التحالفات الاقتصاديَّة والسياسيَّة في إفريقيا.. ما لها وما عليها (2 من 2)
shurkiano@yahoo.co.uk
تجمع دول الساحل والصحراء
تأسَّس تجمع دول الساحل والصحراء، أو (س.ص)، في 4 شباط (فبراير) 1998م في العاصمة الليبيَّة، طرابلس، إثر مؤتمر القمة الذي شارك فيه رؤساء دول كل من: مالي وتشاد والنَّيجر والسُّودان ومندوب عن رئيس بوركينا فاسو، وذلك بناءً على مبادرة من الرئيس اللِّيبي العقيد معمَّر القذَّافي. وقد سعى هذا التجمع إلى تحقيق الأهداف التالية:
(1) إقامة اتحاد اقتصادي شامل وفقاً لإستراتيجيَّة تُنفَّذ من خلال مخطط تنموي متكامل مع مخططات التنمية الوطنيَّة للدول الأعضاء، وتشمل الاستثمار في الميادين الزراعيَّة والصناعيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة وميادين الطاقة.
(2) إزالة كافة العوائق التي تحول دون وحدة الأعضاء عن طريق اتخاذ الإجراءات اللازمة لضمان الآتي:
1) تسهيل تحرُّك الأشخاص ورؤوس الأموال ومصالح مواطني الدول الأعضاء.
2) حريَّة الإقامة والعمل والتملُّك وممارسة النشاط الاقتصادي.
3) حريَّة تنقل البضائع والسِّلع ذات المنشأ الوطني والخدمات.
(3) تشجيع التجارة الخارجيَّة عن طريق رسم وتنفيذ سياسة الاستثمار في الدول الأعضاء.
(4) زيادة وتطوير وسائل النقل والاتِّصالات الأرضيَّة والجويَّة والبحريَّة فيما بين الدول الأعضاء عن طريق تنفيذ مشاريع مشتركة.
(5) موافقة الدول أعضاء التجمع على إعطاء مواطني الدول الأعضاء نفس الحقوق والامتيازات المعترف بها لمواطنيها وفقاً لدستور كل دولة.
(6) تنسيق النظم التعليميَّة والتربويَّة في مختلف مستويات التعليم والتنسيق في المجالات الثقافيَّة والعلميَّة والنقديَّة.
ففي الأهداف سالف الذكر دعنا ننظر النقاط الخاصة بتسهيل تحرُّك الأشخاص، وحريَّة الإقامة والعمل والتملُّك، وإعطاء مواطني الدول الأعضاء نفس الحقوق والامتيازات المعترف بها لمواطنيها وفقاً لدستور كل دولة. فالنظام الليبي والمواطنين الليبيين كانوا قد عاملوا الأفارقة العاملين في ليبيا في التسعينيَّات من القرن الماضي بشيء من العنصريَّة شديداً. فقد أهانوهم ضرباً ولعناً وتهديداً لحيواتهم، ومصادرة لممتلكاتهم، حتى عاد كثرٌ منهم إلى بلدانهم، مما اضطرُّ الرئيس الغاني آنذاك أن يرسل طائرة خاصة لإجلاء رعاياه من ليبيا إلى بلاده.(15) فلا شك في أنَّ كثراً من أولئك وهؤلاء كانوا من مواطني الدول التي تدافعت أخيراً وكوَّنت تجمع الساحل والصحراء. فهل تاب النظام الليبي متاباً بعدئذٍ؟ وهل تغيَّر الشَّعب الليبي منذئذٍ؟
