت اضواء المباني الجديدة من نموذجها القوطي الي مداها الصيني المنعكسة علي صفحة النيل. لان الأصل هو الاستثمار في العمران البشري من تعليم وصحة و رفع الطبقات الضعيفة من هامش الفقر الي دائرة الانتاج والإدماج الاجتماعي.

ان تحشيد امتيازات المدينة لنخبة لا يتعدي تعدادها ٣٠٪؜ من جملة سكان القطر وخدمات كهرباء تغطي ٤٠٪؜ من جملة رقعة السودان الشاسعة واقتصاد ريفي يمثل القطاع المنتج الأغلب قي السودان ، يعكس اختلالا بنيويا في توزيع الخدمات والامتيازات.

فنسبة استهلاك الكهرباء في احد احياء الخرطوم الراقية يمثل ربما استهلاك ولاية باكملها في السودان. هذا الاختلال يعالج بالتنمية المتوازنة والمستدامة بالفعل ، وكذلك محاربة الفساد لتوظيف مدخلات الدولة في اجندة التنمية الحقيقية . لكن لن تفلح كل تلك التدابير دون رؤية كلية للدولة لتحقيق العدل الاجتماعي.

والعدالة الاجتماعية لا تعني المساواة المطلقة في دولة ما تزال معسكرات النازحين تلد الان الجيل الثاني الذي يجب ان يخرج معافي من جرثومة الصراع والعنف وهو يترعرع علي أطراف المدن وهوامش الحضر.

العدالة الاجتماعية تعني المساواة المطلقة في الفرص والتنافس الطبيعي مع اجتراح سياسات للتمييز الايجابي للمناطق التي لم تحظي بمعدلات تنمية كافية.

و العدالة الاجتماعية لا تعني المساواة المطلقة في كل شيء لاختلاف الاستعدادات والميول وهو من المستحيلات ، لكن ان يعاد بناء الدولة لترسخ تقديم الفرص المتساوية للجميع دون تمييز بالعرق او الجغرافيا او نسب التاريخ.
ان غفلة مشروع الحكم عن قضية العدالة الاجتماعية كمرتكز فكري وقيمي للنهضة ، وكذلك لمحاربة الفساد لاعادة توزيع الثروة و التمحل لذلك بعمل وزارات الرعاية الاجتماعية التي تقدم أشكالا من العون المادي المحدود وخدمات متنوعة لا تستوفي المعني الجامع لتحقيق العدالة بل هي مجرد خدمات شحيحة ومحدودة للاسر. الفقيرة.

ان العدالة الاجتماعية تعني العدالة المطلقة في الفرص المتساوية في التعليم والتوظيف و أبواب التجارة والقروض وخدمات المصارف والبنوك.

قديما وقف المرحوم خضر حمد في وجه رائد تعليم البنات بابكر بدري وهو ينقل مدرسته من رفاعة لأم درمان وهو يهم بطباعة ايصالا ماليا بقرشين لجمع التبرعات لتشييد مدارس الأحفاد . فناهضه خضر حمد علي صفحات الصحف وقال " كيف يجمع بابكر بدري من أموال فقراء السودان والتبرع لمدرسة مسخرة لتعليم اولاد السادة والأثرياء؟". وقال ان بابكر بدري قاله له انه يريد ان يبني مجده الشخصي .

قال الدكتور استقليز رئيس المجلس الاقتصادي للرئيس كلنتون في كتابه discontent of globalization ان العولمة تجعل الدول الغنية تزداد غنيً والفقيرة تزداد فقراً ، مما ادي الي بروز الشعوبية كتيار مضاد للعولمة ومضاد للاستبالشمنت Establishments والاهتمام بقضايا امريكا اولا من اجل احلام فقراء البيض او ما يسمي حزام الصدأ في امريكا.

ان السياسات الاقتصادية الراهنة و ان جعلت محاربة الفساد في قمة أولوياتها لن تنجح في تحقيق اهدافها ومبتغياتها لانها تزيد الأغنياء غني والفقراء فقرا لغياب مشروع العدالة الاجتماعية الذي يعتبر البوصلة الفكرية والقيمية لاي مشروع اقتصادي يهدف الي تقليل حدة الفقر وبناء مشروع وطني علي قاعدة المساواة في الفرص والترقي والواجبات لجميع ابناء الوطن.

علي اصحاب المشروع ان يتذكروا ان ( بئر معطلة وقصر مشيد ) لم يكن شعارا للتحشيد العاطفي لمرحلة عابرة في تاريخ بنائهم الفكري، بل يجب ان يتحول الي ديالكتيك إسلامي لحمته وسداه هو تنزيل قيم العدالة الاجتماعية بتقديم الفرص المتساوية للجميع بعد ان ضرب التفاوت الطبقي مداه في استخراج سخائم الانفس اللوامة.


kha_daf@yahoo.com

 

آراء