أما في الهدف السَّادس إيَّاه فلعلَّك واجدٌ أنَّ "تنسيق النظم التعليميَّة والتربويَّة في مختلف مستويات التعليم والتنسيق في المجالات الثقافيَّة والعلميَّة والنقديَّة" قضيَّة مجافية للواقع، لأنَّ التعدُّديَّة الثقافيَّة والدِّينيَّة، التي تتمتَّع بها هذه الدول، تجعل مسألة التنسيق أمراً عصيَّاً. إذ أنَّ الدول الإفريقيَّة تعاني من مشكلات داخليَّة تعوق قضيَّة الوحدة الوطنيَّة داخل مجتمعاتها، وكان من الأجدر لهذه الدول أن تسعى إلى ابتكار صيغ سياسيَّة تستوعب أثنياتها وثقافاتها وأديانها المختلفة داخليَّاً قبل التشبث بالوحدة الإقليميَّة. كما أنَّ الدول الأعضاء في المنظمة إيَّاها تحكمها أنظمة سياسيَّة متباينة، والدول تتبنَّى في أهداف مناهجها التتعليميَّة والتربويَّة العامة والخاصة سياسات لإعلاء مراميها الوطنيَّة وقيمها الثقافيَّة وخصال مجتمعاتها الدينيَّة. والعقيد الليبي معمَّر القذافي بمنهجه السياسي الذي كان يستند على فلسفة الكتاب الأخضر قد لا يتناسب مع بعض الأنظمة المنضوية تحت لواء الساحل والصحراء. فلو أن رؤساء وحكومات هذه الدول كانوا قد اقتنعوا بنظريَّة الكتاب الأخضر وسلكوا طريقه، ونهلوا من منهله، لكان قد توفِّرت قاعدة سياسيَّة مشتركة – أو على الأقل قاعدة ذات حد أدني – لتحقيق الهدف الذي نحن في أمره نجادل. لذلك – كذلك – يجدر الذكر هنا أنَّ معضلات تحقيق هذا الهدف كانت معقَّدة مما تخيَّله الذين ابتنوا هذه الفكرة.
مهما يكن من أمر، فيعتبر تجمع الساحل والصحراء من المشروعات الإقليميَّة التي بها حاول العقيد الليبي معمَّر القذافي أن يبسط نفوذه السياسي والاقتصادي والثقافي على إفريقيا. إذ كان العقيد يملك شهوة التدخل في أي مشكل داخلي أو إقليمي أو دولي، وكانت رؤيته دوماً هي أنَّه إذا لم يتدخَّل فسوف يتدخَّل آخرون. لذلك نجده – وعلى سبيل المثال لا الحصر – كان قد تدخَّل في النِّزاع التشادي، ثم أردف ذلك بتدخله في دارفور في الثمانينيَّات من القرن الميلادي المنصرم بما أسماه الفيلق الإسلامي كمحاولة منه لتعريب وأسلمة هذا الإقليم المتَّسع مستعيناً بالقبائل العربيَّة المتساكنة مع أهل البلد الأصلاء في هذه المنطقة، وفي هذه الرقعة الجغرافيَّة التي تغطي كل من السُّودان وتشاد والنيجر ومالي والكميرون. لذلك نرى أنَّ التجمع قد مات واندثر، وهذا عيب كل مشروع سياسي يرتبط ارتباطاً أيديولوجيَّاً بالأشخاص أكثر من الشعوب. فأي عمل يقوده شخص واحد لا بد من حدوث قطيعة في مسيرته بعد غياب ذلك الشخص، أو بعبارة أخرى إنَّ أي بناء تأسَّس على الأطراد المؤسَّسي للتنظيم فمآله الانقطاع والسقوط في مزبلة التأريخ، لأنَّه متى ما ذهبت هذه الشخوص انهار هذا الصرح لأنَّه شُيِّد على جرف هاوٍ.
الاشتراكيَّة الإفريقيَّة
إذ أنَّ لكل مجتمع قاعدة ثقافيَّة أو دينيَّة أو أخلاقيَّة ساعدت على تنميته ورفاهيته. فقد رسا نمو الرأسماليَّة الغربيَّة (البروتستانتيَّة) على التزهديَّة، والتي تعني الامتناع والتقشف وممارسة نظام ذاتي. فقد ساهمت تعاليم الداعية الألماني مارتن لوثر في فصل المجالات وفتح الفضاء أمام العلمانيَّة، والتي كانت تعني في عهده خدمة الله والتقرُّب إليه من خارج الكنيسة، أي بعيداً عن الكليروس، وإحداث منصب اللائيك الذي لا يختلف إطلاقاً في فضله وحوافزه عن منصب رجل الدِّين داخل المؤسَّسة الكنسيَّة وتراتبيَّتها. وكان الإصلاح الكبير الذي جاء به مارتن لوثر مفاده فصل الدِّيني عن الدنيوي، والبشري عن الإلهي، والمقدَّس عن الدَّهري. وفي عدد من الدِّيانات البروتستانتيَّة "كان المذهب اللَّوثري الكالفيني الإنغليكاني وتعاليم زويغلي وأرسموس بمثابة الدِّيانة الجديدة التي أخرجت العصر الوسيط الأوربي من مأزق تأريخي عويص إلى عالم حديث لا يحتكر الدِّين وحده من أجل تفسير ظواهر أخرى دينيَّة ودنيويَّة وميتافيزيقيَّة، بل يفسح المجال لسائر العوالم الأخرى من سياسة واقتصاد وفلسفة وعلم وتكنولوجيا وبيئة وفن وأدب ورياضة، من أجل الإدلاء بدلوها أيضاً في شؤون الإنسان والطبيعة والأخلاق."(16) ولعلَّ ذلك كله لأنَّ الإنجاز العظيم الذي تحقَّق على يد المصلح الألماني الكبير "قام منذ البداية على رهافة الحدس، ولوعة التعلُّق بالحقيقة، وصفاء الرُّوح، ونبل الأخلاق وصبر الرِّجال على مكاره الدَّهر وصروفه."(17)
هكذا تطوَّرت أوربا الغربيَّة في القرن السابع عشر كما وضعتها "البروتستانتيَّة التقشفيَّة". ومن هذه التوجيهات أنَّه ينبغي على الإنسان أن يكون له نداء في الحياة، وسيرة ذاتيَّة محدَّدة بحيث يسعى بإصرار وعقل أحادي لتحقيق مراميها. فالرَّب قد أمر الفرد أن يعمل لعظمته، والفلاح في تلبية النِّداء الذاتي للفرد يعني أنَّ الشخص لم يخسر عظمة الإله في نظره، واكتساب المال هو إشارة أكيدة لنجاح الشخص في تلبية ندائه. ثم ظهر قادة دينيُّون في إنكلترا – مثل جون ويسلي – الذي طفق يكتب قائلاً إنَّ الدِّين لينبغي بالضرورة أن ينتج الصناعة والتقشف، اللذان يستوجب أن لا ينتجا غير الثراء. علينا أن نحض كل المسيحيين أن يتحصَّلوا على ما يمكن الحصول عليه، وأنَّ يدخِّروا ما يمكن ادِّخاره، وهذا بالطبع سيصبحون أثرياء. ويجب أن لا يُنفَق هذا الثراء في الترف الفاخر، أو الملابس الأنيقة، أو المساكن العريقة، أو التسلية التافهة، ولكن في عظمة الرَّب. وعلى البروتستانتيين أن يتغلَّبوا على مضيعة الوقت والكسل والاغتتاب غير المجدي والنوم أكثر مما هو مطلوب (ست إلى ثمان ساعات في اليوم في الغالب). وعلى كل مسيحي أن يعبس عن الملذَّات الجنسيَّة، إذ أنَّ العلائق الجنسيَّة ينبغي أن تكون مقصورة على الزواج من أجل الإنجاب فقط، ويجب تناول الخضروات في الطعام والاستحمام بالماء البارد في بعض الأحايين لللتغلُّب على الإغراء.
أما الرياضة والابتكار فهما مقبولان فقط لتحسين اللياقة البدنيَّة والصحة العامة، وينبغي استهجانهما لئن هما مُورستا من أجل التسلية. أما التسلية الطاردة والإمتاع اللذان يستمتع بهما الشخص في الحانة أو المرقص أو المسرح أو بيت الألعاب فكانت كلها محرَّمة عند البروتستانتيين التقشفيين. كان هذا النداء الديني هو العامل الأعظم نفوذاً في ابتكار وتنمية روح وممارسة الرأسماليَّة في الغرب، وصار كسب المال أخلاقاً دينيَّة وتجاريَّة على حدٍ سواء. غير أنَّ هذه الدعوة الدِّينيَّة لم تكن هي الوحيدة في خلق وإرساء دعائم الرأسماليَّة في الغرب، بل كانت هناك ثمة عوامل أخرى.
بيد أنَّ هذه الدعوة الدِّينيَّة-الرأسماليَّة قد حملت في ثناياها بذور الفناء. ونحن لا نعني بالفناء هنا المعنى الحرفي للكلمة، ولكن المقصود هنا هو انتفاء الرُّوح الدِّينيَّة الخالصة، والقيم الأخلاقيَّة في بعض الأحايين من هذه المحدَّدات الرأسماليَّة، وبات الأمر كله كيفيًّة الحصول على المال بكل السبل بما فيه استغلال الناس كما حدث في عهد الاسترقاق. إذ خلق هذا السعي الحثيث في اكتناز المال نوعاً من استغلال الأغنياء للفقراء والدولة للعمال، ونشأت طبقة من الأثرياء وأخرى من الكادحين مع وجود طبقة وسطى في بعض المجتمعات. ففيما سعى النِّظام الاشتراكي أو الشُّيوعي في إزالة الرأسماليَّة وحل محلها بالاشتراكيَّة حتى يتساوى الناس، طبَّقت الرأسمالية مفهوم دولة الرفاه، ومُنِح الفقراء والعاطلين عن العمل والمعاقين ذوي العاهات والعجزة وأولياء أمور الأطفال مساعدات ماليَّة وإعفاءات ضرائبيَّة وخدمات علاجيَّة مجانية لتقريب الفجوة بين الذين يملكون وأولئك الذين لا يملكون.(18) بيد أنَّ الرأسماليَّة الصناعيَّة في القرن التاسع عشر الميلادي قد اغتربت الإنسان العامل ليس عن الأشياء التي صنعها بكدِّه فحسب، بل عمَّا هو طبيعي للبشر وعن بقيَّة الطبيعة وعالم الإحساس الجامد.
وحين نتحدَّث عن واقع الاشتراكيَّة الإفريقيَّة فإنَّه لمن الأجدر أن نلم إلماماً كثيراً بأفكار الكاتب النيجيري الأب بيدي أونوها. كانت لأونوها طرائق جديدة في النَّظر إلى الاشتراكيَّة في نهجها الإفريقي، وقد قدَّم مساهمة بارعة في الجدال حول الآراء الإفريقيَّة السياسيَّة المعاصرة. إذ شرع الأب أونوها في البحث عن وسائل تحسين أوضاع صورة الإنسان الإفريقي المتمثِّلة في الهيكل الأسود لشخص جائع وعاري ومريض ومُحبط، أي الحال دون الإنسانيَّة التي فيها يعيش الأفارقة اليوم، وذلك (بالتخطيط) بفحص المؤسَّسات الهامة في حياة الإفريقي في مجتمع القرية والنقابة والحزب السياسي والمدرسة والسوق. لقد قدَّم أونوها تعريفاً للحياة في كل هذه المجالات، التي تصون القيم الفرديَّة دون استجلاب الدَّمار إلى إفريقيا، حتى نتجنبَّ بعض أنماط المعايير التي قد تقود إلى الخراب كما نجده في بعض النُّظم الغربيَّة. إذ أنَّ تنظيره كان وسيلة للوصول إلى الغاية، وكانت خلاصاته عمليَّة ومحكومة بالحركة التعاونيَّة، التي صُمِّمت لتغيير الأحوال السالبة. وقد وصف الرئيس السنغالي الرَّاحل ليبولد سينغور (1906-2001م) هذا المجتمع الإفريقي السياسي ب"مجتمع الأفئدة"، ونعته كتَّاب آخرون بالحمية التقليديَّة والتضامنيَّة والمجتمعيَّة والإنسانيَّة. إذ أنَّ مبادئ تنظيم المجتمع في مفهوم الاشتراكيَّة الإفريقيَّة تقوم على رابطة الإخوة والقيادة والحوار والتنمية التخطيطيَّة والوئام والذاتيَّة والحياد الإيجابي وعموم الإنسانيَّة.(19)
ومن هذا المنطلق برز الرئيس التنزاني الرَّاحل جوليوس نايريري يتحدَّث عن الإنسان الإفريقي بأنَّه ليس بشيوعي، لكنه مجتمعي في تفكيره وطريقة حياته. ومن هنا أتي نايريري ب"أوجاما" كفكر وسياسة. و"أوجاما" كلمة سواحيلَّة تعني المجتمعيَّة القربويَّة التقليديَّة، التي توجد في كثرٍ من المجتمعات الإفريقيَّة الرِّيفيَّة مع بعض الاختلافات من مجتمع إلى آخر. ولعلَّ أصلها يعود إلى الكلمة العربيَّة "جماعة". أيَّاً كان من أمر، فحين أعلن نايريري عن فكره السياسي في الاشتراكيَّة التنزانيَّة من منظور "أوجاما" كان يحمل مفهوماً تقليديَّاً، وما أن تطوَّر هذا الفكر بمرور السنوات، وتمَّت ترجمته إلى سياسات عمليَّة، حتى اختفت من هذه الإشارات السمة التقليديَّة للمفهوم، وباتت "أوجاما" حالياً تُفهم على أنَّها الفكر والسياسة الإشتراكيَّة التنزانيَّة المعاصرة، مع التوكيد على الإنتاج الجماعي تحت إدارة الدولة. إذ لم يقتصر أثر هذه السياسة التنزانيَّة في تنزانيا وشعبها فحسب، بل امتدَّ نفوذها في الدول المجاورة لها مثل الموزمبيق وزامبيا وعلى نحو ما أنجولا، والتي حاولت أن تطبِّق بعض مظاهر التجربة التنزانيَّة. فالمظهر الأساس في الاشتركيَّة التنزانيَّة هو التركيز الشديد على التنمية الاشتراكيَّة الرِّيفيَّة كأساس للتنمية الاقتصاديَّة في الدولة. وقد شهدت الخطة الخمسيَّة (1969-1974م) أول مرحلة في تطبيق سياسة "أوجاما"، وذلك حين تمَّ استنفار المزارعين لتأسيس مشاريع اقتصاديَّة جماعيَّة في المناطق الرِّيفيَّة، ونال هذا الاستنفار أولويَّة قصوى من قبل الحكومة التنزانيَّة والحزب الحاكم الوحيد "تانو". وفي العام 1973م انتقل التركيز إلى الاستيطان الإلزامي الجماعي لكافة سكان الرِّيف في تنزانيا وتكوين قرى جديدة لتبدأ مرحلة أمست تُعرف بالاشتراكيَّة التنزانيَّة في القرى، أو السبيل التنزاني نحو الاشتراكيَّة، أو السياسة الاشتراكيَّة من خلال التنمية الرِّيفيَّة.
على أيَّة حال، فقد رسا فكر السياسة الاشتراكيَّة في القرى التنزانيَّة على مبدأ إلغاء استغلال الإنسان للإنسان، واعتراف الفرد بحق الآخر في المشاركة الماديَّة العادلة والفوائد الاجتماعيَّة في المجتمع، وواجب التعاون والمساهمة بخدماتهم في سبيل اختلاق هذه الفوائد. أي – باختصار شديد – اعتماد مبادئ المساواة والحريَّة والوحدة وسط الإنسانيَّة. ولكن من غير أن يكون هناك "سلوك اشتراكي في العقل" تمسي السياسة الاشتراكيَّة من خلال التنمية الرِّيفيَّة في تنزانيا دون جدوى. بيد أنَّه كان لهذه الاشتراكيَّة الرِّيفيَّة ثلاثة أشراط:(20)
(1) بعد الفترة الإعداديَّة ينبغي على هذه المجتمعات الجديدة أن تظهر نوعاً من المقدرة على أن تصبح عمليَّاً اجتماعيَّة واقتصاديَّة.
(2) ينبغي أن تكون هناك إشارات – حتى ولئن كانت ضعيفة – لنقلة في اقتصاد القرية نحو أكثر السبل في النَّظام التعاوني في الإنتاج، والتوزيع العادل في الفوائد، واستخدام مراحل اقتصاديَّة في تبنِّي المناهج الجديدة والتنويع والتخصص في الإنتاج.
(3) لتجنُّب الاحتراك الاعتسافي يستوجب على القرية التي في طريقها إلى الاشتراكيَّة الرِّيفيَّة أن تؤسِّس باكراً اللوائح الدِّيمقراطيَّة والمشاركة الفعليَّة للقرويين في التخطيط والتنظيم والتعاون في كل مجالات الحياة اليوميَّة والتنمية المستقبليَّة لمجتمعهم.
وفي إعلان أروشا – أو بالأحرى قرارات أروشا – العام 1967م، وذلك في المؤتمر الذي عُقِد تحت شعار "الاشتراكيَّة والاعتماد على النفس"، تمَّ تعريف الاشتراكيَّة بأنَّها حريَّة تطبيق المشاريع التنمويَّة دون الاعتماد على المساعدات من الدولة أو الخارج. وقد تمَّ تسخير هذه الاشتراكيَّة في كثرٍ من المعاني، ومُنِحت معنى إيجابيَّاً في الإدارة القوميَّة على القوى المسيطرة على الاقتصاد. وكذلك تمَّ استخدام الاشتراكيَّة في مكافحة بعض الملامح الاجتماعيَّة الضارَّة السائدة آنذاك في المجتمع التنزاني: الاستغلال والفساد والتراتيب الطبقيَّة في المجتمع. ثمَّ كانت هناك ثمة ورقتان عن التعليم من أجل الاعتماد على النفس، والاشتراكيَّة والتنمية الرِّيفيَّة. ففي الورقة الأولى تمَّ الإقرار على أن تتم مراجعة مناهج المدارس الأوليَّة حتى تحتوي على التدريب على الزراعة والخبرات الحرفيَّة التي قد تجعل الأغلبيَّة العظمي من الطلاب الذين لا يستطيعون مواصلة تعليمهم أن يجدوا الاستخدام في المدن. أما في الورقة الثانية عن الاشتراكيَّة والتنية الرِّيفيَّة فكانت تهدف إلى خلق – على الأقل – جزر اشتراكيَّة في بحر رأسمالي عدائي.
بيد أنَّ الورقة التعليميَّة لم تنل قبولاً واسعاً، حيث كان الآباء والمعلِّمون لا يرون فلاحاً حقيقيَّاً في المناطق الرِّيفيَّة، وأنَّ التعليم كان هو السبيل الوحيد لضمان الأمن الاجتماعي والوظيفة ذات الراتب السخي. ثمَّ لم يكن هناك ما يمكن أن يفعله الرئيس أو الوزراء للتوكيد على أنَّ الاشتراكيَّة الرِّيفيَّة سوف تكون أكثر فعاليَّة من زراعة المزارعين في مجتمعاتهم، أو أنَّهم أوجدوا وسيلة للتعاون الفعَّال، وإنَّهم بقادرين على حل مشكلات النظام في العمل. أما ميثاق القيادة فلم يتم تطبيقه على الوجه الأكمل كما رغب كاتبوه.
ومن بعد، ظهرت أربع أوراق بعد العام 1967م، وكانت الأولى عن الخيار العقلاني في اختيار الاشتراكيَّة بدلاً عن الرأسماليَّة، والثانية عن الحريَّة والدِّيمقراطيَّة التي تسمح للسكان أن يقرِّروا بمحض إرادتهم كلهم أجمعون أكتعون أن يسكنوا في جماعة، ويعملوا في جماعة للمصلحة المشتركة، والثالثة عن مراشد الحزب للعام 1971م، والرابعة عن العشر سنوات بعد إعلان أروشا، والتي أقرَّت بالصعوبات التي واجهت السياسة الاشتراكيَّة في التنمية الرِّيفيَّة، ومن ثمَّ ذكر نايريري الخمسة إنجازات التي تحقَّقت في الفترة ما بين (1967-1977م) وهي:
(1) التغيير في اتجاه التنمية القوميَّة، حيث أمست الموارد يتم توجيهها نحو احتياجات الأمة وشعبها، عكس المفهوم السائد في وجود مجتمع به أقليَّة غنيَّة وأغلبيَّة فقيرة.
(2) نمو بعض من السلوك الهام في التنمية الاشتراكيَّة، وبخاصة الإقرار العام بأنَّه من الخطأ بمكان أن تصبح أقليَّة غنيَّة وتبقى الأغلبيَّة فقراء، وأنَّ واحداً من الأهداف الرئيسة للتنمية للاقتصاديَّة هو توفير الخدمات الأساسيَّة للمواطنين.
(3) تأسيس كثرٍ من المؤسَّسات والإستراتيجيَّات الهامة لتقدُّم الاشتراكيَّة.
(4) التقدُّم العقلاني الجيِّد في توفير الصحة الأساسيَّة والتعليم ووسائل النقل لكل السكان في الدولة.
(5) المساهمة القوميَّة المستمرَّة في النِّضال من أجل الحريَّة في إفريقيا الجنوبيَّة.
ففي خلاصة الأمر لم تتقبَّل الطبقة الحاكمة التنزانيَّة كل ما قاله أو كتبه نايريري. إذ أنَّ بعضاً من هذه الأفكار قد تمَّ قبولها في حينها، ولكن سرعان ما تمَّ هجرها – فعلى سبيل المثال – حظر استخدام العنف الذي كان يتعارض مع فكر الحريَّة والتنمية، أو حق العمال في التعريض بالمدراء غير المسؤولين كما جاء في مراشد الحزب. غير أنَّ فكر مراشد الحزب قد تمَّ استخدامه بواسطة الطبقات المضطهدة ضد المدراء المتغطرسين الاعتسافيين، وكثُرت الاعتصامات. فالفكر الذي جاء لتخليص الناس من "البرجوازيَّة الصغيرة" سار نحو تكريس "البرجوازيَّة البيروقراطيَّة"، ووصل به الأمر إلى حد إيجاد "البرجوازيَّة العماليَّة". كما أنَّ الصعوبات الاقتصاديَّة قد حالت دون قيام الزراعة الجماعيَّة، حيث لم يستطع المزارعون استخدام هذا الفكر – أي الحريَّة والتنمية. ومن ثمَّ طفق التنزانيُّون يحلمون ويبحثون عن خيار ثالث، والذي بدا أنَّه مكوَّن من أنماط رأسماليَّة الدولة.(21)
خلاصة
في هذا العصر عصر الاستياء من السياسات المحليَّة والشؤون الخارجيَّة معاً أخذ الشعور العدائي ضد الأنظمة الحاكمة داخل الأوطان وفي العالم يسود، وبات هذا الشعور يمزِّق العلاقات الدوليَّة شر ممزق. وهذه الديناميات تغذِّي بعضها بعضاً. فالبحث عن سبل لمعالجتها يعد أمراً محوريَّاً إذا كان لا بدَّ من الدِّيمقراطيَّات أن تحمل في ثناياها أملاً لضمان الاستقرار والرفاه، وإيفاء أشراط البقاء. والتكافؤ بين الاستياء الداخلي المضطرم وبين السلوك الخارجي المضطرب هو الذي يميِّز عصرنا هذا. ويبدو هذا كأنَّ هناك ثمة سباقاً ينمو بين آمال الشعوب الفرديَّة من ناحية، والجهد الكفاحي للحكومات من ناحية أخرى، ومجابهة المؤسسات الوطنيَّة أو الإقليميَّة أو الدوليَّة من ناحية ثالثة.
ففي مؤتمر "لينارت ميري" الذي عقد في ربيع العام 2016م في العاصمة الإيستونيَّة تالين، والذي جمع مشاركين من طرفي المحيط الأطلسي، تركَّز أغلب النقاش حول "حلم أوربا في أن تكون حرَّة كليَّة"، وذلك بعد أن أدركوا أنَّ هذا الحلم قد شرع في الاضمحلال، وشرع المشاركون يتساءلون كيف يمكن أن يؤثِّر هذا على الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي. وكأحد الخيارات الناجعة اقترح المشاركون في مؤتمر تالين أن يشرع مسؤولو الاتحاد الأوربي في عقد اجتماعات مع المواطنين في مجالس المدن على مستوى القارة ليست للدول فحسب، بل لكي تشارك فيها المنظَّمات غير الحكوميَّة والمواطنون، الذين ينبغي أن يكون لهم رأي ورؤية في حوارات مفتوحة وشفَّافة. ويمكن تطبيق هذا الأنموذج في المنظَّمات الإقليميَّة الإفريقيَّة، حتى تسود فيها مشاركة فاعلة من قبل المواطنين ومنظَّمات المجتمع المدني والشباب والمرأة والمزارعين والرعاة وغيرهم. وفي أيار (مايو) 2016م عُقد اجتماعاً حول حكم العولمة في العاصمة البريطانيَّة لندن، وقد اعتبر هذا الاجتماع ركيزة هامة، حيث شارك فيه بريطانيُّون وأوربيُّون آخرون، وكان السؤال المحوري الذي أخذ يتردَّد على ألسنة المشاركين في هذا الاجتماع هو كيف يمكن إعادة شرعيَّة المؤسسات الدوليَّة؟(22)